البطالة والسعودة والحلول الاقتصادية (2)

في المقال السابق بدأت الحديث عن تاريخ المشكلة الاقتصادية الخاصة بالعمل، ولعل البعض ينكر سردي هذا التاريخ، ويرى ضرورة التركيز على مشكلتنا الحالية، وأن السرد لن يقدم شيئا. على العكس من ذلك أرى مشكلتنا في أننا نتجاهل الجوهر الاقتصادي للقضية وأن الطرح الذي كان، والمستمر حتى الآن، هو طرح خارج نص النظرية الاقتصادية ولم تنظر إليه، ولذلك استعصت المشكلة على الحل إلا بقهر القوة، الذي إن جادت به الوزارة مرة عجزت عنه مرات. لا بد من معرفة أين تقع مشكلتنا في تاريخ الفكر الاقتصادي، وما الحلول التي جربها العالم، وهل حلولنا نابعة من هذا الرصيد الإنساني الزاخر أم أننا ما زلنا مصرين على أننا بدع من البشر وسنخوض غمار التجربة الخاصة بنا حتى ولو كان الثمن هدر الوقت الثمين والموارد النادرة وتكرارا مملا لأخطاء السابقين؟
في المقال السابق توقفت عند نقطة البدء في الحركة العلمية لتفسير الظواهر الاقتصادية التي كانت تحاول إقناع الجمهور بصحة تصرفات طبقة النبلاء والطبقة البرجوازية ـــ والحق أن كثيرا من التحليلات الاقتصادية حتى اليوم تقع في هذا الفخ بقصد أو من دون قصد. وبالعودة إلى السياق، فلقد بدأت المحاولات الجادة لتفسير السلوك الاقتصادي للمجتمع بالنهوض مع النجاحات التي حققها نيوتن في عالم الفيزياء وطريقته للمعرفة في ذلك. فلقد بدا الكون (كل الكون) وكأنه عبارة عن آلة تعمل وفق قواعد محتمة وعلى الإنسان الرضوخ لهذه الحتمية المطلقة، وكل ما عليه هو فقط محاولة فهمها واكتشاف القوانين والاستفادة منها إلى أقصى حد. إنها الحتمية التي أنجبت جيلا علميا صارما بدأت تتشكل مفاهيمه الحديثة عندما أنكر هيوم كل عبارة متعلقة بالكون مستقلة عن الحواس، ليعلن بذلك عن ولادة ''المادية الحتمية'' التي تقصر المعرفة على المحسوس من المادة أو ما تنتجه ''مادة'' العقل من علاقات منطقية ستكون هي مادية علم الاقتصاد لعقود طويلة بعد هيوم. ويجب ألا نخطئ في تفسير كلمة المادة ونعتقد أنها الأموال، بل المادة هي كل ما له واقع مستقل عن الإنسان الباحث عن المعرفة، ولأن هذا الوجود صيغ من مادة فهي الأصل والأساس، وستوجد كما هي حتى ولو لم يكن ثمة أي عقل يدركها ويحكم بوجودها. فالأرض، كمفهوم ندركه، هي تلك الكتلة من المادة موجودة كما هي قبل أن يستطيع أي عقل أن يدركها، بل حتى قبل أن يوجد عليها أي إنسان. المادة سابقة على الفكر، بل الفكر ذاته تابع لها وحركته مجرد عمليات فيزيائية ميكانيكية أو فيسيولوجية تجرى في حيز من المادة اسمه المخ.
لقد أسرت هذه المبادئ القاسية الفكر الغربي لبضعة قرون تلت، وانعكست قسوتها على علم الاجتماع وعلم الاقتصاد الوليد الذي بدأت معالمه تتشكل بصدور أهم كتاب عرفه التاريخ الاقتصادي وهو كتاب ''ثروة الأمم'' لآدم سميث. ولا مشاحة عندي إذا قرأت عبارة ''ثروة الأمم'' بشكل خاطئ وقلت ''ثورة الأمم''، فلقد تسببت تفسيرات هذا الكتاب لمبادئ علم الاقتصاد في ثورات وحروب حتى اليوم، ولعله (في نظري) أخطر كتاب أخرجته البشرية. ظهر كتاب آدم سميث عندما بدأت المصانع تظهر على أطراف إنجلترا وجنوب اسكتلندا في أواخر القرن الثامن عشر مدعومة برأسمال التجار والنبلاء، وبدأ العمال الذين كانوا يعملون في بيوتهم أو يصنعون الألبان والمنتجات المألوفة في مزارعهم يتدفقون على المدن التي بدأت تأخذ لقب (المدن الصناعية). كما بدأت تظهر الآلات كجزء مهم وأساسي في الإنتاج وخلق الثروة. جاء كتاب آدم سميث ليصف ويحدد العلاقات الجديدة بين الإنسان والآلة. وكما قلت فقد كان البحث والتفكير العلمي حتى ذلك الوقت متشبعا بمنهج نيوتن وفلسفة هيوم، ولم يكن آدم سميث كفيلسوف اقتصادي استثناء من ذلك. فلقد رأى أن الإنتاج هو ثروة الأمم التي لن تظهر إلا من خلال تضافر أربعة عناصر وهي: الأرض والآلة والعامل ورأس المال. لقد كانت تشبه الكواكب في نظرية نيوتن تدور حول بعضها البعض لا تستطيع تفسير حركة أحدها إلا إذا أخذت في الاعتبار حركة الآخر. وإذا كانت الكواكب تبقى في الحركة الكونية بفعل الجاذبية، فإن عناصر الإنتاج تتحرك وتتفاعل معا لتخلق الثروة (المنتج) بفضل ما سماه آدم سميث ''اليد الخفية''. فاليد الخفية في الاقتصاد تقوم بعمل الجاذبية في الفيزياء. واليد الخفية في أبسط صورها تقول إنه لا أحد يعمل ويضحي من أجل المصلحة العامة، بل من أجل مصالحه الذاتية فقط. فالخباز يصنع الخبز ليس لأنه يشعر بأن عليه واجبا تجاه الإنسانية ويجب أن يقوم به، بل لأنه يريد أن يبيع خبزه ليشتري به احتياجاته الأخرى، ولو قدر له الحصول على احتياجاته دون عمل الخبز لما قام بذلك. وهنا تظهر قسوة التجريبية الإنجليزية في ذلك الوقت فلا مثاليات تحكم العالم. وفقا لليد الخفية فعناصر الإنتاج تعمل لتجد حصتها في الثروة، فالآلة تعمل لتأخذ حصتها والأرض والعامل ورأس المال (فلا أحد يعمل لأجل المصلحة العامة، بل من أجل مصالحه الذاتية)، وهنا تتجلى أخطر أفكار آدم سميث. فكيف يتم توزيع الثروة على هذه العناصر؟
لم تكن هناك مشكلة مع الآلة فهي تريد ما يبقيها صالحة للعمل (سواء صيانة أو قيمة ما استهلكته من عمرها)، والأرض تريد ما يبقيها صالحة (الريع)، والعامل (الأجر)، ولأن آدم سميث أبو الرأسمالية فقد قال إن الفوائض من الثروة بعد التقسيم السابق يجب أن تعود إلى أصحاب رأس المال. لم تكن نظرية آدم سميث تقف هنا، بل حاول تفسير كيف نقدر ما يستحقه العمال (سعر الأجور) والأرض (سعر الريع) والآلة (أسعار الصيانة)، لذلك فقد تصدى آدم سميث بنفسه لتفسير كيف تتحرك الأسعار وقدم لها مفهوم السوق والمنافسة وأنهما من سيحددان الأسعار، ومرة أخرى يتضح تأثر آدم سميث بأفكار نيوتن وفلسفة هيوم، فهو يريد أن يصل إلى أسباب مادية حتمية بحتة لتفسير سلوك الاقتصاد.
وجد هذا الكتاب فور صدوره إقبالا كبيرا وقناعة واسعة، ذلك أنه تناسب مع أفكار وفلسفة عصره، وتحول آدم سميث إلى قديس الرأسمالية الملهم. كانت الأمور تجري بصورة جيدة مع تدفق العمال نحو المدن الصناعية، وكانت الأجور معقولة، لكن الأحوال بدأت تسوء على العمال مع تدفق الآلاف منهم بشكل كان يفوق احتياج المصانع الفعلي. ولأن آلة الاقتصاد تعمل دون مثاليات فقد انخفضت الأجور بشكل حاد نظرا للمنافسة وحكم السوق حتى وصلت الأجور إلى حد الكفاف وأصبح العمال يأخذون من ثروة الإنتاج ما يبقيهم على قيد الحياة فقط، وهذا بالطبع ما كانت نظرية آدم سميث تنظر إليه وتفسره بجدارة. بقيت الرأسمالية تصر على هذه التفسيرات وتمنع أي تدخل، فيجب على الطبيعة أن تأخذ مسارها، وهو ما كان يقوله ستورات مل أخطر فقهاء الرأسمالية على العمال حتى اليوم. ... يتبع..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي