خيارات استراتيجية لمواجهة الدعاية والتضليل الإعلامي الإيراني

في عام 1988 كنت في الهند وكنت قد تعرفت إلى طبيب عراقي يدعى زاهر العبيدي، وزاهر في الأربعينات من العمر، وكان اللقاء مصادفة، لكن عندما كنا نسأله ما عملك الآن؟ كان الجواب طبيب، وكيف طبيب عربي وفي الهند، تبدو المسألة غير مقبولة أو مقنعة، وعندما كانت النقاشات تحتد بين مؤيد ومعارض، كنا نكتشف أن الدكتور زاهر مرة مع صدام ومرة بالضد منه، وهذا ما يثير شكوكنا بالطبع، وفي تلك الفترة كان لزاهر صديق جزائري قومي متعصب، وكانت مهنته الحقيقية بيع جوازات السفر، وكنا نستمع إليه بشوق حول قصص السفر بجوازات عدة، مرة أمريكي ومرة فرنسي ومرة بحريني، وكان يروي القصص على طريقة أرسين لوبين فيها حبكة وعقدة، لكن بعد خمس سنوات اكتشفنا أن الجزائري وزاهر كانا يسافران إلى إيران بطرق مختلفة، مرة عبر باكستان ومرة تركيا، وعلمنا متأخرا أن زاهر يعمل لمصلحة الاستخبارات العراقية (سابقا)، وكانت مهمته التعاقد مع العلماء.
في 1993 كنت في بغداد وكانت بدايات العمل في مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في بيروت، وكنت في زيارة لجامعة بغداد بحكم معرفتي الواسعة بعدد من أساتذة العلوم السياسية، ولكوني متخصصا في الشأنين الإيراني والتركي، وجدتها فرصة للحصول ما أمكن على رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه حول البلدين، وذهبت حينها إلى جامعة البصرة، حيث مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، وإلى جامعة الموصل، حيث مركز الدراسات التركية، وتوطدت علاقاتي بعدد من الباحثين لأسباب إنسانية أحيانا، وأحيانا لوجود توافق في الأفكار، ومد البعض يد المساعدة للحصول على أكبر قدر من الدراسات المتخصصة، فزرت كلية البكر للدراسات العسكرية، ووقفت على منجم هائل من المعلومات التشريحية عن الواقع السياسي الإيراني والتركي والإسرائيلي.
في هذه الفترة عرفت من بعض الباحثين أن في العراق باحثين كبارا في الشأن الإيراني والتركي والإسرائيلي، وعرفت أن الاستخبارات العراقية تحوي وثائق تاريخية ومعلومات غاية في الأهمية عن هذه البلدان الثلاثة، وقيل لي إن هذه المراكز تعرضت للاستهداف والقصف أولا من إيران أثناء حربها مع العراق، وللعلم أن مقر القسم الإيراني في الاستخبارات العراقية في حي الكاظم أحد أحياء بغداد وهو المقر الذي أعدم فيه صدام حسين؛ لأنه المقر الذي كان معنيا بمتابعة الأحزاب والشخصيات التي تتعاون مع إيران، ولأن القسم الإسرائيلي في المخابرات العراقية كانت فيه أعرق الوثائق التاريخية عن اليهود وعن إسرائيل، وأن القصف الأمريكي، الذي تعرضت له بغداد بعد احتلال الكويت وبعد بدء الحرب الأمريكية على العراق، استهدف هذا القسم وكان مقره ملحقا بكنيسة البشارة في بغداد وعلى مقربة من الجامعة التكنولوجية، ومن منطقة البتاوين معقل اليهود العراقيين.
في عام 2003 التقيت في عمان الدكتور مزهر دون سابق تنسيق، واكتشفت أن زاهر ليس طبيبا، بل لواء متقاعد في الاستخبارات العراقية، وكان مسؤولا عن الاستخبارات العلمية، وعند عودته من الهند إلى بغداد نهاية عام 1988 رأس القسم الإسرائيلي في المخابرات العراقية، والقسم الإيراني، وزاهر يتحدث خمس لغات: الفارسية، التركية، العبرية، العربية، والإنجليزية، لكنك لا يمكن أن تعرف أن زاهر هذا يمكن أن يكون أكثر من طبيب عام، أو موظف حكومي عادي!
في عام 2003، أي عام سقوط صدام واحتلال العراق من قبل أمريكا وإيران ودخول الأحزاب الشيعية وفرق الموت، كانت مخابرات صدام قد أتلفت الغالبية العظمى من أرشيفها المعلوماتي، وحولتها إلى معلومات ممغنطة، وبحسب المعلومات فقد اختصرت الدولة العراقية قبل ستة أشهر من الاحتلال لتصبح جهازا خاصا يدير المقاومة العراقية ويقود تفصيلات المشهد العراقي بعد انقلاب الأحوال، وحولت الدولة مئات الملايين بحسابات شخصية وسرية لهذا الجهاز السري.
زاهر العبيدي، لم يكن الاسم الحقيقي كما عرفت لاحقا، فأسماء العلماء ورجال المخابرات العراقية كانت تكتب لهم أسماء مختلفة جدا عن الحقيقة، وأن العديد منهم عاش ومات بالاسم المنحول وبعضهم سمى أبناءه بالاسم الجديد عندما اضطر للزواج في بلاد الغربة، وبعضهم كان يعرف بنفسه بأنه يهودي أو مسيحي أو من أصول فارسية وهو غير ذلك، لكن هذا ما عليه في وثائق الجنسية، وكثير منهم لا يمكن أن تتعرف إليه إلا باسمه الجديد، والعلماء في الهندسة النووية والبيولوجية مثلا، كانوا مصنفين بحسب جهاز المعلومات الحكومية (التأمينات) بالأسماء الجديدة، وتخصصاتهم ليست كما الحقيقة أيضا، بل تكتشف أنه أستاذ في الفنون الجميلة رغم أنه حاصل على الهندسة النووية، واكتشفنا أن ديفيد كي المبعوث الأممي الأمريكي للتفتيش على العراق حاصر جهاز الخدمة المدنية في بغداد، وكان يستهدف الحصول على أسماء العلماء وتخصصاتهم من هذه المؤسسة، لكن المفاجأة أن كي لم يحصل على الأسماء.
قبيل الاحتلال كان ثمة اتفاق عراقي داخلي أن تذهب الخبرات العراقية العلمية والأمنية إلى دول عربية بعينها، وفعلا خرج من العراق المئات وبتخصصات نادرة ودقيقة في مختلف القطاعات العلمية، لكنهم آثروا أن تكون عقودهم كالتالي أستاذ رياضات ودكتور في الزراعة وخلافه، وبحسب زاهر العبيدي فإن رجل مباحث عراقيا حمل معه لعاصمة عربية آلاف السيديهات محملة بكل المعلومات الاستخباراتية حول إيران وإسرائيل وتركيا، وأنه استقطب لهذه الدولة عددا من المتخصصين بالشأن العلمي والأمني الإيراني والإسرائيلي تحديدا، وأن هؤلاء سبق لهم أن أشرفوا على علاقات سرية مع قوى داخل إيران ومع عملاء في إسرائيل، وأن بإمكانهم القيام بالدور ذاته لدولة عربية اختاروها هم طبعا، لا بل أشرفوا على تأسيس أقسام للشأنين الإيراني والإسرائيلي فيها!
بعد الأحداث الأخيرة في البحرين، وبعد الموقف الإيراني المتناقض من داعم لانتفاضات البحرين ومؤيد لقمعها في العراق، وداع لتبني ثورات الشعوب، وأن روح الثورة تحوم حولها في مصر وتونس، والبحرين، كنا نتوقع أن يتحدث المرشد بشيء من العدالة من أن روح الثورة تحوم حول سورية وحول العراق الجديد أيضاً، لكن الأمر ليس أبعد من سياسة، فالسياسة تتغير تبعا لتغير المصالح، لكن الأخطر جدا أن يصبح الدين أيضا جزءا من هذه الاستخدام، وجزءا من التناقض.
هنا تذكرت كلمات لزاهر العبيدي قالها ذات مرة، لا أحد يعرف إيران أكثر من العراقيين، وأضاف إنك كباحث في العقيدة السياسية الإيرانية والتركية أصبت كبد الحقيقية عندما قلت إن منظومة القيم والأخلاق السياسية والدينية في إيران هي طبقة تغلف المصالح القومية؛ ولهذا كان صدامنا مع إيران صدام قوميات، لكن إيران كانت تغلف ذلك بمسحة إسلامية، والعراق غلافه علماني، وأن فاعلية العقيدة تزداد قوة عندما تجد انطباقا حقيقيا بينها والسياسة، وأن الحروب والصراعات والأطماع تبقى جزءا مهما من ظل التاريخ السياسي باستمرار، ويضيف العبيدي أن التحولات الاجتماعية السياسية الكبرى في العادة تفرز إفرازات مغايرة لها، ولهذا كان الغرب يعي جيدا أنه وبعد علمانية الشاهنشاه، فإن هناك دولة دينية، وبعد علمانية صدام دولة طائفية، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي حصل ازدحام على الكنائس، وبعد مبارك هناك مسحة إسلامية للحكم، وبعد علمانية بن علي هناك حضور إسلامي، وقال العبيدي إن إسلامية طهران وصلت قمتها وذروتها وهي تستعد للسقوط فهي في الرمق الأخير، وإن القوى المدنية والليبرالية هي القادمة.
وقال زاهر العبيدي بعد خبرة طويلة، إنه كي تعلم كيف يفكر الآخر عليك أن تكون متجليا في الجغرافيا السياسية الجيوبوليتكس والجغرافيا الدينية والجغرافيا النفسية، وقال (لك معلومة) في فترة الاستعمار البريطاني كانت الاستطلاعات والاستكشافات والاستخبارات تتبع المساحة العسكرية، فلا وجود للتكنولوجيا، آنذاك والاعتماد في القراءة والتحليل يكون بفهمك للخصائص الشاملة لأي مجتمع، وضرب أمثالا بأن هيرودوتس علمته الأسفار والرحلات والتنوع والمعارف بعادات وثقافات الشعوب أن يعكس ذلك في كيفية قرءاة وتعامل اليونان مع العالم؛ ما منحها قوة في فهم الآخر والتعامل معه، وكذلك ماجلان وكولومبيس، وبالتالي فإن فهم خصائص الآخر وطبيعته ومعالمه وثقافته وتناقضاته يمكّننا التعامل معه بقوة وتأثير، ولهذا دور كبير في مفهوم المجال الحيوي من ناحية الفضاء الجغرافي والسلطة والنفوذ.
زاهر العبيدي وفريقه، مهم جدا لأي دولة عربية تجد نفسها باتت عرضة للتدخل الخارجي، وباتت جزءا من مخططات وتفاهمات خارجية، وجزءا من عمليات إدامة التوتر وشد الأطراف، والقلاقل الداخلية، وإثارة النعرات الطائفية. قلت لزاهر كيف ترى ما يجري عربيا؟ قال أنا لا أحبذ التحليلات في الهواء، إنما أحبذ العمل مقرونا بالصمت هكذا كنت أعمل، وأنت تعرف أن الخصائص القومية الإيرانية متنافرة وغير قابلة للاندماج، حتى الاندماج بالقوة لا يتم، بل على العكس من ذلك، يؤدي إلى حالة تمرد مضادة، فقد أرادت إيران أن تدمج قومياتها دمجا عنيفا، لكنها لم تستطع، ولهذا بدأت إيران رحلة الإقصاء والتهميش وتغيير الخريطة السكانية لمناطق اللون القومي أو الديني الواحد كما في بلوشستان وعربستان، وهو ما يؤكده مصطفى تاج زاده في بحثه الموسوم "القوميات الإيرانية .. الهوية والوحدة الوطنية" فيقول زاده: "إن طريق (التنمية المفروضة) تستند بالأساس إلى (حربة البندقية) مقرونة بانتهاك ونفي الكثير من حقوق المواطنين الثقافية، المدنية والسياسية، ومضمونه الكلي يتلخص في (حذف الآخر ودمجه)، وأن هذا الموديل من النظام قائم على الأسس التالية: نفي الحقوق والحريات السياسية والدمج الإجباري العسكري للعادات والتقاليد وحتى لغة الأقوام أو الشعوب الإيرانية وتغيير النسيج السكاني، وحرمان الشعوب (الأقوام)، ووضع العراقيل في طريقها لمنعها من تبوء المناصب الدينية والعسكرية العليا".
ضمن هذا المنطق وضمن هذه الرؤية أعود إلى مقالة جيفري جولدبرج في "أتلانتك مونثلي" "إيران ونقطة اللا عودة" إنه علم وفي إسرائيل وبعد لقاءات عدة مع العديد من السياسيين والعسكريين أن قرارا إسرائيليا سيتسخدم من طرف واحد حيال المشروع النووي الإيراني، وأن إسرائيل لم تعد تعتمد على ضمانات الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وأن تل أبيب عرضت علاقات استراتيجية مع الهند والصين ومع روسيا وتركيا، وقال جيفري، الذي زار إيران مرارا، أكاد أكتشف أن هناك تقاربا في التفكير بين الطرفين وأن لهما منهجية متقاربة، ويستدرك جيفري بالقول إن أكثر الجوانب تعاسة بين إيران وإسرائيل أن الملك قورش هو من أعاد اليهود إلى أرض إسرائيل بعد أن حررها من الأسر البابلي منذ 2500 سنة.
سألت زاهر العبيدي عن هذا السر في العداء الظاهري والمخاوف الحدية من كلا الطرفين إيران وإسرائيل، فقال: الأقاليم الجغرافية المتماثلة تلتقي وتتصارع، لكنها تؤدي لبعضها خدمات استراتيجية جليلة، فالصهيونية حركة عنصرية قومية ودينية، وهم يؤمنون بدولة دينية ولا يؤمنون بدولة ثنائية القومية، هذا ما حملته إسرائيل أخيرا، فالأقاليم المتنافرة وفاقدة القدرة على التعاون مع الجميع تعيش حالة من القلق التاريخي، وتعيش حالة من العصاب والرهاب الاستراتيجية ليس له مبررات، فإسرائيل متعصبة دينيا وقادتها غالبيتهم عسكريون ومتطرفة سياسيا مع الآخر، لكنها في الداخل تبدو ديمقراطية، وهذا يناقض الحقيقة كيف تبدو ديمقراطيا ومدنيا والدولة في أعلى حالات العسكرتاريا، وكذلك إيران في داخلها فارسية وتحمل في بطنها حملا دينيا متطرفا ومتناقضا مع الآخر، ولا يعترف به إلا إذا كان تحت سطوته، فهي تتعسكر منذ الثورة، وتطور كل مجالات التسلح، والداخل الإيراني السلطة فيه للعسكر ورجال الدين، وكلتا الدولتين مأزومتان مدنيا لا بل ساقطتان أيضا، ومع ذلك فإن العداء الظاهر بينهما يؤمّن مجالا أمنيا وسياسيا لكل طرف، فكلتاهما في حاجة إلى هذا العداء لغايات وأسباب مصلحية، لكنه عداء لن يصل إلى حرب احتراما لهذه المصالح واحتراما لقورش.
هنا تحدث زاهر عن أن المواجهة الحقيقية مع هذه البلدان ليس ميدانها الإعلام والسياسة فقط؛ لأن هذه لعبة الدولتين، إسرائيل لها لوبي إعلامي عالمي، وإيران ساعية إلى أن يكون لها لوبي إعلامي، والاثنتان لا تملك الدول معرفة كثيرة عن خصائص القوة والضعف الداخلي فيهما، وهو سر الإيذاء، فهي دول متفسخة من الداخل، ومن عادة الدول التي تعيش أزمات داخلية أن تتوحد في خلق أزمة وجبهة خارجية مع العالم تبدو فيها قوية وهي ضعيفة؛ ولذلك علينا أن نقلب المعادلة الاستراتيجية التقليدية، وأن نتعامل مع الآخر وفقا لمنطق مخالف طالما أن هدفه الإيذاء وتعكير صفو الأمن الوطني لبلدنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي