Author

عالم من المناطق المتعاونة

|
في كل أنحاء العالم تقريباً هناك من المشكلات العويصة التي ظلت تتفاقم لعقود من الزمان ما يمكن حله من خلال التعاون الوثيق بين البلدان المتجاورة. ويقدم الاتحاد الأوروبي النموذج الأفضل للكيفية التي يستطيع بها الجيران الذين تحاربوا فيما بينهم طويلاً أن يلتقوا على منافع وفوائد متبادلة. ومن عجيب المفارقات أن يكون تراجع أمريكا اليوم بوصفها قوة عالمية عظمى سبباً في التعاون الإقليمي الأكثر فاعلية. قد يبدو التوقيت الآن غريباً للثناء على الاتحاد الأوروبي وامتداحه، في ضوء الأزمة الاقتصادية في اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا. صحيح أن أوروبا لم تنجح في حل مشكلة الموازنة بين مصالح البلدان القوية اقتصادياً في الشمال ومصالح البلدان الأضعف اقتصاداً في الجنوب. ولكن الإنجازات التي حققها الاتحاد الأوروبي تفوق رغم ذلك الصعوبات التي يواجهها حاليا. لقد نجح الاتحاد الأوروبي في تأسيس منطقة يسودها السلام على أرض شهدت ذات يوم حروباً طاحنة لا هوادة فيها. وقدم لنا الاتحاد الأوروبي الإطار المؤسسي لإعادة توحيد شطري أوروبا الغربي والشرقي. كما عزز البنية الأساسية على نطاق إقليمي. وكانت السوق المشتركة بمثابة العامل الحاسم في تحول أوروبا إلى واحدة من أكثر مناطق العالم ازدهاراً على كوكب الأرض. وكان الاتحاد الأوروبي رائداً عالمياً في مجال الاستدامة البيئية. ولهذه الأسباب فإن الاتحاد الأوروبي يقدم نموذجاً فريداً لمناطق أخرى لا تزال عالقة في أوحال الصراع والفقر والأزمات البيئية والافتقار إلى البنية الأساسية. والواقع أن بعض المنظمات الإقليمية الحديثة، مثل الاتحاد الإفريقي، تتطلع إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره نموذجاً وقدوة فيما يتصل بحل المشكلات الإقليمية والتكامل. ورغم ذلك فإن أغلبية التجمعات الإقليمية تظل إلى يومنا هذا أضعف من أن تتمكن من حل المشكلات الملحة التي يوجهها أعضاؤها. في أغلبية المناطق الأخرى، ترجع جذور الانقسامات السياسية الجارية إلى الحرب الباردة أو الحقبة الاستعمارية. ففي أيام الحرب الباردة، كان الجيران كثيراً ما يتسابقون على ''اختيار أحد الجانبين'' ـــ فإما أن يتحالفوا مع الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي. فمالت باكستان باتجاه الأمريكيين؛ في حين مالت الهند باتجاه السوفيات. ولم يكن لدى البلدان القدر الكافي من التحفيز أو الدافع لصنع السلام مع جيرانها ما دامت تتمتع بالدعم المالي من الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي. بل إن الصراعات المستمرة كثيراً ما كانت تؤدي بشكل مباشر إلى مزيد من المساعدات المالية. الواقع أن الولايات المتحدة وأوروبا كثيراً ما عملتا على تقويض التكامل الإقليمي، الذي تصورتا أن من شأنه أن يحد من أدوارهما كوسطاء للقوة. لذا فحينما أطلق جمال عبد الناصر الدعوة إلى الوحدة العربية في خمسينيات القرن العشرين، نظرت إليه الولايات المتحدة وأوروبا باعتباره تهديدا. فسارعت الولايات المتحدة إلى إضعاف الدعوة التي أطلقها إلى تعزيز التعاون العربي والقومية العربية، خوفاً من خسارة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. ونتيجة لهذا اتجهت مصر تحت زعامة عبد الناصر نحو الانحياز المتزايد للاتحاد السوفياتي، وفي النهاية فشلت في مسعاها الرامي إلى توحيد المصالح العربية. بيد أن الواقع اليوم يؤكد أن القوى العظمى لم تعد قادرة على تقسيم واحتلال مناطق أخرى، حتى ولو حاولت. فقد ولى عصر الاستعمار، ونحن الآن نتجه إلى عصر ما بعد الهيمنة العالمية الأمريكية. والواقع أن الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تعكس بوضوح انحدار نفوذ الولايات المتحدة. ذلك أن فشل أمريكا في الفوز بأي ميزة جيوسياسية دائمة من خلال استخدام القوة العسكرية في العراق وأفغانستان يسلط الضوء على حدود قوتها، في حين تؤكد أزمة الميزانية التي تواجهها على اضطرارها إلى خفض مواردها العسكرية عاجلاً وليس آجلا. وعلى نحو مماثل، لم تلعب الولايات المتحدة أي دور في الثورات السياسية الجارية في العالم العربي الآن، بل لم تُظهِر حتى الآن أي سياسة واضحة في التعامل مع هذه الثورات. كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس باراك أوباما أخيرا بشأن الشرق الأوسط بمثابة تأكيد إضافي على تراجع النفوذ الأمريكي وانحداره في المنطقة. ذلك أن أبرز ما في الخطاب كان دعوة إسرائيل إلى العودة إلى حدود عام 1967، ولكن تأثير هذه الدعوة تلاشى عندما رفضت إسرائيل بشكل بات وقاطع موقف الولايات المتحدة. وبوسع العالم الآن أن يدرك أن المتابعة العملية لهذا الموقف ستكون هزيلة إلى حد كبير. والواقع أن باقي الخطاب كان أكثر دلالة، ولو أنه لم يسترع قدراً كبيراً من الاهتمام العام. فعندما ناقش أوباما الاضطرابات السياسية العربية، علق على أهمية التنمية الاقتصادية. ولكن عندما تعلق الأمر بالتحرك من جانب الولايات المتحدة في هذا الاتجاه، فلم يسعها أن تعرض أكثر من إعفاء مصر من قدر ضئيل من الديون المستحقة عليها (مليار دولار)، فضلاً عن ضمانات قروض تافهة (مليار دولار أخرى) وبعض التغطية التأمينية لاستثمارات خاصة. وكانت الرسالة الحقيقية أن حكومة الولايات المتحدة لن تساهم مالياً إلا بأقل القليل في دعم التعافي الاقتصادي في المنطقة. والآن بات من الواضح أن الأيام التي كان بوسع أي دولة أن تعتمد فيها على مساعدات مالية أمريكية ضخمة قد ولت إلى الأبد. نحن باختصار نتحرك في اتجاه عالم متعدد الأقطاب. ومن الواضح أيضاً أن نهاية الحرب الباردة لم تسفر عن تعزيز هيمنة الولايات المتحدة، بل أدت في الواقع إلى توزع القوة العالمية على مناطق عديدة. فالآن اكتسبت مناطق مثل شرق آسيا، وجنوب آسيا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط نفوذاً جيوسياسياً واقتصادياً جديدا. ويتعين على كل من هذه المناطق الآن أن تجد طريقها الخاص نحو التنمية الاقتصادية، وتأمين الطاقة والغذاء، وتشييد البنية الأساسية الفاعلة، كما بات لزاماً عليها أن تفعل ذلك في عالم مهدد بتغير المناخ وندرة الموارد. ومن هنا فإن كل منطقة ستكون ملزمة بتأمين مستقبلها. ولا شك أن هذا لا بد أن يتم في سياق من التعاون فيما بين المناطق المختلفة وداخل كل منطقة على حِدة. والواقع أن الشرق الأوسط في موقف قوي يسمح له بمساعدة نفسه. فهناك درجة عالية من التكاملية بين مصر ودول الخليج الغنية بالنفط. فمصر قادرة على توريد التكنولوجيا والطاقة البشرية وقدر لا بأس به من الخبرات للمنطقة العربية، في حين تستطيع دول الخليج توفير موارد الطاقة والتمويل، فضلاً عن بعض المتخصصين. والآن بات من الأهمية بمكان أن يعاد طرح رؤية الوحدة الاقتصادية العربية التي تأخرت طويلا. وينبغي لإسرائيل أيضاً أن تعترف بأن قدرتها على ترسيخ أمنها وازدهارها في الأمد البعيد ستتعزز في إطار منطقة أكثر قوة وازدهاراً على الصعيد الاقتصادي. والآن يتعين على إسرائيل أن تتصالح مع جيرانها إن كانت راغبة في حماية مصالحها الوطنية الخاصة. هناك مناطق أخرى أيضاً سوف تجد في تراجع قوة الولايات المتحدة سبباً لتعاظم إلحاح الحاجة إلى تعزيز التعاون مع الجيران. ولا بد من نزع فتيل بعض أعظم التوترات في العالم ـــ ولنقل بين الهند وباكستان، أو بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية ـــ كجزء من تعزيز قوة مثل هذه المناطق بالكامل. وكما أثبت الاتحاد الأوروبي فإن العداوات القديمة وخطوط القتال من الممكن أن تتحول إلى تعاون وتبادل للمنفعة إذا تطلعت أي منطقة إلى المستقبل، من أجل العمل على تلبية الاحتياجات البعيدة الأمد، بدلاً من الانتكاس والعودة إلى الخصومات والصراعات القديمة. خاص بـ «الاقتصادية» حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.
إنشرها