بماذا نفسر مظاهرات «وول ستريت»؟

بماذا نفسر عملية احتلال ''وول ستريت'' أو سوق المال في نيويورك وما ترتب عليها من تحركات داخل مدن عدة في الولايات المتحدة امتدت لتصل العاصمة السياسية واشنطن ثم انتشرت هذه الحركة لتشمل ألف مدينة في أنحاء العالم؟ سؤال طرحته على نفسي وأنا أشاهد وأتابع الأخبار المتعلقة بهذا الموضوع، حيث اتجهت جموع الناس إلى مقر البورصات في كل من لندن، وطوكيو، وغيرها من المدن الكبيرة في دول عدة.
الشكوى التي يرفعها هؤلاء المتظاهرون أو المحتجون جاءت نظراً للبطالة، والفقر، حيث يوجد في أمريكا وحدها 40 مليون فرد تحت خط الفقر بغض النظر عن مستوى حد الفقر الذي حددته أمريكا لنفسها، وفرضت بموجبه سياساتها على العالم، وشنت من أجله الحروب. المتظاهرون يرون أن سبب فقرهم وبطالتهم يعود إلى الاحتكار الذي تمارسه الشركات، ورجال الأعمال النافذون في أمريكا، وكذلك في الدول الأخرى التي شهدت هذه التحركات، حيث يرون أن الأموال الضخمة، والأعمال مكدسة في أيدي فئة قليلة لا تتعدى 5 في المائة، مع كثرة المصادر الطبيعية التي تغني الناس، وتنقلهم من مستوى الفقر إلى مستوى الاكتفاء الذاتي، وتوفير الاحتياجات الحياتية.
اهتمامي في الموضوع جعلني أنظر له من عدة جوانب من بينها الجانب النفسي المتمثل في غريزة التملك التي أودعها الله ـــ سبحانه ـــ في الناس من أجل أن يستمر النماء، وتستمر الحياة، ويحدث التوازن الداخلي في الفرد، حيث بالمال تتحقق احتياجات الفرد التي تكفل له أن يعيش عيشة كريمة وهادئة لا يضطر فيها إلى ممارسات منحرفة. القرآن الكريم ذكر المال في عدة مواقع ''المال والبنون زينة الحياة الدنيا'' وقوله تعالى ''هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور''، فالمشي في المناكب هو السعي، والعمل الشريف الذي يحقق للإنسان كسب رزقه، وعيشه، والمال الذي يستخدمه في متطلبات ومناشط الحياة.
إذن غريزة التملك الفطرية موجودة عند كل أحد، وإن كانت بصورة محدودة عند بعض الناس وهم الزهاد، ولكنها قد توجد عند آخرين بصورة شديدة تصل إلى مرحلة الاحتكار، ونسيان الآخرين، بل وتسخيرهم، وبصورة ذليلة لجمع المال لفرد، أو فئة، أو شركة لا يملكها إلا فئة محدودة، وفي مثل هذه الحالة تكون النتيجة الاستعباد للآخرين لأن المحتكر، وجامع المال سعادته في جمع المزيد، والمزيد، وبشتى الطرق، والأساليب، ومهما كانت النتائج المترتبة على الصعيد الاجتماعي، والأخلاقي، وحتى الاقتصادي العام طالما بقي هو في منأى عن هذه الآثار، والنتائج.
هذا تفسير على المستوى الفردي لكن الفرد عضو في جماعة، وينتمي لمجتمع، والمجتمع يفترض أن تكون له فلسفة، ونظام حياة يتبناه، وترتكز أسس حياته على هذه الفلسفة.
الاتحاد السوفياتي كان يتبنى الاشتراكية كمنهج حياة، ووفق هذه الفلسفة كان يعد الناس بالعدالة، والمساواة الاجتماعية، وبالرفاه، والمن والسلوى والجنة الموعودة على الأرض، وعاش الناس في الاتحاد السوفياتي وخارجه ممن صدقوا هذه الوعود على هذا الأمل لكن سنوات الاتحاد السوفياتي تحولت إلى سنوات عجاف ذاق الناس خلالها الأمرين في معيشتهم، وفي علاقتهم بالسلطة حتى تآكل النظام، وسقط، وتفكك الاتحاد السوفياتي، وخرج من تحت عباءته جمهوريات عدة طمعاً في الحرية، والعيش الكريم.
قبيل حدوث حركة احتلال سوق المال في نيويورك قابلت في الرياض واحداً من الخبراء الاقتصاديين العاملين في ''وول ستريت''، وتناقشنا في الأزمة المالية التي شهدتها الولايات المتحدة، وتأثرت بها كثير من الدول، وسألته هل المشكلة من وجهة نظره تعود للفلسفة أم للآليات، والعمليات؟ وأقصد بالفلسفة الرأسمالية التي تؤكد على السوق الحر القائم على مبدأ العرض، والطلب، ومع ما توفره هذه الفلسفة من حرية ومرونة في حركة البيع والشراء، وتبادل السلع، إلا أن حالة الجشع، والاحتكار التي يصاب بها البعض تفسد على الناس نماءهم، وتحرمهم من أرزاقهم، وهذا بالفعل ما حدث في أمريكا، وفي الدول الرأسمالية الأخرى. أثناء حديثنا وجدته يتفق معي على أن فساد الآليات، والعمليات هو نتيجة لخلل يوجد في الفلسفة كإطار نظري يفترض أن يحكم ويوجه الآليات، والعمليات، ولذا فإن إعادة النظر في مفاهيم الفلسفة وأسسها قد تكون ضرورة تمليها الظروف التي يمر بها المجتمع الأمريكي، والدول المتأثرة بفلسفة الاقتصاد الأمريكي، ولذا بدأت تبرز على السطح مفاهيم من مثل الرأسمالية الاجتماعية، كما بدأ الحديث عن إمكانية توظيف الاقتصاد الإسلامي للخروج من المأزق الذي تمر به الرأسمالية الجشعة. ''دعوا المسلمين يرزق الله بعضهم من بعض''، حديث يؤكد على حرية السوق لكن في المقابل دعوة إلى تجنب الاحتكار ومراعاة الناس عند البيع والشراء ''رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى''. هل تنجح أمريكا في إعادة النظر في فلسفتها الحياتية، والاقتصادية بالذات، أم تتصلب في مكانها ويحدث لها ما حدث للاتحاد السوفياتي؟! كل شيء محتمل حيث العقلاء والسفهاء موجودون في المجتمعات كافة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي