ميزانية السعودية الفوائض الكبيرة توفر إمكانية «لا يستهان بها» للإنفاق

في الوقت الذي نرى فيه أن العالم عالق في أقسى أزمة اقتصادية ومالية منذ الحرب العالمية الثانية، فإن المملكة العربية السعودية تظهر بصورة متزايدة في وضع متين باعتبارها واحدة من أبرز النقاط المضيئة فعلاً في المشهد الاقتصادي العالمي.

تشير التقديرات إلى أن معدل النمو الاقتصادي السنوي لهذا العام سيبلغ 6.8 في المائة، وهو أقوى معدل تم تحقيقه خلال عقدين من الزمن، في حين أن وضع المالية العامة للحكومة يتسم بمقادير فائقة من الفائض ومستويات متدنية إلى حد كبير من دين القطاع العام. والواقع أن المملكة – يساندها في ذلك الوضع المتين وعدم توافر الإمدادات الكبيرة في أسواق النفط – حققت ضعف الإيرادات الحكومية المتوقعة لهذا العام – والتي بلغت 1.1 تريليون ريال سعودي، بدلاً من الرقم السابق الوارد في الميزانية، ومقداره 540 مليار ريال.

وتبدو لنا قوة القطاع النفطي من خلال الزيادة البالغة 37 في المائة في الصادرات، والتي أدت إلى تحقيق فائض تجاري يقدر بنحو 915 مليار ريال، أي بزيادة قوية مقدارها 59 في المائة عن السنة السابقة، وتعادل 42.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا أدى بدوره إلى تمكين الحكومة من تعزيز الإنفاق بنسبة 38.6 في المائة زيادة على المبلغ المقرر سابقاً ومقداره 580 مليار ريال. وكانت النتيجة النهائية عرضاً للقوة الاقتصادية والاستمرار في ظروف اقتصادية عالمية وإقليمية تحيط بها جوانب اللبس.

وقد تم تكريس معظم مبالغ الإنفاق الإضافية على أنموذج للنمو أكثر اشتمالاً من ذي قبل، من خلال زيادة المنافع الاجتماعية، والرواتب الحكومية، وخلق الوظائف. لكن الحكومة عملت كذلك على المزيد من تعزيز أجندتها الطموحة في البنية التحتية، حيث أعطت احتياجات الإسكان السعودية أولوية تفوق حتى ما كانت عليه الحال من ذي قبل. وحتى مع المقدار الفائق من الإنفاق الزائد، تمكنت الحكومة السعودية من تسجيل فائض ضخم مقداره 306 مليارات ريال، أي ما يعادل 14.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا الرقم يعتبر مقارنة صارخة حين ننظر إلى أرقام العجز التي تقع في خانتين، والتي رزئت بها بعض الاقتصادات في منطقة اليورو. وما يلفت النظر أكثر حتى من ذلك هو التراجع في مقدار دين القطاع العام، الذي انخفض من 167 مليار ريال في عام 2010، ليصل إلى 135.5 مليار ريال، أي ما يعادل 6.3 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، أي أقل من نصف الفائض في الميزانية.

#2#

والميزانية التي كشفت الحكومة النقاب عنها يوم الإثنين تَعِد بإطلاق عدد من المحركات المهمة لضمان المتانة الاقتصادية للمملكة في السنة المقبلة، حتى في الوقت الذي يجد فيه العالم نفسه أمام احتمالات خطيرة يمكن أن تشتمل، في أحد السيناريوهات المتطرفة، على تفكك منطقة اليورو، مع الاحتمال الأرجح قليلاً وهو تجدد التباطؤ في النمو واحتمال وقوع ركود اقتصادي مزدوج. ومن المتوقع أن تكون معدلات الإنفاق والإيرادات أعلى بصورة متينة من ميزانية عام 2011.

ورغم أنها أدنى من المستويات الفعلية التي تم تسجيلها خلال العام، إلا أن مبالغ الفائض الكبيرة توفر إمكانية لا يستهان بها لبنود الإنفاق التي يتم تقريرها من قبل المسؤولين حسب الحاجة، إذا استدعى الأمر ذلك. يشار إلى أن الحكومة سبق لها مراراً في ميزانيات سابقة أن تجاوزت خطط الإنفاق بنسب بلغت 15 في المائة أو أكثر من ذلك. وتبلغ أرقام الإنفاق المقرر في الميزانية الحالية 690 مليار ريال، أي بزيادة مقدارها 19 في المائة عن ميزانية عام 2011، في حين أن الإيرادات، التي يُتوقع لها أن تبلغ 702 مليار ريال، هي أعلى بنسبة 30 في المائة.

معنى ذلك أن الحكومة تتوقع أن يكون الفرق بين الإيرادات والإنفاق هو 12 مليار ريال، وهو مبلغ نتوقع أن يزداد بصورة لا يستهان بها مع التوقعات السائدة بأن تحافظ أسعار النفط بصورة عامة على مستوياتها الحالية، التي تقارب 100 دولار للبرميل، حتى في حالة الاحتمال المرجح وهو انخفاض الإنتاج من 9.1 مليون برميل يومياً إلى 8.8 مليون برميل في اليوم. وما يبعث على التشجيع هو أن الميزانية (حتى في حالة انخفاض الأسعار) ستسجل نقطة تعادل بين الإيرادات والمصروفات، لأن السعر المفترض الذي وضعته الحكومة لأغراض الميزانية يتسم بالحذر نسبياً ويبلغ أقل من 65 دولاراً للبرميل. وحتى لو توقعنا أن معدلات الإنفاق الزائد على الميزانية ستكون متماشية مع ما حدث في سنوات سابقة، فإن السعر المفترض لتحقيق التوازن لن يزيد كثيراً على 70 دولاراً للبرميل.

وكذلك من حيث النمو الاقتصادي فإن عام 2012 يحمل في طياته إمكانيات لا يستهان بها. تم تعزيز الإنفاق بدرجة كبيرة في المجالات ذات الأولوية المعتادة، وكثير منها لن يعمل فقط على تعزيز النمو على الأجل القصير، وإنما سيعمل كذلك على تعزيز القدرة الإنتاجية الكامنة للمملكة بصورة دائمة أكثر من ذي قبل. يظل التعليم، الذي زادت ميزانيته بنسبة 13 في المائة، أهم بند في الإنفاق، حيث يشكل ما نسبته 24 في المائة من الإجمالي.

ومن المتوقع أن ترتفع نسبة المخصصات للإنفاق على الصحة والشؤون الاجتماعية ضعف النسبة المخصصة للتعليم، بمعدل 26 في المائة، أي أنها ستشكل نحو 12.5 في المائة من إجمالي المخصصات. ومن بين أمور أخرى، سيزداد الإنفاق على بناء مستشفيات جديدة، وهو أمر من شأنه تعزيز الصحة العامة، في حين أن مكاتب العمل ستؤمن تعزيزاً لكفاءة سوق العمل ومستويات التوظيف، وهو أمر سيكون موضع ترحيب. وستشهد المواصلات والاتصالات زيادة ضخمة في المخصصات تبلغ 40 في المائة، لتشكل ما نسبته 5.1 في المائة من الإجمالي، ويعود كثير من الفضل في ذلك إلى عدد من مشاريع المطارات الجديدة، وعلى رأسها مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة. وستزداد مخصصات البلديات بنسبة 19 في المائة، وذلك بفضل مشاريع تحديث البنية التحتية للطرق.

وسيكون التحدي الرئيسي الناتج عن الميزانية في الاقتصاد الكلي هو استمرار الوجود المكثف للحكومة في الاقتصاد، في وقت تفرض فيه قضايا التنويع الاقتصادي والتنويع في المالية العامة على نحو قابل للاستدامة، تفرض فيه بصورة ملحة ومتزايدة إجراء الانتقال إلى نمو أكثر توازناً، بحيث يشتمل على دور أكبر للقطاع الخاص. بلغ إجمالي الإنفاق الحكومي مستوى قريباً من المستوى الأوروبي، عند 37.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وكانت الأنباء المشجعة حول الأرقام الاقتصادية الخاصة بالسنة الماضية هي أن النمو – حتى في وقت لا يزال يشهد نوعاً من الوهن في إقراض البنوك والأسواق الرأسمالية – كان مدفوعاً مع ذلك بالقطاع الخاص.

فقد توسع القطاع الخاص غير النفطي بنسبة 14.1 في المائة، وهي تزيد على ضعف نسبة النمو المسجلة في القطاع الحكومي، والبالغة 6.7 في المائة. ويشكل القطاع الخاص الآن نسبة قريبة للغاية من 50 في المائة من إجمالي الاقتصاد. وما يبعث على التشجيع هو أن عدداً من المؤشرات تشير إلى أن العوامل المحركة لهذه العملية تزداد قوة. وقد أشارت الحكومة في السابق إلى أنها لا تعتزم إصدار سندات أو صكوك سيادية قبل أن تتقلص نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي لتكون دون مستوى 10 في المائة.

وقد تم تحقيق هذا الهدف الآن، وهناك عدد من المؤشرات التي تدل على أن التحضيرات لإصدار صكوك سيادية لتمويل أحد المشاريع بلغت مرحلة متقدمة للغاية. وفي تطور مرحب به، فإن من شأن هذا تمكين المستثمرين الخاصين – إما بصورة مباشرة أو من خلال المؤسسات – من الاستثمار في واحدة من أقوى حالات النمو الاقتصادي في هذا العصر. وفي الوقت نفسه، تعتزم الحكومة تعزيز نطاق المشاريع مع القطاع الخاص وزيادتها من 148.3 مليار ريال (وهو المبلغ الذي كان مخصصاً للعام الحالي) إلى 265 مليار ريال، وهو رقم يزيد بعدة أضعاف عما كان متبعاً قبل سنتين فقط.

وستعمل مؤسسات الائتمان المتخصصة على تعزيز إقراضها ليصل إلى 86.1 مليار ريال، وهو رقم يشكل نسبة عالية مقدارها 20 في المائة من إجمالي الإنفاق الذي اضطلعت به هذه المؤسسات حتى تاريخه، وكثير منها تم إنشاؤها في سبعينيات القرن الماضي.

إن الحركة السريعة للنمو السكاني والتنمية الاقتصادية في المملكة تترجَم إلى فرص وتحديات لا تحصى. وبسبب الأداء الاقتصادي للمملكة خلال الأزمة العالمية، إلى جانب استراتيجية المالية العامة التي تتبعها الحكومة، نشأت ثقة لا يستهان بها بقدرة المملكة على الوفاء بالالتزامات.

ورغم العدد الهائل للغيوم الاقتصادية التي تتجمع في سماء الاقتصاد العالمي، تستطيع المملكة العربية السعودية أن تتطلع بثقة إلى تحقيق درجة عالية من الاستمرارية الاقتصادية في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي