مشروعية العمل بالحساب في العبادات

مشروعية العمل بالحساب في العبادات

عند الحديث عن (الحساب) واستعماله في إثبات الشهور القمرية يسارع البعض إلى نفيه جملةً وتفصيلاً، بل والجزم بخطئه ومخالفته للشرع، وتبديع الأخذ به، مع تحميلٍ للنصوص الشرعية ما لا تحتمل، وإخراجها عن سياقها الذي وردت فيه، مع أنَّ الحساب أنواعٌ متعدَّدة، ولا غنى للمسلم عنه في شتى العبادات، وغالبية من يسارعون لنفي الحساب في إثبات الشهور القمرية يأخذون به بشكلٍ أو آخر في مختلف العبادات. وبداية: هذه إشارات إلى الأخذ بالحساب في مختلف العبادات : ## 1- معرفة أوقات الصلاة اليومية : حدَّد الشارع مواعيد أداء الصلاة اليومية بناءً على حركة الشمس وتنقلها بين طلوع الفجر ثم الشروق ثم الزوال ثم الغروب، فأمكن لعلماء الفلك تحديد هذه الأوقات بدقة عالية ولسنوات طويلة؛ بناءً على الملاحظة والمتابعة المستمرة، بحيث أصبح يمكن معرفة دخول أوقات الصلاة من غير حاجة لمتابعة حركة الشمس وقياسها عند وقت كل صلاة، وإدراجها في تقاويم ورقية أو إلكترونية. وقد تلقى الفقهاء هذه القياسات بالقبول، وأوجبوا العمل بأداء العبادات من صلاةٍ وصومٍ وإفطارٍ عليها دون نكير، وهي عبارةٌ عن حسابات فلكيةٍ بحتة. ## 2 - معرفة مواعيد النهي عن الصلاة وإباحتها : وفي مقابل تحديد أوقات لأداء الصلاة: كذلك حَّد الشارع أوقاتًا مَنَعَ من أداء الصلاة فيها، فَعَنْ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِىُّ رضي اللهُ عَنْه أنَّ سأل الرسول رضي الله عنه: خْبِّرْنِى عَنِ الصَّلاَةِ؟ قَالَ: صَلِّ صَلاَةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى تَرْتَفِعَ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَىْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَىْءُ فَصَلِّ فَإِنَّ الصَّلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّىَ الْعَصْرَ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَىْ شَيْطَانٍ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ) رواه مسلم. ويترتَّب على هذا النهي معرفة أوقات أداء صلاة النافلة، وكلٍ من صلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الجمعة. ## 3 - معرفة أوقات الصلاة في البلاد العالية : علَّق الشارع معرفة أوقات الصلاة على مراقبة ورؤية حركة الشمس، لكن يحدث في بعض البلدان أن تضطرب حركة شروق الشمس وغروبها، فكانت فتاوى أهل العلم بضبط أوقات الصلاة بالقياسِ على البلدان المعتدلة حسب خطوط الطول والعرض، وهذا من الحساب المعتمد على حسابات فلكية دقيقة تتسم بالديمومة والانتظام. ## 4 - معرفة بدء موعد الصوم اليومي في البلاد العالية : يبدأ موعد الصيام اليومي بطلوع الفجر، وينتهي بغروب الشمس، أما إذا كانت حركة الشمس تضطرب في بعض البلدان بحيث تختفي _أو تتداخل_ فلا يمكن تحديد أوقات بدء الصيام وانتهاؤه اعتمادًا على متابعة ورؤية حركة الشمس. فيكون تحديد ذلك بالطريقة نفسها التي يتم فيها تحديد أوقات الصلاة السابق ذكرها. ## 5 - معرفة الجهات لاستقبال الكعبة : فمن شروط صحة الصلاة: التَّوجُّه للقبلة، وقد كانت معرفة القبلة في القديم تتم عبر طرق ووسائل قد لا تكون دقيقة بالشكل المطلوب، كمعرفة الاتجاه بشكلٍ عام، أو لعدم قدرة بعض الناس على معرفة الاتجاه الدقيق للقبلة، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ) رواه الترمذي وابن ماجه، فمن لم يتمكَّن من ضبط القبلة بشكلٍ صحيح، فلا يضره الانحراف عنها، بل يكفيه التوجه لما يترجَّح لديه أنَّه اتجاه القبلة. ثم تطوَّر العلم بعد ذلك واكتشفت وسائل تحديد الاتجاهات من بوصلة، وخرائط ووسائل أخرى غاية في الدقة والإتقان، فلا يكفي في هذه الحالة الاعتماد على تحديد القبلة بناءً على الاتجاه العام، وإنَّما يجب العمل بما توصَّل إليه هذا العلم من تحديدٍ دقيقٍ لاتجاه الكعبة، وفتوى الفقهاء على وجوب الأخذ بهذه الأدوات الحديثة في تحديدها، ومن ثم بطلان صلاة من لم يتوجَّه للقبلة الصحيحة. وليس في الأخذ بهذه الحسابات الدقيقة تعطيلٌ لحديث (مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ)، بل العمل به باقٍ في حالة عدم وجود الوسائل المعينة للتوصل للقبلة، أو عدم القدرة على التوصل للقبلة الصحيحة، أما الأخذ بالوسائل الحسابية الدقيقة فهو عمل ببقية النصوص التي تُوجب التوجه للقبلة كقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: 144]. ## 6 - معرفة مواقيت الحج المكانية في المناطق التي ليس فيها مواقيت : وقَّت الرسول صلى الله عليه وسلم لمن أرادَ أن يحرم للحج أو العمرة مواقيت مكانية لا يجوز له أن يتجاوزها إلا بإحرام، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما قَالَ: (وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ الْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ: الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ. قَالَ: فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَا فَكَذَلِكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا) متفق عليه. لكن إن لم يكن في طريقه ميقات ؟ عُرضت هذه المشكلة على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب _رضي الله عنه، فحكم فيها بالقياس، فَعَنْ عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: لما فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ [أي البصرة والكوفة]، أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين: إِنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهلِ نَجدٍ قَرْنًا، وُهوَ جَوْرٌ عَن طَريقِنا [أي بعيدةٌ عنه]، وإنَّا إن أرَدْنا أنْ نَأتيَ قَرْنا شَقَّ علينا؟ قال: فْانظُروا حَذْوَها من طريقكم، فَحَدَّ لهم ذاتَ عِرْقٍ) رواه البخاري. ولم يكن عمر رضي الله عنه يعلم عن تحديد الرسول صلى الله عليه وسلم لميقات ذات عرق، فاجتهدَ فوافق النص، وقَبِل الصحابةُ - رضي الله عنهم - اجتهاده، ثم كانت الفتوى على أنَّ من مرَّ من طريقٍ ليس فيها ميقات: فيُحرم إذا حاذى أقرب المواقيت منه. والعمل بالمحاذاة هو عين الحساب؛ لارتباطه بالقياس، وبمعرفة خطوط الطول والعرض. فيظهر من جميع ما سبق : أنَّ الفقهاء قد أخذوا بالحساب - ومنه الحساب الفلكي - في مختلف العبادات دون نكير، مما يدل على أنَّ الحساب - بشكلٍ عام - ليس مبتدعًا في الدين أو طارئ عليه، بل هو أصلٌ في كيفية أداء العبادات وشروطها.
إنشرها

أضف تعليق