الروافد الحديثة لفقه المعاملات المالية

الروافد الحديثة لفقه المعاملات المالية

فقه المعاملات المالية .. لم يعد ذلك الفقه الذي يحكم المعاملات التي يغلب عليها الطابع الفردي في التعامل، وكذلك في إصدار الفتاوى، وتحديد العلاقة بين أطراف التبادل التجاري والمالي كما كان في السابق.. بل أصبح فقها يحكم عملا ماليا يغلب عليه العمل المؤسسي؛ (بنوك ومؤسسات مالية إسلامية..) كما أصبحت وظيفة إصدار الفتاوى الملزمة لهذه المؤسسات مسندة إلى مؤسسات جماعية كذلك (المجامع الفقهية، الهيئات الشرعية للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، المستشارين والمراقبين الشرعيين..) أما العلاقة بين أطراف العملية التجارية والتبادل المالي فقد أصبحت محكومة بالقوانين والنظم التي تصدها الدول التي تخضع هذه المؤسسات لقوانينها.

من هنا كان لا بد لفقه المعاملات المالية وهو يقوم بمهمته في التفاعل الإيجابي مع صيرورة الحياة الاقتصادية وتغطية المستجدات المختلفة للأمة المسلمة، أن يتعاطى مع كل الروافد الحديثة التي تفيده في الدقة في استيعاب الواقع، أوفي تحديد المسؤوليات وطرق فض النزاعات في الواقع العملي، فضلا عن استفادته من طرق تنظيم الحراك الذاتي وترتيب العملية الاجتهادية بانسياب وفاعلية.. ويمكن أن نلخص أهم هذه الروافد في المجالات الثلاثة التالية:

أولا : فقه المعاملات المالية والمحاسبة المالية نتحدث هنا عن العلاقة التي أصبحت تفرض نفسها بين فقه المعاملات المالية من جهة، وعلم المحاسبة من جهة ثانية؛ حيث تنبني العديد من الفتاوى الفقهية في مجال المعاملات المالية على أساس المحاسبة المالية التي تحدد مسار التدفقات المالية وطريقة احتساب الأرباح وغيرها. وهذه علاقة جديدة ورافد مستحدث من روافد فقه المعاملات المالية، قدم له مستطرة مستقرة في مجال التكييف الشرعي للعقود وتحقيق مناط الحكم عليها انطلاقا من ذلك.

ومن نافلة القول التنبيه هنا إلى أن الاختلاف حول التكييف الشرعي للمعاملة ومناط الحكم في الفتوى، يعتبر السبب الأهم في تضارب الفتاوى واختلاف وجهات النظر بين الفقهاء مقارنة بالاختلاف على مبدإ الحكم الشرعي .. ونذكر في هذا الإطار، قيام هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية – مشكورة - بإصدار كتاب للمعايير المحاسبية المطبقة في العقود والمنتجات التي تقدمها المؤسسات المالية الإسلامية.

ثانيا : فقه المعاملات المالية والقانون وهي علاقة استجدت بعد أن أصبحت العلاقة بين المتعاملين محكومة بالقوانين المنظمة للشأن الاقتصادي وللالتزامات والعقود بشكل عام في الدول التي تنتمي إليها هذه المؤسسات لوجودها في إقليمها أو للنص في العقود والاتفاقيات على مرجعيتها عند الاختلاف. فلا غرو أن نجد الخطوات الأولى لهيكلة وإصدار المنتجات المالية التي تقدمها المؤسسات المالية الإسلامية تمر عبر رجال القانون ودُور المحاماة؛ فالقوانين المالية والتجارية وقوانين الالتزامات والعقود في الدول التي تنتمي إليها المؤسسة المالية الإسلامية أصبحت تحكم العلاقة بين المتعاملين، كما أن البنوك المركزية لهذه الدول قد أصبحت وصية على تعاملاتنا المالية شئنا أم أبينا، فكان لزاما على فقه المعاملات المالية أن يستفيد من هذا الرافد المهم، بالقدر الذي يستوعب به المستجدات، ويراعي به إكراهات الواقع المختلفة من بلد لآخر، ويحمي به المؤسسات المالية الإسلامية، بما لا يتنافى مع مبادئ الشرع وقواعده.

ثالثا : فقه المعاملات المالية والعلوم الإدارية وبما أن عمليتي الفتوى والاحتساب على السوق (التأكد من أن عمليات البيع والشراء تقوم على أساس يحترم مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها) لم تعودا ـ كما كانتا في السابق ـ معتمدتين على الاجتهادات الفردية والمساعي الذاتية لكل فقيه، بل أصبحتا عمليتين منظمتين مؤسسيتين، فقد قامت علاقة جديدة بين فقه المعاملات المالية وعلم الإدارة سمحت لفقه المعاملات المالية أن يستفيد من علم الإدارة في ترتيب وضبط مؤسسات الفتوى المختلفة (المجامع الفقهية، الهيئات الشرعية، دور التدقيق الشرعي..) في ضبط العلاقة بين أعضاء هذه الهيئات وخبرائها وطريقة اتخاذ القرارات وإصدار التوصيات.

كما سمحت لهذا العلم أيضا أن يستفيد من علوم الإدارة في ترتيب الرقابة الشرعية بنوعيها الداخلي والخارجي، فضلا عن العلاقة بين الهيئات الشرعية المسئولة عن إصدار الفتاوى وإجازة العقود التي تتعامل بها المؤسسات المالية، وبين الإدارات التنفيذية المسئولة عن تسيير المؤسسات المالية بطريقة تلتزم فيها بأحكام الشريعة الإسلامية.

وتبقى استفادة فقه المعاملات المالية في ثوبه الجديد من هذه الروافد ومن غيرها - مع الإبقاء على أصالته وجوهره المعتمد على الأسس التي حددتها الشريعة الإسلامية الغراء في مجال الأموال ـ تبقى دليلا على حيوية هذا الفقه وقدرته على استيعاب المتغيرات الاقتصادية والروافد النافعة في العصور المختلفة.

* مراقب الشرعي لبنك الأسرة وهو بنك إسلامي للتمويلات الصغيرة والمتناهية الصغر في مملكة البحرين.

الأكثر قراءة