الطريق إلى «السعودة»

يبدو لي أن ''السعودة'' صارت من المواضيع المهمة في بلد الحرمين؛ لا يقتصر نقاشها على الإعلام السعودي أو منتديات الإنترنت أو المجالس الشخصية والعامة. الموضوع من الأهمية بمكان؛ حيث تتناوله وبجدية أعلى القيادات السياسية في البلد.
''والسعودة'' تعريفها سهل ولكن تطبيقها شائك ومعقد ويحتاج إلى بعد نظر وخطط مدروسة بعناية. وإن طُلب مني تعريفها فإنني أقول إنها أكبر تحد اقتصادي واجتماعي وثقافي تواجهه المملكة ومعها شقيقاتها الأخرى في الخليج العربي. والتحدي إما أن يكون بهذا الشكل أو لا يكون لأن ما يحدث في قطاع التشغيل - وهو أهم قطاع في الاقتصاد - يشير إلى وجود عمالة أجنبية تعدادها بالملايين، ويشير في الوقت نفسه إلى بطالة - بأشكالها المختلفة - يعانيها أهل البلد الأصليون.
''والسعودة'' ليست كما يتصور البعض عملية بسيطة، حيث يتم بموجبها إنهاء عقد العامل الأجنبي وتشغيل سعودي محله. إنها أكثر من ذلك بكثير. إنها عملية - إصلاح اقتصادي جذري - تتطلب كثيرا من التضحية في مراحل تطبيقها، ولكن ثمارها ستكون طيبة ووفيرة.
ولن أزيد خردلة إن اجتررت ما ينشره الإعلام عن هذا الموضوع الحساس والمصيري - أقول مصيري لأن وضع العمالة كما هو نذير شؤم قد لا يحسه الكثيرون الآن لتداخل واشتباك المصالح السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية إلا أن عواقبه وخيمة لا محالة إن لم يتم تداركها. لذا سأحاول - من خلال خبرتي المتواضعة - تقديم بعض الاقتراحات في هذا العمود، عسى ولعل أن يرى فيها أصحاب الشأن بعض الفائدة.
وأنا باحث أستعين كثيرا بفلسفة المقارنة والمقاربة كي أفهم الدنيا وما حولي. ولفهم وإدراك واستيعاب مسألة أو مشكلة لا بد من دراسة أسبابها ونتائجها وكيفية نشوئها ومقاربتها ومقارنتها إن كنا حقا جادين في تقديم حلول ناجعة لها.
وللنظر سوية إلى سوق العمالة في دول شمال أوروبا - إسكندنافيا (النرويج والدنمارك والسويد زائدا فنلندا) - وهذه ليست أول مرة أجري مقارنة مع هذه الدول التي تتربع على قمة الحضارة الإنسانية الحديثة. إن استشهادي بهذه الدول ينبع من قناعة شخصية بأن المملكة وشقيقاتها الخليجيات بإمكانهم الاستفادة كثيرا من تجربة هذه الدول في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمالة والصحة والصناعة والإعلام والتربية والتعليم وغيرها من الأمور ومن ضمنها الحياة السياسية، مع الاحتفاظ بخصوصيتهم الثقافية والدينية واللغوية.
المملكة وشقيقاتها لها من المقومات البشرية والمالية ما يمكنها من التقدم بجرأة وشجاعة على ذات الطريق الذي أوصل هذه الدول إلى القمة. المسيرة ستكون طويلة وليست سهلة على الإطلاق ولكنها ممكنة التحقيق، والألم الذي يرافقها سيكون وراءه فرج كبير.
عدد سكان الدول الأربع يبلغ نحو عدد سكان المملكة. لكن الطبقة العاملة فيها طبقة منتجة لأن الدخل الوطني يعتمد أساسا على الإنتاج الوطني. بمعنى آخر أن كل عامل يساهم في الدخل الوطني من خلال مساهمته في إنتاج خدمة أو بضاعة محددة للتصدير أو الاستهلاك الداخلي. هؤلاء ينتجون ما تبلغ قيمته بسعر الصرف الحالي نحو 1.2 تريليون دولار في السنة. المملكة بعدد سكانها الحالي (مع الأجانب) تنتج ما قيمته نحو 571 مليار دولار بسعر الصرف الحالي.
وهناك فروقات تركيبية لا يجوز تجاوزها عند مقارنة الدخل. في الحالة الأولى كل القادرين على العمل تقريبا لهم نشاط إنتاجي. في الحالة الثانية أغلبية القادرين على العمل لا نشاط إنتاجي لهم لأن الدخل يعتمد أساسا على سلعة واحدة وأغلبه ريعي غير إنتاجي مجرد توكيلات تجارية لشركات أو عمالة أجنبية.
في الحالة الأولى الاعتماد على العمالة الأجنبية شبه معدوم. في الحالة الثانية هناك نحو ستة ملايين عامل أجنبي، أي أكثر من سكان النرويج الذين وحدهم ينتجون ما قيمته 479 مليار دولار في السنة.
ألا تستحق هذه المعطيات أن يستفيق الكل انطلاقا من مسؤولية وطنية مشتركة لتصحيح هذا الخلل الكبير في التركيبة الاقتصادية؟
وإلى اللقاء،،،

المزيد من الرأي