Author

هل يتوقف السيرك السياسي في الولايات المتحدة؟

|
شهد الاقتصاد الأمريكي في الشهر الماضي تطورات سلبية على نحو يثير القلق، فقد أخذت معدلات النمو في التراجع، حيث تتسم عملية استعادة النشاط الاقتصادي من الكساد الحالي بأنها الأسوأ في التاريخ الأمريكي، وبالصورة التي تنبئ باحتمال انزلاق الاقتصاد الأمريكي مرة أخرى إلى الكساد، كما جاءت بيانات تقرير سوق العمل لآب (أغسطس) مخيبة للآمال، حيث لم توفر سوق العمل أي وظائف إضافية، وأصبح من الواضح أن البطالة تستعصي على الحل، حيث ظل معدل البطالة عند مستويات مرتفعة، في الوقت الذي تراجع فيه تصنيف الولايات المتحدة الائتماني بعد أن اتسعت هوة الخلاف بين الحزبين الرئيسيين حول رفع سقف الدين الأمريكي، وأظهرت استطلاعات الرأي أن شعبية الرئيس أوباما بلغت أدنى مستوى لها، وأصبح من الواضح أن استمرار الأوضاع على هذا النحو سيؤدي إلى نتيجة واحدة وهي وضع رئيس جديد مكان الرئيس أوباما في الانتخابات القادمة بعد 14 شهرا تقريبا. في محاولة يائسة لإنقاذ الوضع كشف الرئيس أوباما في الأسبوع الماضي النقاب عن خطته التي أطلق عليها لاحقا "قانون الوظائف الأمريكية" التي حملت الكثير من التفاصيل حول آفاق رفع مستويات التوظف في الاقتصاد الأمريكي. الخطة التي قدمها الرئيس أوباما أربكت الجمهوريين بصورة شديدة، فمن ناحية هم لا يستطيعون رفضها في ظل الجمود الواضح لمعدلات البطالة نحو التراجع حاليا، ومن ناحية أخرى فقد حملت الخطة الكثير من الأفكار التي سبق أن رددوها لمعالجة الأوضاع الاقتصادية. الرئيس الأمريكي حمل الجمهوريين المسؤولية في حال رفض الخطة متهما إياهم بأنهم المسؤولون عن ضعف أداء الاقتصاد الأمريكي حاليا، ومنبها أعضاء الكونجرس بأن خلافات الحزبين أصبحت عميقة إلى الدرجة التي تحتاج إلى صناديق التصويت كي تفصل فيها، لكن ذلك لن يتم إلا بعد 14 شهرا من الآن، والرئيس لا يستطيع الانتظار لهذه الفترة الطويلة، ولذلك هدد الرئيس الأمريكي بأنه سيوصل القضية إلى الشعب الأمريكي في أنحاء الولايات المتحدة كافة. كان رد فعل الجمهوريين على الخطة متحفظا بصورة شديدة هذه المرة، حتى يتمكنوا من بحث كيفية توجيه السهام القاتلة لها دون أن يؤدي ذلك إلى تدمير سمعتهم أمام الناخب الأمريكي، لكن ما خطة الرئيس أوباما لتوفير المزيد من الوظائف للأمريكيين؟ وما الآثار المحتملة لتنفيذ هذه الخطة؟ بل ما فرص تنفيذها؟ هذا ما سنحاول أن نتناوله بالتحليل في هذا المقال. احتوت خطة الرئيس أوباما لتوفير الوظائف على مكونات عدة ما بين زيادة في الإنفاق وتخفيضات في الضريبية ومنح أرصدة ضريبية لتحفيز المشروعات على توفير الوظائف، يقدر إجمالي تكلفتها بنحو 447 مليار دولار، وتفاصيلها كالتالي: • اقتراح تخفيضات ضريبية تبلغ تكلفتها 175 مليار دولار وتشمل توسيع نطاق التخفيضات الضريبية التي تم إقرارها العام الماضي، بما يحقق خفض الضرائب على العاملين بنحو 160 مليار دولار، وهو ما يضمن أن تحصل كل أسرة على نحو 1500 دولار تخفيضات ضريبية، والسماح للمزيد من الأمريكيين بإعادة تمويل قروضهم العقارية على أساس معدل 4 في المائة، وهو ما سيوفر على كل أسرة نحو ألفي دولار. بالطبع تفترض الخطة أن هذه التخفيضات الضريبية ستضاف إلى جيوب المستهلكين وتتحول بالتالي إلى إنفاق استهلاكي. • توفير المزيد من الوظائف بتكلفة 140 مليار دولار، وذلك من خلال منح المشروعات الخاصة رصيدا ضريبيا إضافيا Tax credit بمبلغ أربعة آلاف دولار في مقابل تشغيل كل محارب من المحاربين القدامى، وذلك برفع الرصيد الضريبي من 5600 إلى 9600 دولار، لتشجيع قطاع الأعمال على تشغيل الجنود المسرحين من الجيش، كما ستمنح المشروعات التي توظف عاطلا قضى أكثر من ستة أشهر في حالة بطالة رصيدا ضريبيا بمبلغ أربعة آلاف دولار، كذلك تقديم مساعدات لحكومات الولايات والمحليات للاستمرار في الاحتفاظ بالعمال المحليين والحيلولة دون التخلص من 280 ألف مدرس من وظائفهم في المدارس العامة، وإعادة تأهيل 35 ألف مدرسة عامة ودعم المختبرات وتحديث فصول الإنترنت في أمريكا، وتوجيه المزيد من الاستثمارات المباشرة في البنى التحتية من خلال صيانة الطرق وخطوط السكة الحديد والمطارات والأنهار. • تقديم تخفيضات ضريبية للمشروعات الصغيرة بنحو 70 مليار دولار، وذلك من خلال خفض الضرائب على المرتبات لنحو 98 في المائة من المشروعات إلى النصف، ومنح إعفاء ضريبي كامل للموظفين الجدد، وكذلك على الزيادات التي تحدث في مرتبات للعاملين الحاليين. • فتح مسارات العودة للعاطلين بتكلفة 62 مليار دولار، وذلك كجزء من خطة مد تأمين البطالة لمنع نحو خمسة ملايين أمريكي من فقدان الدعم، حيث تشمل الخطة إصلاحات مبتكرة لمنع عملية التخلص من العمال ومنح الولايات مرونة أكبر في استخدام صناديق تأمين البطالة لدعم الباحثين عن الوظائف، ومنع المشروعات من التمييز ضد العاطلين عند التعيين، وتوسيع فرص التوظف للعمال منخفضي الدخول من خلال صناديق دعم التوظيف وبرامج التدريب والوظائف الصيفية وعلى مدار العام للشباب. فور الإعلان عن الخطة تباينت توقعات المحللين حول آثار تنفيذها على مستويات البطالة في أمريكا، وأن هذه الترتيبات المقترحة أضعف من أن تحل مشكلة البطالة على مستوى الولايات المتحدة وبالطبع من مساعدة الاقتصاد على استعادة نشاطه على نطاق واسع مرة أخرى. حيث تشير التوقعات إلى أنه في حال تعاون الجمهوريين مع الرئيس لتنفيذ الخطة يمكن أن تنتج ما بين مليون إلى 1.5 مليون فرصة عمل جديدة في السنة القادمة، معنى ذلك أن الأثر المتوقع في معدل البطالة ربما لا يكون كبيرا مثلما هو متوقع، ومن ثم ربما تنخفض البطالة بمعدل 1 - 1.8 في المائة فقط. غير أن هذا الخفض، إن حدث، سيعد تطورا مهما في حلحلة معدل البطالة ليخترق حاجز الـ 9 في المائة نزولا، وهو ما قد يعني أن الحزب الجمهوري سيقدم على طبق من ذهب الفرصة كاملة لإعادة انتخاب الرئيس. ذلك أن تراجع معدلات البطالة سيمنح أوباما الفرصة لمواجهة ناخبيه ببعض المؤشرات الناصعة عن أداء الاقتصاد الأمريكي في أثناء فترة حكمه ونتيجة لسياساته الاقتصادية الناجعة، من ناحية أخرى فإن موافقة الجمهوريين على الخطة ستعني أن الحزب الذي وقف ضد المزيد من الإنفاق للسيطرة على العجز في الميزانية ومن ثم نمو الدين العام كانت مواقفه السابقة مجرد ألاعيب سياسية ولا تعكس مبدأ أصيلا يتبناه الحزب في هذه القضية، وأن ما أثاره بعض أعضاء الحزب من صراخ حول السياسات الاقتصادية لأوباما هو نوع من النفاق سياسي، لكن يبقى السؤال الحرج وهو: من سيسمح لأوباما بتنفيذ الخطة بأكملها؟ ردود الفعل حتى الآن تشير إلى أن قادة الحزب الجمهوري لا يدعمون الخطة، بل إن البعض كان أكثر حدة في انتقاده لها، كما أبدى البعض تحفظه عليها، مشيرا إلى أن الكونجرس لا يمكن أن يتحمل أعباءها، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام حول مدى استعداد الجمهوريين للتعاون مع الرئيس في هذا الوقت الحرج بالنسبة له، غير أن رفض الخطة سيحمل أخبارا سيئة للجمهوريين، لأن مضمون هذا الرفض سيعني الآتي: • أن الحزب يقف في وجه توفير المزيد من فرص العمل أمام الأمريكيين، وأنه بالفعل المسؤول عن استمرار معدلات البطالة مرتفعا على النحو الحالي كما يدعي الرئيس أوباما. • أن رفض الخطة من جانب الجمهوريين سيضع الحزب في مأزق أمام الجمهور الأمريكي، لأن جانبا كبيرا من المقترحات التي قدمها أوباما سبق تقديمها من جانبهم في الماضي. • أن رفض الخطة يمكن أوباما من أن يدعي أنه يحاول التوصل إلى حلول وسط بينما يصر خصومه على الألاعيب السياسية، ما قد يضعف موقفهم في الانتخابات القادمة. يوم الإثنين الماضي أرسل أوباما خطته إلى الكونجرس مصحوبة برسالة قوية يدعوهم فيها إلى أن يدعوا السياسة جانبا، منوها في كلمته من الحديقة الوردية في البيت الأبيض إلى أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوقف الخطة هو ألاعيب السياسة، وأن أمريكا لا تستطيع أن تتحمل المزيد منها مجددا، وأن هذا هو الوقت اللازم لإعادة الاقتصاد الأمريكي إلى العمل مرة أخرى، وأن الوقت قد حان لفعل شيء وليس مجرد الحديث عنه. كما أوضح الرئيس أن لديه خطة لخفض الإنفاق وذلك في إطار خطة رفع سقف الدين، كما يخطط الرئيس لإجراء تعديلات بسيطة في الرعاية والدعم الصحي، كما أنه سيطلب إجراء إصلاحات ضريبية للتأكد من أن الأغنياء والشركات الكبرى تدفع حصتها العادلة من الضرائب. على الجانب الآخر وعد أوباما بأنه سيقدم خطة طموحة لمعالجة عجز الميزانية لتغطية تكاليف مقترحاته وتحقيق استقرار الدين العام على الأجل الطويل. أوجه الاعتراض الحالية على الخطة تتمثل في أن معالجة مشكلة البطالة تحتاج إلى برنامج إنفاق حكومي ضخم وليس تخفيضا في نفقات الرعاية والإعانات الصحية، وأن خفض الرعاية الصحية والدعم الصحي لن يحل المشكلة، وقد يجد معارضة بين الديمقراطيين الذين ينظرون إلى أن هذه الخدمات لا تلقى التمويل المناسب، فكيف يتم خفض تمويلها؟ من الواضح أن خطة الرئيس ستواجه معارضة الجمهوريين الذين يحاولون سد الطرق أمام الإدارة الحالية. فقد صرح جون بونر بأن الجمهوريين يقدرون جهود الرئيس وأن الكونجرس سيراجع بنود الخطة الأساسية بالنظر إلى التكلفة الحقيقية التي ستتكلفها، لكن الجمهوريين ينظرون إلى الخطة ببعض الشك، بل إن هناك من يرفض المقترحات التي تقدم بها أوباما، رغم أن بعضها منتقى أساسا من مقترحاتهم هم في الماضي، وهو ما يعني أن من قدموا هذه المقترحات في الماضي لا يؤيدونها اليوم لأنها قدمت من جانب خصومهم هذه المرة. في خطاب إلى الرئيس أوباما ذكر قادة الجمهوريين بأنهم سيدرسون الآثار الاقتصادية قصيرة وطويلة الأجل للمقترحات، وأن الكونجرس سينظر إلى التعديلات والأفكار الجديدة التي يمكن أن تحقق النمو الاقتصادي وفتح الوظائف بصورة فاعلة، وذكروا أنه ربما تكون لديهم رؤية مختلفة حول ما هو مطلوب لرفع مستوى التوظيف في القطاع الخاص في الولايات المتحدة، على الرغم من إيمانهم بأن الأفكار التي طرحها أوباما تستحق أن تؤخذ في الاعتبار، في إشارة إلى أنه في حالة موافقة الجمهوريين على الخطة فإن ذلك ربما يقتصر على عدد قليل من المقترحات التي طرحها أوباما. حرص أوباما على أن يرسل رسالة واضحة إلى الجمهوريين بأنه في حال رفض خطته فإنه سينقل هذه الرسالة إلى أنحاء أمريكا كافة، ولدعم موقفه أطلق الرئيس حملة تحت اسم "قانون وظائف الأمريكيين"، التي تم إنشاء موقع إلكتروني لها، كما أن الخطة الإعلامية للخطة سترتكز على أن خطة أوباما مدفوعة بالكامل ولا تكلف الميزانية أعباء إضافية، وذلك إذا ما تم إغلاق ثغرات قانون الضرائب الحالي ومطالبة الأمريكيين الأغنياء بدفع حصتهم العادلة من الضرائب وأن الاقتصاد الأمريكي كان ضحية الرئيس بوش الابن، وأن الجمهوريين كحزب غير حريصين على مصلحة الولايات المتحدة، وفي المقابل التأكيد على أن أوباما شخص متفائل معتدل التفكير إصلاحي ومتواضع ماليا، والتحذير من أن وقت اللعب السياسي انتهى، وأن الوقت الحالي هو التوقيت المناسب لإقرار هذه الخطة، وأنه ما إن يتم إقرارها سيعود الأمريكيون إلى العمل. المشكلة الأساسية هي أن أوباما ومعارضيه ينظرون من المنظار نفسه، وهو الانتخابات القادمة، فهل سينتهي هذا السيرك السياسي الذي تشهده أمريكا منذ فترة؟ الإجابة لا، وأن الأعداء التقليديين سيستخدم كل منهم كل أوراق التصعيد كي يؤمن مقعد الرئاسة القادم لحزبه.
إنشرها