استحقاقات متوقعة

كان خادم الحرمين الشريفين قد ألقى خطابا في مجلس الشورى قبل نحو عامين قال فيه: ''إن الأمة تواجه تحديات يأخذ بعضها برقاب بعض، وإن هذا يستدعي من الجميع يقظة وتوحيدا للجهود. ونبه ـــــــ شفاه الله ــــــ إلى أن الانتصار لا يتحقق لأمة تحارب نفسها، وقد طارت هذه الجملة في الآفاق لبلاغتها وصحتها وعمق حكمتها. وأكد حينها ــــــ رعاه الله ــــــ أنه عازم على مواصلة مسيرة الإصلاح والتطوير. وقد تلقت الأمة هذا الخطاب الملكي بمزيد من الغبطة والارتياح. فقد بات الجميع يدرك أن التطوير والإصلاح هما سبيل النجاة من التحديات والمخاطر الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه مجتمعنا. واليوم لم تعد حاجتنا إلى التطوير والإصلاح محل تساؤل أو نقاش، بل الأهم هو كيفية ومدى سرعة تنفيذ برامج الإصلاح؛ لأن الجميع بات يدرك ما لهذا من أهمية قصوى لصيانة مصالح البلاد العليا في حفظ أمنها واستقرارها من أجل مواصلة مسيرة البناء والتنمية، ورعاية أبنائها من الأجيال الصاعدة وتحويلهم إلى قوى منتجة تبعدهم عن شبح الفراغ القاتل والإحباط المدمر الذي يجعلهم عرضة للأفكار المتطرفة.
وقد دلت الأحداث الأخيرة في منطقتنا العربية على أن مضامين ذلك الخطاب الملكي الحكيم كانت ثاقبة وبعيدة النظر، وتستشرف المستقبل بشكل صحيح. فمن يتأملها يدرك أنها تنبه إلى أن كل من يصادم سُنَّة التغيير والتطوير، ويظن أن الأمور ستبقى على حالها محكوم عليه بالفشل. وكل من يرضى بالجمود ويتصور أن الحاضر والمستقبل هما امتداد لصور الماضي، فإنه سيتخذ قرارات خاسرة! وأما النجاح فهو حليف الذين يسايرون الزمان، ويستشرفون المستقبل، ويسارعون في التغيير والتطوير، ويتكيفون مع وقائع الحياة الجديدة، ويعملون وفق مقتضياتها حتى إن أتت على خلاف ما تعودوه وألفوه.
إننا في حاجة إلى وقفة صادقة مع النفس نراجع فيها خطط الماضي، ونقيم جهودنا، ونتبين مدى نجاحنا في تحقيق أهدافنا. وعلينا الانتباه إلى مسألة كتبت عنها كثيرا، وأثبتت الوقائع الجارية صحتها، وجاء تأكيدها من كبار الاقتصاديين العالميين وآخرهم جوزيف ستيجليتز الذي كتب في هذه الصحيفة يوم الأحد الماضي، مؤكدا أن من أهم دروس أحداث تونس ومصر أن تحقيق معدلات جيدة من النمو الاقتصادي غير كاف وحده للحكم على سلامة اقتصاد أي بلد، إن لم يصاحب ذلك توفير فرص عمل لغالب أهل البلاد وتحسين مستوى معيشتهم.
لذلك علينا أن نعي جيدا أن القوة الحقيقية لاقتصادنا ليست في مجرد تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلية كنمو الدخل الوطني وزيادة الاستثمارات الأجنبية، بل إنها في كيفية استغلال وإدارة ثرواتنا، وحسن توزيع ثمرات هذا النمو لتستفيد منه الأمة جميعها. وسيعتمد النجاح حينها على مدى توافر الإرادة الصادقة والعزيمة الماضية في صنع تغييرات حقيقية ونوعية في صروحنا الإنتاجية، وقلاعنا التعليمية، وأساليبنا الإدارية، وفلسفتنا الرقابية، والتزاماتنا المنهجية. حيث يفضي بنا كل هذا في نهاية المطاف إلى اقتصاد وطني أكثر تنوعا ومتانة وقدرة على تحمل مخاطر تقلبات أسعار النفط، لا بل تحمل تبعات نهاية عصر النفط، عندما تأخذ بدائله طريقها إلى حياة الناس. وهي البدائل التي أخذ بعضها طريقه نحو التطبيق الفعلي في مجالات عديدة كانت تعتمد على النفط، ولم يتبقَ منها الآن تقريبا سوى قطاع النقل الذي ما زال يعتمد بصورة كبيرة على النفط كمولد للطاقة. وقد أفضت الجهود الدولية للبحث عن مصادر بديلة للطاقة إلى تآكل حصة ''أوبك'' في السوق العالمية من 70 في المائة في سبعينيات القرن الـ20 إلى 30 في المائة حاليا.
إننا بوجود عوائد النفط ما زلنا عاجزين عن تغيير هيكل اقتصادنا، فكيف بنا إذا دهمنا عصر نهاية النفط؟ إن للأزمات إرهاصات، لكنها إذا أزفت لا تستأذن أحدا. ونحن لم نعد نتحدث عن تحديات ومخاطر تعد ضربا من ضروب الاحتمالات البعيدة، بل غدت أقرب مما يتصور بعضنا. وإذا لم نبدأ ـــــ كما قلت في مقالة الأسبوع الماضي ــــــ بإدارة بلادنا وفق تفكير مستقبلي استراتيجي متطور ومتقدم، فإننا سنحكم على أنفسنا بالعجز عن وضع حلول حقيقية ودائمة لمشاكلنا الملحة، كالبطالة، والإسكان، وضعف البنى التحتية، وتواضع نوعية خدماتنا التعليمية والصحية!
ما من شك في أن التفوق الحقيقي الذي يمكننا من التصدي لمشاكلنا واللحاق بالآخرين هو التفوق على النفس أولا. والتفوق على النفس يكون بالإيمان بقدراتنا وبتفجير طاقاتنا وتنظيم أعمالنا في شكل مؤسساتي. إن بلادنا تزخر بالكفاءات الملهمة، التي تنتظر أن يفسح لها المجال لتعمل وتثمر. ونحن قادرون بحول الله وقوته على تحقيق ما حققه غيرنا، كماليزيا على الأقل! نحتاج فقط إلى التفاؤل والتحلي بالنظرة الإيجابية للحياة والتخلص من اليأس والعزم الصادق على العمل والإنجاز. علينا النظر إلى جملة التحديات كمصدر لشحذ العزائم وتجديد الهمم. إن الحياة فرص، والفرص قد لا تتكرر. لذا علينا أن نجبر أنفسنا على عمل ما نعلم أننا في حاجة ماسة إلى عمله، من أجل حماية وطننا وصيانة ثرواتنا ورعاية مصالح أجيالنا المقبلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي