لماذا أصبح الفرنك السويسري حصان العملات العالمية الأسود؟

الفرنك السويسري، أو حصان العملات الأسود كما أفضل أن أسميه، تعرض لتطورات عنيفة في الأسابيع القليلة الماضية، حيث تحول من عملة تتحدد وفقا لقوى العرض والطلب إلى عملة مثبتة باليورو عند حد أدنى لوقف الارتفاع المستمر في قيمته، وهي السياسات ذاتها التي تتبعها الدول النامية عندما تحدد قيمة عملاتها. على مدى أسبوعين أتناول تطورات معدل صرف الفرنك السويسري وتحليل العوامل المسببة لهذه التطورات في معدل صرف الفرنك، وذلك من خلال استعراض أداء الاقتصاد السويسري على المستوى الكلي، والمقارنة ما أمكن مع الدول الكبرى في العالم، ثم في الأسبوع المقبل - إن شاء الله - أتناول الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي السويسري لوقف جماح الفرنك نحو الصعود.

#2#

#3#

لقد أصبح يطلق أخيرا على الفرنك السويسري عبارة ''المارك الألماني الجديد''، في إشارة إلى تحول الفرنك الفرنسي إلى أقوى عملة في العالم، مثلما هو الحال بالنسبة للمارك الألماني قبل انضمام ألمانيا إلى اليورو، حيث كان الطلب على المارك الألماني مرتفعا عالميا، خلال الثمانينيات والتسعينيات، وذلك بعد تراجع مركز الين الياباني على المستوى الدولي، وتصاعد الدور الذي يلعبه الاقتصاد الألماني على المستوى الدولي.
أخيرا تزايد الطلب على الفرنك السويسري على المستوى الدولي، حيث أصبح ينظر إليه حاليا على أنه حصن أمان إضافي مثل الذهب، ونتيجة لذلك أخذت معدلات صرف الفرنك بالنسبة للعملات الرئيسة في الانخفاض (ارتفاع قيمة الفرنك)، بصفة خاصة بالنسبة لليورو والدولار الأمريكي، كما هو موضح في الشكل رقم (1)، الذي يوضح معدل صرف الفرنك بالدولار الأمريكي واليورو والين الياباني. فخلال الفترة من أول كانون الثاني (يناير) 2008 حتى منتصف آب (أغسطس) 2011، تراجع معدل صرف اليورو بالنسبة للفرنك بنسبة 59 في المائة تقريبا، بينما تراجع معدل صرف الدولار الأمريكي بالنسبة للفرنك بنسبة 55 في المائة تقريبا، في الوقت الذي كان معدل صرف الفرنك بالنسبة للين الياباني أكثر استقرارا، حيث تراجع معدل صرف الين بالنسبة للفرنك بنحو 8 في المائة تقريبا خلال الفترة نفسها.

#4#

أدى استمرار ارتفاع الفرنك إلى تزايد الثقة به على المستوى العالمي، خصوصا في ظل ظروف الأزمة، ما أدى إلى استمرار الطلب عليه مرتفعا من جانب المستثمرين الدوليين، بالطبع ارتفاع قيمة العملة له آثار إيجابية وأخرى سلبية على الدولة، غير أنه بالنسبة لاقتصاد صغير مثل الاقتصاد السويسري الذي ترتفع درجة انفتاحه على العالم الخارجي، فإنه مع ارتفاع قيمة العملة تأخذ تنافسية الاقتصاد السويسري في التراجع.
مع بدء تأثر الاقتصاد السويسري سلبا بارتفاع قيمة عملته، أخذت السلطات النقدية في التدخل على نحو كثيف في سوق النقد الأجنبي للضغط على قيمة الفرنك حتى تتراجع، غير أن كل الجهود التي تم اتخاذها ذهبت هباء واستمر الفرنك في الارتفاع على النحو الموضح في الشكل تحت ضغط الطلب المتزايد عالميا عليه، لكن لماذا يتزايد هذا الطلب العالمي على الفرنك السويسري على هذا النحو؟ وما العوامل التي تفسر هذا الأداء الاستثنائي للفرنك؟

الإجابة عن هذا السؤال تكمن في التأكيد في الأداء الاقتصادي الاستثنائي للاقتصاد السويسري، على النحو الذي يؤدي إلى تزايد الثقة بالفرنك. فمن بين دول العالم خرجت سويسرا من الأزمة بسهولة، كما هو واضح من الشكل رقم (2) الذي يوضح معدلات النمو ربع السنوي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في سويسرا مقارنة بالاقتصادات الرئيسة خلال فترة الأزمة حتى الربع الأول من 2011، ومن الشكل يلاحظ أن الأزمة المالية لم يترتب عليها تراجع كبير في معدل النمو في الناتج الحقيقي السويسري (المنحنى الأسود)، وذلك مقارنة بالدول الأخرى، حيث تمكنت سويسرا من الخروج من الكساد بسرعة ليس هذا فقط، إنما تميز خروج الاقتصاد السويسري من الأزمة بالاستقرار النسبي في معدلات النمو مقارنة بباقي الدول. ففي الوقت الذي اتسمت فيه معدلات النمو الاقتصادي في ألمانيا واليابان والولايات المتحدة بالتقلب الشديد، مع ميلها نحو التراجع أخيرا على النحو الذي يوحي باحتمال دخول اقتصادات هذه الدول في الكساد مرة أخرى، حافظ الاقتصاد السويسري على معدلات نموه على نحو أكثر استدامة واستقرارا.

هذا النمو المستقر كان مدعما بمعدلات تضخم منخفضة مقارنة بباقي الدول، حيث اتسم معدل التضخم في سويسرا بالانخفاض بشكل عام وكذلك بالاستقرار النسبي، حيث لم يزد معدل التضخم خلال السنة الماضية على 1 في المائة تقريبا، مستفيدا من الارتفاع في قيمة الفرنك، وهو ما يساعد على الحفاظ على القوة الشرائية للفرنك.
أما أهم الأمور اللافتة للنظر فهي أداء سوق العمل السويسري أثناء الأزمة، فقد عانت أسواق العمل في دول العالم كافة ارتفاعا في معدلات البطالة على نحو كبير من ناحية، ومن ضعف استجابة سوق العمل لجهود توفير الوظائف في تلك الأسواق من خلال استخدام سياسات التحفيز المختلفة من ناحية أخرى. فوفقا للشكل رقم (3) الذي يوضح معدلات البطالة الشهرية خلال الفترة من كانون الثاني (يناير) 2008 حتى حزيران (يونيو) 2011، فإن معدلات البطالة في الاقتصاد السويسري ظلت منخفضة حتى أثناء سنوات الأزمة، وبلغ أعلى معدل للبطالة في سويسرا أخيرا في كانون الثاني (يناير) 2010، ومع ذلك ظل هذا المعدل أقل من 4.5 في المائة تقريبا، قبل أن تميل معدلات البطالة نحو التراجع إلى 2.8 في المائة في حزيران (يونيو) 2011، وهو بجميع المقاييس يعد واحدا من أقل معدلات البطالة في العالم.

من ناحية أخرى، فقد اتسمت المالية العامة لسويسرا بالاستقرار الكبير مقارنة بدول العالم الرئيسة، ففي الوقت الذي تعاني فيه دول العالم عجزا في ميزانياتها العامة وتزايد مستويات الدين العام وخروج الدين عن نطاق السيطرة في العديد من دول العالم بما فيها الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، حيث ترتفع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على نحو يثير قلق المستثمرين في العالم، يتسم الاقتصاد السويسري بمالية عامة في منتهى القوة، فوفقا للجدول رقم (1) الذي يوضح أوضاع المالية العامة لسويسرا خلال العقد الماضي، لم تحقق سويسرا عجزا في ميزانيتها منذ عام 2005، بما في ذلك أثناء فترة الأزمة، وبدلا من ذلك كانت سويسرا من الدول القليلة في العالم التي تحقق فائضا في ميزانيتها العامة، على الرغم من محدودية الفائض كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما مالت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو التراجع من 25.6 في المائة في عام 2000 إلى 20 في المائة فقط في عام 2010، وذلك بفعل الفوائض المحققة في الميزانية، وهي نسبة منخفضة للغاية بالمقاييس الدولية حاليا.

وأخيرا يلاحظ أن الاقتصاد السويسري قد استفاد من النمو في التجارة الدولية بعد الأزمة، حيث تحقق سويسرا فائضا في الحساب الجاري لميزان مدفوعاتها، ومن ثم تتراكم الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي السويسري بصورة تدعم الثقة به كعملة مطلوبة على المستوى العالمي. بهذا الشكل تكونت الظروف الملائمة لأن يتحول الفرنك السويسري إلى حصان العملات العالمية الأسود، وأصبح أحد الملاذات الآمنة في العالم بعد الذهب.
غير أننا قرأنا أخيرا أن البنك المركزي السويسري ترك سياسة التحديد الحر لمعدل صرف الفرنك وفقا لقوى العرض والطلب، وتبنى سياسة جديدة لمعدل صرف الفرنك تقوم على تثبيت قيمة الفرنك بالنسبة لليورو الأوروبي. فما هذه السياسة الجديدة لمعدل صرف الفرنك وما آثارها؟ هذا ما سنتناوله الأسبوع المقبل إن أحيانا الله - سبحانه وتعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي