الأمين الأميز في إدارة المدن السعودية

ما إن تُذكر إدارة المدن والإدارة المحلية السعودية على المستويين الأكاديمي والعملي، إلا ويبرز اسم الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف أمين منطقة الرياض السابق، كأحد الرواد المعاصرين الذين أسهموا في تشكيل هويتها وإعادة صياغة مفهومها من جديد في إطار واسع يحوي أدوارا ومهام تمس حياة الناس بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وبقراره ترك منصبه بعد عطاء مميز ولافت للنظر امتد نحو ما يقارب عقدا من الزمان وهو ما زال في أوج تألقه، ستفتقد إدارة المدن السعودية أحد النماذج القيادية المميزة في العمل البلدي ليس على المستوى العملي والمهني وحسب، لكن على المستوى الأكاديمي كرافد للحالات الدراسية والممارسات الإدارية المميزة وقدرته على تأطير التجربة وصياغتها بأسلوب يسهم في بناء نظرية إدارة المدن والإدارة المحلية السعودية. لقد جلب لإدارة المدن أسلوبه القيادي الذي يجمع بين الحزم والمرونة، والدقة والإبداع، والجرأة والإعداد، والفكر النير والمشاركة الجماعية، إضافة إلى تخصصه الأكاديمي في تخطيط وإدارة المدن دراسةً وتدريساً وبحثاً وممارسةً مهنية ليقدم أفكاراً إبداعية وقرارات تطويرية جريئة سخرت التنظيم البيروقراطي لخدمة الناس وحقق التوافق بين المصلحة العامة ومصالح الأفراد باتساق تام. هذا التوازن بين المصالح العامة والخاصة أمر مطلوب وضروري ويقع في صلب العمل البلدي، لأنه يتعامل مع جميع فئات المجتمع فتتعدد احتياجاتهم وتتنوع أنماط استهلاكهم، ولا يمكن للأنظمة والتشريعات مهما بلغت من الشمولية أن تحتوي جميع الحالات الفردية ومختلف الأوضاع الاجتماعية، وكان لا بد من النظر للحالات الطارئة والاستثنائية، إلا أنه في الوقت نفسه حرص على ألا يكون ذلك على حساب المصلحة الجماعية. لذا على الرغم من التحديات السياسية والعوائق الإدارية والضغوط الاجتماعية استطاع بما يملكه من دماثة خلق وتواضع جم وسعة أفق وخبرة وعلم ورغبة أكيدة في خدمة الناس أن يقدم حلولا كثيرة، وأن يقرب وجهات النظر ويضع صيغا توافقية تحقق مستوى من الرضا عند جميع الأطراف المستفيدين والمتداخلين في صناعة القرار البلدي. وظهر ذلك جليا عندما تولى رئاسة المجلس البلدي، ومن قبل ذلك إدارته بكل اقتدار عملية انتخابات المجالس البلدية، خاصة في دورتها الأولى في منطقة الرياض والجهود التي بذلها من أجل إنجاح العملية الانتخابية التي جرت لأول مرة في البلاد بعد فترة انقطاع طويلة. وعلى الرغم من أنه قيادي يملك نهجا ورؤية محددة لما ينبغي عمله، إلا أنه لم يستأثر بعملية صنع القرار في المجلس البلدي ولا في إدارته للأمانة وسعى في وضع إطار عام يتحرك فيه الجميع، لكن باتجاه محدد ورؤية مشتركة. لقد أثبتت تجربة مجلس بلدي مدينة الرياض، التي سارت بانسجام ونجاح في ظل الممكن، رؤيته التوافقية ونهجه التشاركي ودفعه نحو ما ينفع الناس ويحقق المصلحة العامة.
إن من أكبر التحديات التي تواجه القياديين المحليين المبدعين من أمثال الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف الذين يرغبون في إحداث التغيير والانتقال بالمجتمع المحلي إلى أوضاع أفضل هو إقحامهم في متاهة التعقيدات والنزاعات والصراعات البيروقراطية التي تحد من مدى رؤيتهم كقياديين وتحبط محاولات العمل بطريقة مختلفة تنفع الناس. كما أن نمطية العمل الإداري الحكومي واعتماده على تطبيق الإجراءات وتنفيذ السياسات وليس قياس الأداء والنتائج والتأثيرات النهائية يفقد القيادات المميزة الاعتراف بتميزها، والأسوأ أن تتم معاتبة المبدعين والمجتهدين لتجاوزهم الحدود الدنيا التي يقررها النظام! وربما كان هذا أحد أهم أسباب بطء عجلة التنمية المحلية وعدم تحقيق نتائج ملموسة على الرغم من الإنفاق السخي للدولة. وعلى الرغم من أن التنمية الاقتصادية المحلية تقع في صلب العمل البلدي، إلا إنه - مع الأسف - لم تأخذ حقها من الاهتمام، لذا وعلى الرغم من تفاوت حجم اقتصاديات المدن، إلا أن إداراتها لا تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي، وبالتالي لا تستفيد من العوائد المالية التي تتحقق من عملية تطوير اقتصادياتها وجهودها في جلب الاستثمارات وتحفيز المشروعات التنموية في داخلها. لقد كانت أحد مقترحات الأمير عبد العزيز بن عياف أن تُمنح الأمانات والمجالس البلدية صلاحية إدارية ومالية أوسع تمكنها من أداء أدوار أكثر حيوية تتعدى تقديم الخدمات البلدية التقليدية وتصب في اتجاه التنمية المحلية لمواجهة التحديات الحقيقية مثل البطالة والإسكان والنقل العام. من بين المقترحات التي قدمها في مجال التمويل العام، تخصيص نسبة من العمولة على العمليات العقارية التي تفوق الخمسة ملايين ريال لتكون رافدا ماليا تتم إعادة ضخة لمصلحة السكان. وبتحليل أعمق للمقترح نجد أنه في واقع الأمر آلية لإعادة توزيع الدخل المحلي وجعل الأكثر حظاً في المجتمع - وهم الأكثر استفادة اقتصادياً من الخدمات البلدية - يتحملون تكلفة الاستفادة من هذه الخدمات. كما أنه اقترح ربط التوسع بالمشاريع الاقتصادية في المدينة بتكلفة مراقبتها لضمان مسايرة الخدمات البلدية للتطور الاقتصادي كماً ونوعاً وجودةً. فعلى سبيل المثال الرقابة الصحية على المطاعم يمكن تغطية تكلفتها من خلال رسوم سنوية على المطاعم، وكلما زاد عدد المطاعم زاد العائد المالي، وبالتالي تتمكن البلديات من زيادة عدد المراقبين. هذا من شأنه أن يجعل البلديات أكثر استجابة للمستجدات، وفي الوقت نفسه يمنحها الاستقلالية في صنع القرارات المحلية، وهو أمر في غاية الأهمية.
لقد كان لأسلوبه الإنساني الراقي وذوقه المعماري الجمالي وحسه السياسي المرهف بصمة مميزة على تصميم المدينة في حدود المتاح، ليتمكن من تحويل العاصمة الرياض المدينة الضخمة التي تمتد على مساحة كبيرة يبلغ قطرها ما يقارب 100 كيلو متر أو يزيد بكثافة سكانية تبلغ ما يقارب ستة ملايين نسمة، إلى مدينة ممتعة للعيش وأكثر جاذبية وإنتاجية دون سلبيات المدن الضخمة. لقد تبنى نهج أنسنة مدينة الرياض، أي جعلها أكثر حيوية وصديقة لسكانها يأنسون للعيش فيها بتبني مشاريع وخدمات بلدية لم تعهد من قبل تستهدف الارتقاء بالصحة العامة والترويح السياحي والتنمية الثقافية والأنشطة الاجتماعية والرياضية والعمل التطوعي والفعاليات الجماعية في الأحياء، إضافة إلى تطوير كفاءة وفاعلية طريقة تقديم الخدمات البلدية التقليدية. فعلى سبيل المثال فكرة المماشي العامة هي من بنات أفكاره، وهو أول من طبقها لتنتشر بعد ذلك في باقي المدن السعودية، والقصد هنا الالتفات إلى الهدف منها والدافع من ورائها وهو تقديم خدمات مطلوبة في مجال الصحة والترفيه العام لم يكن الناس يستطيعون التعبير عنها، وهذه هي مهمة القيادة الناجحة في التعرف على احتياجات المجتمع وتحقيقها من خلال مشاريع إبداعية.
إن إسهامات الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف في مجال إدارة المدن أكبر وأعمق من أن تختزل في مقال، لكن هي إشارة لمناقب قيادي قدم الكثير للوطن يستحق التكريم والشكر والتقدير، خاصة من أهالي منطقة الرياض. وداع الأمير الأمين مقرون بأمنية أن يخوض تجربة أخرى من موقع آخر يخدم فيه الوطن، فالمجتمع في حاجة إلى قياديين وصناع قرار بحجم الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي