البنية التحتية.. تفادي أخطاء الماضي

من بين ما يسترعي انتباه الزائر لمعظم الدول الأوروبية مستوى أداء شبكات البنية التحتية سواء منها تلك التي تعنى بتصريف مياه الأمطار، الصرف الصحي، توزيع المياه النقية أو غيرها. ونفس القول يمكن إطلاقه على شبكات الطرق، الكباري، والأنفاق. ولعل وجه الإعجاب بتلك المرافق لا يكمن في فعاليتها وجاهزيتها الدائمة أو قلة أعطالها فحسب بل في أعمارها التي يزيد بعضها على قرنين أو أكثر من الزمن، وكذلك في انتشارها في كل مكان تقريبا سواء كان ذلك المكان على قمم الجبال أو في قرية نائية لم يسمع بها أحد من قبل سوى سكانها.
تلك المستويات العالية من الكفاية في شبكات الخدمات العامة وانتشارها ساهم في تمكين اقتصاد تلك المجتمعات من تحقيق معدلات إنتاجية مميزة ما رفع مستوى معيشة أفرادها وبالتالي قدرتهم على الإبداع والمشاركة في مسيرة الحضارة الإنسانية.
بالطبع هناك عناصر عدة تضافرت و تناغمت في بناء تلك المنظومة من الشبكات، والحفاظ عليها في حالة تشغيلية جيدة على مدى عقود من الزمن. من بين أهم تلك العناصر ما توليه تلك المجتمعات ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية على كل المستويات من أولوية مطلقة لواجب الإنفاق على متطلبات الصيانة الوقائية والشاملة للمرافق العامة، وهو سلوك نفتقده، بكل أسف، في بيئتنا العربية.
في المشهد المحلي لدينا تجربة تستحق الإشارة إليها. إذ قبل نحو 30 عاما، ضمن برامج خطتي التنمية الثانية والثالثة، أنفقت المملكة مبالغ طائلة على بناء مشاريع عملاقة لتأسيس بنية تحتية قادرة على مواكبة النمو الهائل والمفاجئ في الاقتصاد الوطني إثر الزيادة الكبيرة في أسعار النفط آنذاك. تلك المشاريع حققت نجاحات نالت إعجاب المراقبين في الداخل والخارج، وهو ما يشهد به كل من عاصر تلك الحقبة القريبة من تاريخ المملكة. غير أننا عندما نلتفت اليوم إلى الوراء، لا بد أن يخالج البعض منا شعور بالأسف للدور الثانوي الذي أُسند لبرامج الصيانة ضمن تلك النفقات. ذلك أن ما حصل من تهميش لمخصصات الصيانة وعدم تطوير آلياتها أدى إلى خسائر رأسمالية، لا يستهان بها، تمثلت في هلاك نسبة كبيرة من المرافق العامة والبنية التحتية قبل أوانها. كما أن البعض الآخر من تلك المنشآت تدهورت حالتها بإيقاع سريع ما جعلها عديمة الفائدة وغير صالحة للاستعمال قبل أن تبلغ عمرها الافتراضي، وهو ما فوت على الاقتصاد الوطني عدداً لا بأس به من الفرص الاستثمارية الواعدة التي ذهب بها أصحابها على مضض إلى أسواق مجاورة.
اليوم هناك حزمة جديدة من المشروعات العملاقة في المملكة التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لإعادة بناء البنية التحتية وتوسعتها على نحو غير مسبوق. تلك المشروعات تنفق عليها الحكومة بسخاء عندما خصصت لها المليارات من الريالات وهي فرصة قد لا تتكرر. لذا بات من الضروري الحفاظ على ما نبنيه اليوم في حالة تشغيلية جيدة لأطول مدة ممكنة كي نترك للأجيال القادمة مدنا جديرة بالعيش فيها. ولعل الخطوة الأولى على تلك الطريق رصد مبالغ كافية للصيانة تتراوح في العادة بين 2 إلى 3 في المائة من تكلفة المشروع سنويا.
لكن الاعتماد على الخزينة العامة لتدبير تلك المبالغ بشكل مستدام قد لا يكون خيارًا متاحا في المستقبل. ومن ثم لا بد من التمهيد للخطوة الثانية وهي تبني رؤية جديدة في التعامل مع ملف صيانة المنشآت العامة تراعي المتغيرات المحتملة في مصادر التمويل، الحاجة الملحة لتوفير فرص عمل جديدة ومستقرة للمواطنين، والتطوير المتسارع في تقنية تلك المشروعات. ومن حسن الحظ أن هناك تجارب متعددة قائمة نجحت في التعامل مع ذلك الملف قد نجد فيها ضالتنا، لا سيما في بعض الدول الأوروبية.
في كل الأحوال نحن مقبلون على نقلة جديدة وشاملة في جميع مفاصل الاقتصاد الوطني. تلك النقلة لها استحقاقات مالية واجتماعية من الحكمة أن نبادر في الاستعداد لها من الآن. إذ قد يكون البعض من تلك الاستحقاقات ومفرداتها غير مألوفة للجيل الراهن، كالمشاركة في الحفاظ على البنى التحتية والمرافق العامة بحسبانها ثروة عامة لكل الوطن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي