Author

أبعاد النموذج الاقتصادي السعودي (2 من 3)

|
إكمالاً لمقالي السابق عن أبعاد النموذج الاقتصادي السعودي، فإن من أبرز الأنماط الاقتصادية الشائعة في الدول النامية مثل دول أمريكا اللاتينية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا ودول الشرق الأوسط، نمط رأسمالية القلة المسيطرة، حيث تطغى مصالح فئة من الناس على الآخرين، وتستأثر تلك الفئة بالفرص، وتؤثر في القرار التنموي بوضوح. ولكونها محدودة جداً فهي تتحالف مع صناع القرار السياسي في علاقة يسودها الفساد وتسيرها المصالح الفردية الضيقة. وتظهر آثارها ببروز الطبقية وتفاوت الدخل بين الفئات الوطنية، إضافة إلى انتشار الأنشطة الاقتصادية الخفية المتعارضة مع الأنظمة والقوانين. ولا يبعد عن هذا النمط سلبية النمط الثالث، وهو رأسمالية الشركات الكبيرة من حيث الاحتكار والاستئثار بالدعم والرعاية، مقابل التقصير الكبير في تشجيع الابتكار والتطوير ورعاية الموهبة ودعم الاختراع. بل إن الدراسات الإحصائية الحديثة أوضحت أن المنشآت الصغيرة تنتج أضعاف ما تنتجه الشركات الكبرى من أفكار إبداعية وابتكارات حديثة. كما أن العائد على التكلفة لابتكارات المنشآت الصغيرة يزيد بمقدار الضعف على ذلك العائد من ابتكارات الشركات الكبرى. وفي بحث استقرائي قمت به مع مجموعة من الباحثين الدوليين بريادة الأعمال تبين لنا أن المنشآت الصغيرة أولى أن تكون المحرك الحقيقي لنمو الاقتصاد العالمي من الشركات الكبيرة. كما أن الشركات الكبيرة ليست صمام الأمان للاقتصاد الوطني، كما هو شائع. فقد ينقلب أثرها السلبي إلى ما هو أبعد من ذلك عندما تكون مرتكزة على دعم ورعاية الدولة. وشواهد ذلك حاضرة في سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث سقطت معه كبرى المصانع والشركات الحكومية العملاقة. وخسر الاتحاد السوفياتي نفوذه الإنتاجي الكبير في الأسواق العالمية. أما الصين فلتوافر ثقافة ريادة الأعمال واعتمادها على الصناعات الصغيرة والشركات الناشئة فقد استطاعت أن تكون من أكثر الدول استفادة من الانفتاح العالمي للأسواق. أما النمط الاقتصادي المرغوب، الذي أعتبره بعداً اقتصادياً مهما للنموذج السعودي للاقتصاد، فهو ما أطلق عليه بولمن وزملاؤه عام 2007، وكذلك الباحث أودريتش وزملاؤه عام 2010 برأسمالية ريادة الأعمال. وريادة الأعمال كما تعرفها جمعية ريادة الأعمال هي: إنشاء مشروع حر يتسم بالابتكار ويتصف بالمخاطرة، وقد ظهرت المناداة برأسمالية ريادة الأعمال بعد أن اقتنعت الدول المتقدمة قناعة واقعية بالأفكار التي طرحها شومبيتر منذ القرن التاسع عشر الميلادي ولم تر أفكاره القبول الشائع حتى بدايات هذا القرن الجديد. فلقد أدت ابتكارات وإبداعات رواد الأعمال إلى الرقي بمستوى المعيشة على مر العصور بدرجة لم يكن الناس يتصورونها، فبفضلهم ظهرت أعظم الابتكارات كالسيارات والطائرات والكهرباء والأدوية الطبية والترانزستور وأخيراً الإنترنت. تلك الابتكارات التي بدلت أسلوب حياة الناس وحسنت معيشتهم. وكي تنجح رأسمالية ريادة الأعمال فلا بد من مرتكزات بيئية عامة تعتبر شرطاً لنمو وتحقيق عوامل نجاح ريادة الأعمال في أي بلد ما. هذه الفرضيات للمرتكزات البيئية للمناخ المجتمعي العام أتت نتاج اجتماع عقد في ساندييجو في كاليفورنيا العام الحالي 2012 ضم أبرز المتخصصين في ريادة الأعمال في أمريكا وبعض دول أوروبا وآسيا وتشرفت أن كنت ممثلاً للشرق الأوسط في ذلك الاجتماع الفكري المهم. هذه المرتكزات تكمن في ثلاثة محاور رئيسة هي توافر المنافسة العادلة في السوق، وشيوع المناخ الديمقراطي، وانحصار البيروقراطية. فتوفير المنافسة العادلة يتطلب كثيراً من الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد، ومن ذلك تقنين الاعتماد على العمالة الأجنبية، فالمنافسة بين الشاب السعودي والعامل الأجنبي لا يمكن التغلب عليها بالتأهيل وبرامج تطوير المهارات، وخطط تنمية الموارد البشرية وحدها. لا بد أولاً من توفير بيئة السوق الملائمة لإثمار تلك الجهود وغيرها. فالعامل الأجنبي اليوم يستأثر بالمميزات التنافسية التي لا يتحملها الشاب السعودي في العمل الحر مهما تم تأهيله ودعمه مالياً ومعنوياً. لا بد أن تضع المملكة التدابير المرحلية كغيرها من الدول لبناء قواها الوطنية العاملة في ظروف أقل ضغطاً وتحديا، وأكثر تسهيلاً ومساندة. فقصر بعض الأنشطة ذات الأولوية على السعوديين فقط وتطبيقه بحزم واهتمام هو حق وطني مرحلي لا يتعارض مع مبادئ السوق الحر. ولنا أن نتصور كم من المنافع يمكن أن تحدث لو أننا ركزنا على ثلاثة أنشطة فقط لا يعمل فيها بحزم إلا السعوديون. تلك الأنشطة هي نشاط المكاتب السياحية وخدمات السفر ونشاط تأجير السيارات، ونشاط الصيدليات. وتميز هذه الأنشطة أن الحد منها وتقليل عددها وانتشارها لن يؤدي إلى تقلبات جوهرية على العرض والطلب في السوق. الصيدليات كما هو معمول به في أرقى دول العالم تقدماً تعتبر أعدادها محدودة وفي مواقع معروفة في المدينة وعبر ساعات عمل مناوبة لبعضها. وهو الحال الذي كنّا عليه في السابق. وكذلك الأمر بالنسبة لأنشطة المكاتب السياحية ووكالات السفر ومكاتب تأجير السيارات. وبحسب الإحصائيات التقديرية المنشورة في الصحف السعودية فإن عدد الصيدليات في المملكة بلغ نحو 5244 صيدلية، وعدد الصيادلة العاملين فيها أكثر من 12 ألف صيدلي 90 في المائة منهم غير سعوديين. ويعتبر التأهيل العلمي الجامعي لهم أقل كفاءة من مستوى الدبلوم في تعليمنا. أما تأجير السيارات فينتشر في السوق أسطول كبير يزيد على 150 ألف سيارة لعدد يزيد على 55 شركة تمتلك أكثر من ثلاثة آلاف فرع. وأخيراً فإن عدد المكاتب السياحية نحو 3800 مكتب خدمات سفر وسياحة، يمثل عدد العاملين فيها من غير السعوديين نحو 80 في المائة. فلنا أن نتصور كم من الوظائف المتوافر للسعوديين والسعوديات عبر هذه الأنشطة الثلاثة فقط. والمنافسة العادلة أيضاً تتطلب المساواة في تكافؤ الفرص للمنشآت الصغيرة بتلك المنشآت الكبيرة في التعاقدات والمناقصات الحكومية والخاصة، فالمناقصات الحكومية في هذه الحقبة هي أكبر محفز يمكن الاعتماد عليه في تعزيز كثير من الخطط التنموية المستقبلية. فما متاح اليوم من إنفاق حكومي ضخم يجب ألا ينظر إلى أثره المباشر في توفير البنى التحتية فقط، بل الواجب أن يتجاوز أثره إلى تعزيز توجهات التنمية المتوازنة وتحقيق أهداف النموذج الاقتصادي للبلاد. ولن تتحقق تلك المعادلة المتوازنة لتحقيق تكافؤ الفرص بين المنشآت الصغيرة والكبيرة من جانب وبين المنشآت ذاتها من جانب آخر إلا بالتنظيم والقرارات الحاسمة. أما شيوع المناخ الديمقراطي فهو مرتكز أساسي لتحسين البيئة المادية للنظام الاقتصادي ومنع تمركز السلطة بمختلف أنواعها وأشكالها. فاحتكار السلطة يخلق بين من يحتكرها ومن يفتقر إليها هوة واسعة وعميقة لا يتم تجسيرها إلا باللجوء إلى الممارسة غير المشروعة. فالفرص أمام الأجيال القادمة من رواد الأعمال لا بد أن تتحقق من الآن وننتقل من استصغار القدرات الشبابية إلى شحذ الهمم وبناء الثقة أمام جيل المستقبل. الاحتكار يسبب الترهل والبطالة المقنعة والتبلد الحسي والمعنوي للعمل. والاحتكار يقتل الطموح لدى الآخرين ويعزز الانهزام النفسي لدى الأفراد بعدم القدرة على الوصول إلى القمة، ويشعرهم بأنهم دوماً يقبعون بين أقدام المحتكرين. ومن خلال المناخ الديمقراطي يتم إذكاء وتعزيز البيئة الإيجابية في المشاركة باتخاذ القرار والشعور بالمسؤولية لنتائج تلك القرارات، بدلاً من التهرب من المسؤولية والانكفاء على النفس العاجزة والمستسلمة لمبدأ (ما أريكم إلا ما أرى). وتسهم الديمقراطية في كبح جماح الفئة الأقوى المستغلة للفرص في المنظمات والشركات والمجتمعات، وتحد من تبني القرارات الشاذة والمنحرفة عن الهدف الجماعي المنشود. وأخيراً تخول الديمقراطية المواطن للإنكار والتغيير والمساءلة والاعتراض على أي اعوجاج تنظيمي. ودون المناخ الديمقراطي لا يمكن أن يتطور النموذج الاقتصادي المنشود. وحينما نتحدث عن المناخ الديمقراطي فإننا لا نعني الديمقراطية فكراً وفلسفة، لكننا نعني في هذا المقال الجانب الإجرائي، والفرق بينهما كبير. فأما الجانب الأول فجسور التلاقي بينه وبين الفكر الإسلامي محل نظر، وأما الجانب الثاني فيصب في عمق جذور وأسس العدالة والمساواة والشورى. وهو مدار الحديث في هذا المقال المختصر.
إنشرها