كوابح ثقافة الحوار

في مناقشة مع نخبة من المثقفين العرب، دار الحديث حول مبادرة رئيس السلطة الفلسطينية، ''أبو مازن'' للذهاب إلى قطاع غزة، ولاجتماع بقادة حماس، لإنهاء حالة الانقسام بين الضفة والقطاع، الذي يتزامن مع تهديدات صهيونية بضرب الضفة والقطاع، لتأمين سلامة المستوطنات الصهيونية، في الأراضي المحتلة. تشعب الحديث، وانتقل من الجزئي إلى العام.. من الأوضاع الفلسطينية إلى الأوضاع العربية، حيث الثورات والصراعات والاحترابات، في عدد من البلدان العربية. لماذا نحن العرب هكذا نرفض لغة الحوار، بينما الآخرون، في الغرب يحتكمون إلى المؤسسات والدستور والقانون؟ وكانت صور أخرى من جلد الذات.
تتالت الأجوبة، وكانت في غالبها مألوفة، بعضها وجد العلة في تكلس النصوص، وسد أبواب الاجتهاد، وبعضها الآخر طالب بانقلاب ثقافي، أو ثورة ثقافية. فهذه الثقافة لا تقبل الآخر، وترفض لغة الحوار، وهي ثقافة تقوم على تضخيم الذات، وترفض المبادرة، وتعطل الإبداع، وهي ثقافة تقريرية، يقينية، لا تؤمن بنسبية الحقائق.
جواب ثالث، حسم الموضوع وقال إن ثمة خطأ في الجينات العربية، فهذه الجينات تقدس الفرد، والنتيجة أن أمتنا لا تفرخ سوى الطغاة. يأتي الثائر إلى السلطة، فيأمل الناس خيراً، وبعد فترة وجيزة، بقدرة قادر لا يلبث أن يتحول إلى الضفة الأخرى، من مناضل يحمل هموم وآمال الأمة في وطن حرّ موحد سعيد، إلى ضفة اللصوص وسارقي قوت الشعب، والمتنكرين لأحلامه ولحقوقه.
بدت جميع الأجوبة، متماهية مع ثقافة الاستشراق، ثقافة تسلبنا الإرادة وتلهبنا بالسياط، وتعالج عقدة الذنب لديها بالقفز فوق تاريخ طويل من القهر، من خلال تحميل الضحية مسؤولية وتبعات ما جرى ويجري لها. وقد استشرت هذه الثقافة المهزومة في معظم أدبياتنا، منذ نكسة حزيران (يونيو) 1967، من هوامش على دفتر النكسة، إلى تهدم المسرح من أركانه، ووتريات ليلية في الشعر، وفي مسرحية ''يحيا الوفد'' وأعمال دريد لحام والماغوط في ''غربة'' و''ضيعة تشرين'' و''كاسك يا وطن''. إلى عشرات الأفلام السينمائية ''الكرنك'' و''الحدود'' و''التقرير'' والمسلسلات التلفزيونية، وأطنان المقالات في الصحف، تمارس جلد الذات، وتسهم عن عمد أو بحسن نية في قهر مقاومات الأمة وزعزعة ثوابتها الوطنية. لا محيص إذاً من إعادة ''الوعي المفقود'' إذا جاز لنا استخدام عنوان كتاب المرحوم الأستاذ محمد عودة. وهي بالتأكيد مهمة تضعنا في الموقع الصحيح، في سياق الحراك الكوني والإنساني.
قراءة تاريخ أوروبا ما قبل عصر النهضة، حتى يومنا هذا تشي بحقائق مغايرة تماماً، لما تطرحه أدبياتنا ووسائل إعلامنا. فالغرب عاش حروباً محلية قبل نشوء الدولة القومية، استمرت ما يقرب من الـ500 عام. وقد أدت تلك الحروب إلى بروز نظريات عرفت بالدورات التاريخية. وهناك أيضاً نظرية الحق إلهي، وصكوك الغفران، واحتكار قراءة وتفسير الكتاب المقدس، وحرق للمبدعين والمفكرين، وكانت قصة جان دارك وجاليليو. ولم تنشأ حركة الإصلاح الديني، بقيادة مارتن لوثر وكالفن من فراغ. كانت تعبيراً عن تفاعلات اجتماعية واقتصادية وانتقال في مراكز القوى، عبرت عن نفسها بقيام مدن وطبقات جديدة، وحرف جديدة، وقتل بالآلاف للرهبان والراهبات في عهد الملك هنري الثامن، ثم ما لبثت تداعيات تلك الأحداث أن تحولت إلى ثورات فكرية وإبداعات شملت الفنون والآداب والفلسفة، وبروز عدة مذاهب فكرية وفنية وفلسفية، رومانسية وسيريالية، وواقعية.. ومسارح عبث ليتضح في مراحل لاحقة أن تلك الإرهاصات لم تكن سوى مخاض الولادة لانفجار ثورتين رئيستين اجتماعيتين هما الثورة الفرنسية والثورة الإنجليزية.
بعد انتصار الثورتين، وانتقال السلطة في البلدين من الإقطاع إلى البورجوازية، وقيام نظام يستند إلى ما يدعوه ماكس فيبير بالعقلانية القانونية، رأينا الصراعات بين الثوار تتفاعل، لتتحول إلى تصفيات جسدية واحتراب دموي، وتغيرات مستمرة في هرم السلطة انتهت بمصرع معظم قادة الثورتين. وكان في مقدمة الضحايا الخطيب المفوه للثورة الفرنسية، روبيسبير، وقائد الثورة الإنجليزية، كرومويل، وكثير من الذين بشروا بالثورة، من أمثال جون مليتون صاحب الملحمة الشعرية، الفردوس المفقود، ولتسود مقولة ''الثورة تقتل أبناءها'' في المجتمعات الغربية، في حقبة مرتبكة من التاريخ.
إن هذا الغرب هو ذاته الذي بنى الدولة القومية، المستندة إلى العلاقات التعاقدية، محدثاً تغيرات جوهرية في هياكل ونظم الحكم، معززا الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية، لينتقل لاحقاً إلى مرحلة أعلى في تاريخ نشوء الإمبراطوريات، فيرسل أساطيله وجيوشه عبر القارات، وليبدأ رحلة الكشف عن المضايق والممرات الدولية، ومرحلة الاستعمار، حيث السطو والنهب للمواد الخام والأساسية، وإحكام السيطرة على المواقع الاستراتيجية في العالم بأسره.
لم يتغير جوهر الدين، إنما تغيرت سلطة سدنته، وضعف تأثيرهم. وكانت التغيرات الهيكلية الاجتماعية قد أدت إلى انشطارات وبروز مذاهب دينية جديدة، بما يتوافق مع التطورات الهائلة من حولهم. وكانت الكلفة دائماً باهظة في الأرواح والممتلكات.. ملايين القتلى والمهجرين والمنفيين، الذين رحل كثير منهم إلى القارتين الجديدتين: أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية ليلعبوا لاحقاً دوراً رئيساً في إدارة هذه الأمة البكر. وليتم صراع دموي شرس، يصل إلى حد إبادة السكان الأصليين.
الحديث عن جينات خاصة لمجتمعاتنا، غير واقعي وغير علمي، ويحمل إيماءات عنصرية، وهو جزء من حملة التحشيد ضد شعوب العالم الثالث، وهو ضرب من الحرب على الذات، وسقوط في شرك الترويج لثقافة الهزيمة، وليس من القبول، أخلاقياً ووطنياً، تسويقه في أدبياتنا وأجهزة إعلامنا.
وإذاً فهو ليس الموروث بمفرده، وليست الثقافة بمفردها، وهي بالتأكيد ليست الجينات التي تحجب عنا لغة الحوار، والتماهي مع عصر كوني سمته الديمقراطية وقبول الآخر، ولكنها أمور أخرى، ينبغي البحث عنها في محاور أخرى، لعلها الإرث الكولونيالي وضعف الإرادة السياسية، وضعف الهياكل الاجتماعية، وعجز الدولة القطرية عن الوفاء بالتزاماتها، وهو عجز كامن في طبيعة نشوئها وتكوينها. ولا شك أن التغيير في الثقافة والموروث يتطلب توافر المناخ والبيئة الملائمة للتغيير، وانتقالاً حقيقياً وحاسماً في مراكز القوى، بما يعزز من الدفع السريع بمشروع النهضة، وهي محاور في حاجة إلى مناقشات مستفيضة وعميقة، في أحاديث أخرى قادمة ـــ بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي