زيادة الإنفاق الاستهلاكي ضعف زيادة الدخل.. فمن أين يسدد الفرق؟

يقتصر الكثيرون على دخل العمل كالرواتب في التعرف على قوة الطلب على الطعام والسكن وغيرهما. هذا غير دقيق. دخل العمل (الوظيفة) هو أحد مصادر الدخل الشخصي. ولعله من الأنسب إعطاء مزيد توضيح حول هذا الدخل الشخصي بصفته أهم محددات الطلب على الإسكان وغيره. وسأتحدث مستقبلا ـــ إن شاء الله ـــ عن محددات العرض.
لندخل إلى الموضوع من باب الإنفاق الاستهلاكي. ارتفع الإنفاق الاستهلاكي من 313 مليار ريال عام 2005 إلى 556 مليار ريال عام 2010 (المصدر موقع مصلحة الإحصاءات)، أي بزيادة نسبتها 72 في المائة. وطبعا وقعت هذه الزيادة مع وجود عشرات المليارات سنويا من تحويلات اليد العاملة غير السعودية، التي لا تنفق محليا.
في المقابل، زادت دخول الناس في الحكومة والقطاع الخاص من النشاط الإنتاجي (العمل أو الوظائف) زيادة لا تتجاوز (تقديرا) نصف زيادة الإنفاق الاستهلاكي خلال الفترة نفسها. وحسب موقع المصلحة، ارتفع تعويض العاملين في جميع القطاعات من 270 مليار ريال عام 2004 إلى 373 مليار ريال عام 2009، أي بزيادة 38 في المائة. تعويضات العاملين في كل السنوات أقل من الإنفاق الاستهلاكي كثيرا.
زادت نفقات الحكومة في الباب الأول من الميزانية بنسبة في حدود 50 في المائة خلال الفترة نفسها. وهذه النسبة تشمل زيادة الرواتب والعلاوات والترقيات والتعيينات الجديدة. أما أغلبية العاملين في القطاع الخاص، وعددهم لا يقل عن ضعف العاملين في الحكومة، فمن البعيد جدا أن دخولهم من العمل زادت أكثر من 30 في المائة. والخلاصة أن زيادة رواتب الناس من كلا القطاعين لم تتجاوز 40 في المائة. وحيث إن نسبة كبيرة من هذه الرواتب تتسرب إلى الخارج، فمن المتوقع أن الزيادة في دخول الوظائف التي أنفقت محليا لا تتجاوز 35 في المائة بين عامي 2005 و2010. أي أن الإنفاق الاستهلاكي الخاص زاد زيادة لا تقل عن ضعف الزيادة في دخل العمل بعد استبعاد تحويلات غير السعوديين إلى الخارج.
السؤال التالي: ما تفسير ذلك؟
القروض ونحوها لا تكفي ولا تصلح جزئيا للتفسير، لأنها تحسم من الدخول مع فوائدها.
الرأي السائد في الأوساط الأكاديمية والبحثية أن الطلب أو الإنفاق يعتمد أولا على الدخل الشخصي. وهناك عوامل أخرى لا تعنينا في هذه المقالة. ورغم أن العمل يشكل عادة أهم مصدر للدخل الشخصي، إلا أن الاستنتاجات التي تقوم على تجاهل المصادر الأخرى من الدخل الشخصي في تفسير وفهم طبيعة التضخم والغلاء، ستكون استنتاجات ضعيفة الأساس. هذه قاعدة عامة في أي اقتصاد، وتتأكد أكثر في الاقتصاد السعودي وما شابهه في البنية. ذلك لأن من خصائص الدول المعتمدة اقتصاداتها على موارد طبيعية كالنفط، وخاصة إذا كانت ذات كثافة سكانية منخفضة نسبيا كالمملكة، من خصائصها انخفاض نسبة مصدر دخل العمل من الدخل الشخصي المتاح، مقارنة بأغلبية الدول الأخرى.
هنا مزيد توضيح. يمكن القول إن هناك نوعين رئيسيين من الدخول الشخصية: دخل عمل أو إنتاج (وظيفة أو بالقطعة مثلا) ودخل دون أي نشاط أو ما يسمى الدخل السلبي. جزء كبير من الدخل السلبي لا يسجل في سجلات الهيئات الإحصائية، ولكنه قطعا مؤثر في التفاعلات المحركة للأسعار.
ومن أمثلة الدخل الشخصي دون عمل أو نشاط؛ المساعدات والإعانات بأشكال متنوعة، والضمان الاجتماعي ومكافآت الطلاب، والإعفاءات من القروض كقروض صندوق التنمية العقارية. ماذا بشأن القروض التي يتراخى في تحصيلها كقروض الصندوق؟ من المؤكد أنها تعزز من قوة الدخل الشخصي، فهي تشبه بعض الشبه الدخل الشخصي دون عمل.
ومن أمثلة الدخل الشخصي السلبي أعطيات الوالدين والدخل الناتج من الأوقاف والمواريث. ومن الأمثلة دخل الأسهم وتأجير العقارات، ولو أن البعض يعدها دخولا من أنشطة استثمارية.
من أمثلة الدخل الشخصي السلبي أيضا العمولات التي يحصل عليها الكفلاء لمجرد استخدام أسمائهم في نشاط مكفوليهم من اليد العاملة غير السعودية، أو ما يعرف باسم التستر.
من أمثلة الدخل الشخصي السلبي الفساد الوظيفي. مع التوسع في الإنفاق المقرون بحب المال وضعف الرقابة وضعف النفوس، يكثر الفساد الوظيفي ويزيد حجمه. وينتفع المنتفعون من هذا الفساد كل بحسبه. تدخل الأموال في الجيوب وتنفق. هذه الأموال غير المحسوبة ضمن الاقتصاد الرسمي، ولكن تأثيرها يظهر قطعا في التضخم وارتفاع الأسعار، ومنه أسعار المنازل. وهو الارتفاع الذي كان محور مقالة الأسبوع الماضي،
الملاحظ أن نسبة الدخل السلبي ترتفع في الاقتصاد السعودي وأشباهه من الاقتصادات المعتمدة على موارد طبيعية، مقارنة بالنسبة في أغلبية الاقتصادات الأخرى.
لماذا لا تهتم عادة المؤسسات التمويلية كالبنوك بمصادر الدخل الشخصي المستمرة غير الراتب عند منح التمويل الشخصي؟
السبب المخاطرة. قد يكون الشخص صادقا، لكن فتح الباب يؤدي غالبا إلى التوسع ومن ثم الدخول في مخاطر تقوم على معلومات صعب التثبت من صحتها.
الخلاصة أن للدخل الشخصي عدة مصادر، والوظيفة أحدها. وتزيد قوة هذه المصادر في الاقتصادات النفطية، وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي