التعليم العالي وحقوق الإنسان

إن الاستثمار في رأس المال البشري هو هاجس الدول والمجتمعات المتقدمة، وبطبيعة الحال لا يمكن تصور تنمية اجتماعية في ظل غياب أو ضبابية حقوق الإنسان التي كفلها له الإسلام، وفي هذا الإطار جاءت موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز على برنامج نشر ثقافة حقوق الإنسان لتؤكد العناية بالعنصر الأهم في المجتمع، ألا وهو الإنسان، الإنسان الذي كرمه الله على باقي المخلوقات وسخر له الكائنات والموجودات حوله، وعلى الرغم من إناطة هذا البرنامج بالمؤسسة الأم لحقوق الإنسان، وأعني بذلك هيئة حقوق الإنسان، إلا أن الهيئة تعول بشكل كبير على مؤسسات المجتمع الحكومية والأهلية على حدٍ سواء.
وإن من الوزارات التي يُعول عليها بشكلٍ كبير في إنجاح هذا البرنامج وزارة التعليم العالي لأهمية ومحورية التعليم العالي في تحقيق التنمية، وخصوصية المرحلة كون طالب الجامعة يتمتع بالفعل بممارسة الحرية الأكاديمية Academic Freedom في اختيار التخصص الدراسي وحرية الحوار والمناقشة والمشاركة في الأنشطة الجامعية.
إن الحديث عن حقوق الإنسان في البيئة الجامعية يجب أن تتوازى فيه النظرية بالممارسة والتطبيق، ولئن كانت العلاقة بين الأستاذ والطالب حجر الزاوية في هذه الحقوق إلا أن الواقع يؤكد لنا أن مسألة الحقوق تتجاوز هذا إلى الأساتذة أنفسهم ومدى تكافؤ الفرص بينهم في البدلات والامتيازات والمسؤوليات والدورات ... إلخ هذه التاءات حتى لا تلتهمها تاء المحسوبيات!
إنني أزعم أن التربية من أهم وسائط نشر ثقافة حقوق الإنسان، الأمر الذي يحتم على رجالات التربية وأساتذة التعليم (العام والعالي) تملك ناصية مهارات التربية على حقوق الإنسان بعيداً عن أسلوب الشخصنة والمحاولة والخطأ إن لم تكن الخطأ والخطأ! إن واقع الممارسة التعليمية يؤكد بكل جلاء أن ثمة فجوة تدريبية في مجال مهارات التربية على حقوق الإنسان لدى أساتذة الجامعات يأتي ضمنها أدبيات التوجيه والإرشاد الأكاديمي.
كما أن من الأهمية الإشارة إلى فجوةٍ تدريبية أخرى يجب ردمها وهي تنمية مهارات القياس والتقويم، إذ الاختبارات بمنزلة الميزان الذي يحكم به الأستاذ على طلابه، ولا شك أن هذا الميزان متى ما لحقه الخراب فإن الحكم سيكون ولا شك جائراً، ولا سيما في بناء فقرات الاختيارات من متعدد، خاصة نحن نشهد توسعاً في التعلم عن بُعد، الذي تعتمد الاختبارات فيه على الأسلوب الموضوعي.
إن تمتع البيئة الجامعية بالمحافظة على حقوق الإنسان وإتاحة جوٍ من الحرية المنضبطة كفيلٌ بالحد من هروب الشباب إلى العالم الافتراضي والتمترس خلف الأسماء المستعارة في دهاليز الأزقة الخلفية لعالم (الفيس بوك) و(التوتير) و(الوتز أب).
أذكر أني أشرفت على تقييم عضو هيئة التدريس من قبل طلاب الدراسات العليا وكان هذا التقييم ضمن أدبيات الجودة في الجامعة، والذي صدمني أن ثمة مجموعة كبيرة أحجمت عن هذا التقييم على الرغم من تأكيدنا سريته والتعامل من النتائج إجمالا! فتأملوا كيف يحجم الإنسان عن الرأي وإبدائه! إنها ثقافة مجتمعية تجيد (الوشوشة) وتحجم عن فضاءات الحرية المنضبطة بضوابط الشرع. ولا شك أن حقوق الإنسان ثقافة وممارسة واعية ربما حد منها ثقافة التوجس والريبة غير المبررة.
إن خريطة الطريق لنشر ثقافة حقوق في مؤسسات التعليم العالي تبدأ بالتوعية والتدريب وتحديد معايير الثقافة الحقوقية في البيئة الجامعية وتنتهي بصناعة القدوات الحية لتتعانق في نهاية المطاف النظرية بالتطبيق.
ولعلنا بعد هذه (الينبغيات) أن نشيد بتجربة جامعة الملك سعود في إنشاء وحدة حقوق الطالب وإخراج وثيقة حقوق الطالب والتزاماته، إذ ''تعتبر النصوص الواردة في هذه الوثيقة إطاراً عاماً لتحديد حقوق والتزامات الطرفين (الطلاب والجامعة)، كما أنها تعبر عن الفهم المتبادل بين الجامعة وطلابها فيما يختص بحقوقهم التي تكفلها لهم أنظمة الجامعة والالتزامات التي عليهم احترامها في محاولة للقضاء على النظرة الخاطئة التي تنظر للطالب بحسبانه وعاء للالتزامات والواجبات دون أن يكون له من الحقوق ما يكفل له حياة جامعية مستقرة وموفقة''.
كما أن المهتم والمتابع لقضية حقوق الإنسان يجد مدى مساهمة الجامعات في البحث العلمي في مجال حقوق الإنسان في أطروحات الماجستير والدكتوراه ، ولذا تجد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قد نوقش فيها عشرات الرسائل العلمية في هذا المجال وهذه فقط عناوين منها هي غيضٌ من فيضٌ:
حقوق الأجنبي وواجباته ومسؤولياته في نظام الإقامة السعودي .. دراسة مقارنة
ضمانات حرية المتهم في مرحلة الاستدلال .. دراسة مقارنة
حقوق وواجبات المرأة في نظام الخدمة المدنية السعودي .. دراسة مقارنة
حقوق العمال وواجباتهم في الإسلام
حقوق المعوقين في النظام السعودي .. دراسة مقارن
حقوق المدعى عليه في مجلس القضاء
حقوق الأولاد في الإسلام
مفهوم العنف في الفكر الغربي .. دراسة نقدية في ضوء الإسلام
مفهوم الحرية الدينية .. دراسة نقدية في ضوء الإسلام
التربية على حقوق الإنسان المدنية والسياسية في ضوء المنهج الإسلامي .. الأصول والتطبيقات
ولا بد أخيرا من الإشارة إلى بحثٍ لطيف للدكتور عبد اللطيف الحسين عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود فرع الأحساء حول ''تدريس مقرر حقوق الإنسان في مؤسسات التعليم العالي وأثره في ثقافة الطالب'' استقصى فيه الباحث مقررات الثقافة الإسلامية في الجامعات السعودية والكليات العسكرية وما احتوته من مفردات حقوق الإنسان في الإسلام وفي المواثيق الدولية، كما حقق الباحث أن هناك عددا من الجامعات والكليات العسكرية بالفعل قد أفردت مقرراً باسم حقوق الإنسان، وأوصى الباحث بإفراد مقرر لحقوق الإنسان في الجامعات السعودية والكيات العسكرية.
إن نشر ثقافة حقوق الإنسان ممارسة منهجية واعية .. فهل نعي ذلك ؟!!

خاطرة:
يا راحلين عن الحياة وساكنين بأضلعي
هل تسمعون توجعي وتوجع الدنيا معي
يا شاغلين خواطري في هدأتي وتضرعي
أنتم حديث جوانحي في خلوتي أو مجمعي
يا طائرين إلى جنان الخلد أجمل موضع
أتراكم أسرعتم؟! أم أنني لم أسرع؟!
كم قلت صبراً للفؤاد على المصاب المفجع
لكن صبري متعب ومدامعي لم تنفعِ

المزيد من مقالات الرأي