وقفات مع بعض التقاويم التي تعتمد تحديد مكان لبدء الشهر القمري

وقفات مع بعض التقاويم التي تعتمد تحديد مكان لبدء الشهر القمري

سبقت الإشارة إلى التقاويم الحديثة تأخذ بفكرة الاعتماد على مكان محدد لبدء الشهر القمري، وهو خلاف الصحيح، وفيما يلي استعراض لأهم هذه التقاويم العالمية: ## أولاً: تقويم أم القرى: ذهب العديد من الباحثين إلى اقتراح أن يكون خط مكة المكرمة هو خط بدء الشهر الهجري، من أهمهم: لجنة التَّقويم الهجري الموحَّد في دورتها الثامنة عام 1419هـ - 1998م، وهو ما استقر عليه العمل في تقويم أم القرى، والأسس التي يعتمد عليها هذا التقويم: 1 - اعتماد إحداثيات الكعبة المشرفة (خطوط الطول والعرض) أساسًا لهذا التقويم. 2 - الأخذ بشروط دخول الشهر القمري من: حدوث الاقتران قبل غروب الشمس في مكة المكرمة، ثم حدوث الإهلال، ثم غروب القمر بعد غروب الشمس في مكة المكرمة. 3 - أن تقويم أم القرى يصلح لأن يكون تقويمًا عالميًا، وذلك لأنَّ هناك قاعدة فلكية تقول: إذا رئي الهلالُ في شرق الأرض فلا بُدَّ أن يُرى في غربها، أما إذا رئي في غربها فلا يُشترط أن يُرى في شرقها؛ وذلك لأنَّ ارتفاع القمر فوق خط الأفق في شرق الأرض أعلى من ارتفاعه في غرب الأرض، فإذا رئي الهلال في مكة، فإنه يمكن أن يُرى في مغارب الأرض. أما المناطق التي تقع إلى شرق مكة فإنها تشترك مع مكة في جزء من الليل، فيكون تقويم أم القرى تقويمٌ لهم. 4 - تقويم أم القرى هو تقويمٌ مدنيٌ حياتي يعتمد على بداية الشهر الفلكية، أما بداية الشهر الشرعي فتتحدَّد في كل بلد بالرؤية. 5 - حسابات تقويم أم القرى دقيقة، فلا يمكن أن يدخل الشهر الشرعي قبلها؛ لأنَّ القمر لم يكن ليولد، فتستحيل رؤيته، وإن شهد شاهد برؤيته فشهادته مردودة، لكن قد يتأخر عنها بيومٍ واحد؛ لاحتمال عدم رؤية الهلال. ويمكن ملاحظة التالي على أسس هذا التقويم: 1 - أنَّ دخول الشهر القمري لا يتوقف على مجرد الإهلال، فقد تختل إحدى شروط دخول الشهر القمري من حدوث الإهلال بعد غروب الشمس، أو غروب القمر قبل غروب الشمس، أو كون الهلال تحت مستوى خط الأفق، وكثيرًا ما تتخلف شروط دخول الشهر القمري في مكة، بينما تتحقق في بلدان أخرى، مما يجعل الارتباط بمكان واحد لدخول الشهر القمري غير مُسلَّم به. 2 - أما مقولة: إنَّه يستحيل أن تسبق رؤية الهلال التقويم الموضوع، وقد يُرى بعده : فهذا صحيحٌ من ناحية محلية بالنظر إلى شروط رؤية القمر في منطقة معينة، أما بالنسبة للتقويم العالمي فلا يصح ذلك؛ لأنَّ شروط رؤية القمر قد تتوافر في غير منطقة التقويم. وبهذا يتبين: عدم دقة حصر بدء التقويم العالمي بمكة المكرمة. كما احتج عددٌ من الباحثين على مشروعية اتخاذ مكة لبداية التقويم الهجري بما يلي: 1 - أنَّ هذا التوقيت هو الذي وردت به النصوص الشرعية، فقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة:189]، وقوله لإبراهيم عليه السلام: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27]، يدل على ربط معرفة التوقيت بالحج ومكة، وهو إشارةٌ إلى اعتبارِ أصلِ التوقيت الزماني مُتَّصِلاً بمكانٍ واحد: مكان الحج وهو مكة. ويمكن أن يجاب عنه بما يلي: ما قيل عن اعتبار مكة أصلاً للتوقيت غير مُسلَّم به، لأمور: أ - أنَّ هذه الآيات إنما خصصت الحديث عن الحج لأنها تحدثت قبل ذلك عن الصيام، فبيَّنت الآية الحكمة من الأهلة وهو معرفة الأوقات وبدء الشهور والتي من أهمها شهر رمضان، ثم خُصَّ الحج بالذكر لأن الآيات التي بعدها مباشرة ستبدأ بذكر أحكام الحج والمسجد الحرام. ب - كما أنَّ هذه الآيات جاءت لبيان الأحكام التي تتعلَّق بإثبات الأهلة وما يترتب عليها من صومٍ أو حج، أما ذكر أنَّها لاعتماد مكة أساسًا للتقويم العالمي فهو تفسيرٌ لها بغير ما جاءت به، وتحميلٌ لها بأكثر من معانيها التي وردت بها. 2 - حديث: (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ)، ورواية: (عَرَفَةُ يَومَ يُعَرِّفُ الإِمامُ، وَالأضحى يَومَ يُضَحِّي الإِمامُ، وَالفِطْرُ يَومَ يُفْطِرُ الإِمَامُ) والتي تدل على أنَّ الأضحى يوم يُضحِّي أهل مكة، وعرفة يوم يقف الحجيج بعرفة، وبهذا يتَّضح أنَّ مكة هي المكانُ المُعتمدُ في إثبات الأَهِلَّة، وهي الأماكن التي يجب على المسلمين في أقطارِ الأرضِ أن يتَّبعوا مطالِعَ الأَهِلَّةِ فيها. ويمكن أن يجاب عن ذلك بما يلي: 1 - ليس في هذه الأحاديث ذكر ما يتعلق بالتقويم واتخاذ مكة أساسًا لذلك. 2 - غاية المقصود بهذه الأحاديث: رفع الحرج عن الناس إذا اجتهدوا في تحري معرفة مواسم العبادات فأخطؤوا، فلو اجتهدوا في تحري بداية شهر رمضان فصاموا قبله بيوم أو بعده بيوم، أوفي نهاية شهر رمضان وثبوت عيد الفطر: فأفطروا قبله بيوم أو بعده بيوم، أو في إثبات شهر ذي الحجة فوقفوا في عرفة أو ضحوا قبل عرفة أو الأضحى بيوم أو بعده يوم، فأخطؤوا في ذلك: فلا إثم عليهم، وصيامهم وفطرهم ووقوفهم وتضحيتهم صحيحةٌ مقبولة، وهم غير مطالبين بالإعادة. ويكون تقدير الحديث بناءً على ذلك: صيامكم في اليوم الذي تعتقدون أنه من رمضان: صحيح، وفطركم في اليوم الذي تعتقدون أنه من شوال: صحيح، ووقوفكم في عرفة في اليوم الذي تعتقدون أنه التاسع من ذي الحجة صحيح، إذا كان ذلك ناتجًا عن اجتهادٍ وتحرٍ. ## ثانيًا: التقويم الهجري العلمي: وهو تقويم هجريّ أعدّته لجنة "الأهلة و التقاويم و المواقيت" التابعة للاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك (AUASS)، وقد تم اعتماده من قبل الاتحاد خلال المؤتمر الفلكي الإسلامي الثاني الذي عقد في الأردن عام 2001، وهو الذي يأخذ به المشروع الإسلامي لرصد الأهلًّة. الأسس التي يقوم عليها هذا التقويم: 1 - اعتماد شروط بداية الشهر القمري السابق ذكرها في المكان المحدد لبدء التقويم. 2 - اعتماد معيار إمكانية رؤية الهلال في إثبات دخول الشهر القمري. 3 - الأخذ باقتران السطحي (Topocentric New Moon): والذي يعني: اعتماد اقتران الأرض والشمس والقمر بناءً على موقع رصد القمر من على سطح الأرض، وليس الاقتران الحالي والذي يعرف بالاقتران المركزي (Geocentric New Moon)؛ وذلك لأنَّ رصد القمر وإثباته يكون من على سطح الأرض، وليس من مركزها. وفي هذه الحالة سيكون لكل منطقة على سطح الأرض موعدها المختلف لحدوث الاقتران، ويبلغ أقصى فرق بين الاقترانين المركزي والسطحي حوالي ساعتين، في حين يبلغ أقصى فرق في الاقتران السطحي بين منطقتين مختلفتين لنفس الشهر إلى أربع ساعات تقريبا. 4 - تقسيم العالم في ثبوت دخول الشهر القمري إلى منطقتين: المنطقة الشرقية: وتمتد من خط طول 180 درجة شرقاُ إلى خط طول 20 درجة غرباً . المنطقة الغربية: وتمتد من خط طول 20 درجة غرباً إلى الأجزاء الغربية من الأمريكيتين . باعتماد إمكانية رؤية الهلال في ذلك اليوم من أي موقع على اليابسة فقط. مما يعني عدم بداية جميع البلدان للشهر في اليوم المدني نفسه، لكن لن يكون هناك فرق أكثر من يوم مدني واحد بين أي دولتين في بداية الشهر، واليوم المدني يبدأ في الساعة 12 منتصف اليوم ينتهي في الساعة 12 منتصف الليل، لكن ستبدأ جميع الدول الإسلامية الشهر الهجريّ خلال 24 ساعة. من خلال الاستعراض السابق للتقويم الهجري العالمي يمكن ملاحظة الأمور التالية: ## الأمر الأول: الأخذ بالاقتران السطحي: صحيح أنَّ لكل مكان على سطح الأرض اقتران خاص به إذا أخذنا زاوية ميلان المكان عن بقية الأمكنة، لكن هذا الاقتران السطحي ينبغي ألا يرتبط به إثبات الشهر القمري لأمور: 1 - الأصل هو الاقتران العام بين الكواكب الثلاثة، ثم تعدُّد الاقترانات السطحية أمور ثانوية تحصل بعده، مما يجعل الأصل هو الاقتران العام الكلي. 2 - أن الشهر عام لكامل الأرض وليس خاصًا بنقطة معينة، مما يعني الأخذ بالأحداث الكونية العامة في ذلك، وهو ما يتعلق بالاقتران العام أو المسمى بالمركزي. 3 - عدم تحقق شروط الشمر القمري في جميع المناطق والبلدان نظرًا لاختلاف البلدان في ظروف هذا الإثبات، مما يضطر إلى اتخاذ كل بلد لتقويمها المستقل، أو يؤدي إلى اتخاذ نقطة معينة مكانًا لثبوت الشهر، وكلاهما غير مسلَّم به. 4 - هناك فرق بين إثبات الشهور وإثبات أوقات الصلاة المكتوبة فلا يصح قياس الأخذ بالاقتران السطحي بالنسبة لإثبات الشهور على تحقق دخول أوقات الصلاة لكل بلد على حدة، فأوقات الصلاة المكتوبة خاصة بكل بلد حسب تدرج حركة الشمس، وليس هناك وقت موحَّد في جميع الأرض لأداء الصلاة. أما بالنسبة للشهر القمري: فالشهر يدخل على جميع الأرض مرة واحدة. 5 - وكذلك هناك فرق بين إثبات الشهر القمري والخسوف والكسوف: فالخسوف والكسوف حدثان خاصان بالبلدان التي تتحقق شروطهما فيها وليسا عامين لجميع الأرض، ومما يدل عليه تفاوت حدوثهما بين البلدان، بل تفاوت حجمهما ووقتهما من بلد إلى آخر. ## الأمر الثاني: تقسيم العالم في التقويم إلى قسمين: 1 - بداية: يظهر أن سبب هذا التقسيم يرجع إلى أمرين: أ - تفاوت البلدان في إمكانية رؤية الهلال، فمن المعلوم أن رؤية الهلال في مناطق غرب الأرض أكثر وضوحًا نظرًا لبداية ظهور القمر من الغرب باتجاه الشرق وارتفاعه فوق خط الأفق، ما يجعل إمكانية رؤيته في البلدان الشرقية في الساعات الأولى من الإهلال أقل من فرص رؤيتها في البلدان الغربية، فيكون انتظار إثبات دخول الشهر إلى حين تحقق إمكانية رؤية الهلال في البلدان الشرقية تأخير لدخول الشهر عن البلدان الغربية، بينما إثبات دخول الشهر في البلدان الشرقية قبل تحقق إمكانية رؤية الهلال فيها: فيه إثبات دخول الشهر قبل تحقق شروط دخوله، وكلاهما مرفوض، مما يضطر للقول بتقسيم العالم كما سبق. ب - اشتراط ارتباط دخول الشهر القمري بمكان محدد على الأرض. وهذان السببان فيهما نظر: فبالنسبة للأمر الأول: يكفي إثبات دخول الشهر القمر في مكان ما إلى إثبات دخوله في جميع الأرض وهي مسألة (اعتبار اختلاف المطالع)، ولا داع لتحقق دخول الشهر في جميع بلدان العالم. أما الأمر الثاني: فقد تبين عدم دقة ارتباط التقويم بمكان محدَّد على الأرض. 3 - أما ما يتعلق بتقسيم العالم: أ - فهو تقسيم لم يدل عليه أي ديلي شرعي، بل الدليل يخالفه في اعتبار العالم مكانًا واحدًا لبدء الشهر القمري. ب - اعتماد التقسيم على معايير غير محدَّدة ولا معتبرة في الشريعة. الأمر الثالث : دخول الشهر على الأرض في يومين مختلفين : صحيح أن معدي التقويم ذكروا أن الفارق بين اليومين لن يتجاوز (24) ساعة، لكن ليس هذا هو محل النزاع، فالإشكالية أن الشهر القمري سيبدأ في شهر ما يوم السبت، بينما يبدأ في بلدان أخرى يوم الأحد، بغض النظر عن الفرق بين اليومين؛ لأن الفرق بين أي يومين مختلفين في بلدين متجاورين يمكن أن يصل إلى ثوانٍ معدودة، ومع ذلك فهما يومان مستقلان. بالإضافة إلى ما يعني ذلك من وجود ثلاثة تقاويم: تقويم شرعي، وتقويمان إداريان! الأمر الرابع : أنَّ التقويم قد ربط إمكانية رؤية الهلال باليابسة فقط، مع أنَّ الأرض كلها محل لرؤية الهلال، وقد تتحقق شروط الشهر الشهري في البحار. وأخيراً : يلحظ أن التقاويم السابقة تعتمد على الفصل بين التقويم الشرعي الناتج عن رؤية الهلال فعلاً، والتقويم الحياتي الإداري القائم على إمكانية رؤية الهلال، مما يجعل لدخول الشهر القمري بدايتان، وهذا أمر غير مُّسلَّم به، مما يستدعي العمل على عمل تقويم شرعي فلكي موحَّد لجميع العالم.
إنشرها

أضف تعليق