لماذا الدين العام؟

تراجع ـــــ بفضل الله ـــــ الدين العام للمملكة بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة إلى مستويات متدنية مقارنة بما كان عليه في السنوات السابقة، ومقارنة بالدول الأخرى. حيث بلغت قيمة الدين العام هذا العام 167 مليار ريال، أو ما نسبته 10.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. في الوقت نفسه، حققت المملكة فائضاً في موازنتها قدره 108.5 مليار ريال، وهذا يثير بعض التساؤلات لدى بعض الناس حول ما معنى أن يكون لدى المملكة دين عام، في ظل وجود هذا الفائض، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة. بداية دعني أتطرق إلى تعريف الدين العام، حيث يعرف على أنه الرصيد المتراكم القائم لدين الحكومة الذي تصدره للاقتراض من العامة. ويمثل عجز الموازنة السنوي الإضافة إلى هذا الدين في حال استخدمت وسائل الدين لتغطية هذا العجز. أي أن هناك فرقا بين رصيد الدين العام، الذي يمثل الرصيد المتراكم للاقتراض خلال سنوات عدة، وعجز الموازنة الذي (قد) يمثل إضافة إلى هذا الدين.
ويأخذ الدين العام عادة شكل سندات تصدرها الحكومة بقيمة اسمية محددة، تستحق في آجال محددة، وبأسعار فائدة محددة سنوياً، وفي نهاية أجل السند يتم استرداد القيمة الاسمية الأساسية له. ولذلك تمثل قيمة السندات الحكومية المصدرة بواسطة الحكومة أو المؤسسات شبه الحكومية قيمة رصيد الدين العام. وتأخذ السندات التي تصدرها الحكومة عدة أشكال، فمنها قصير الأجل (سندات الخزانة)، التي تستحق عادة خلال سنة أو أقل، ومنها طويلة الأجل، التي تستحق عادة خلال 10 أو 30 سنة. كما أن هناك تصنيفا آخر للسندات التي تصدرها الحكومة خصوصاً في الدول ذات النظام السياسي الفيدرالي كالولايات المتحدة، حيث تصدر كل من الحكومة الفيدرالية، وحكومات الولايات، والحكومات المحلية سندات خاصة بها. وفي هذه الحكومات، يصنف الدين على حسب مصدر الإيراد الذي سيتم سداد قيمة السند به، فالسندات التي تسدد من أموال الضرائب تصنف على أنها سندات التزامات العامة، والسندات التي تسدد من الإيراد الذي يحقق من عائدات الخدمات التي تقدمها الحكومة، كرسوم الطرق، تصنف على أنها سندات إيرادية.
عودة هنا للإجابة الذي طرحته في بداية هذا المقال، والمتعلق بسبب وجود دين عام للحكومة في ظل وجود فائض في الميزانية. أولاً من الواضح بالنظر إلى قيمة السندات الحكومية المصدرة من قبل الدولة والواردة في التقرير الأخير لمؤسسة النقد العربي السعودي تراجع قيمتها بشكل مطرد خلال السنوات الأخيرة، والسبب في ذلك أن هذه السندات لها آجال محددة تستحق خلالها، ومن ثم فإن سداد قيمة هذا الدين يتمثل في سداد القيمة الاسمية للسند عند استحقاقه. وما تبقى من قيمة الدين العام يمثل قيمة السندات التي لم تستحق آجالها بعد، ويحتفظ بها حاملوها (البنوك عادة) للاستفادة من العائد الذي تحققه لهم سنوياً. لكن هل يعني ذلك أن قيمة الدين العام يجب أن تساوي الصفر؟ ليس بالضرورة، لأن لوجود الدين العام فوائد كثيرة ومهمة بالنسبة للاقتصاد. إحدى هذه الفوائد هي عملية إدارة السيولة في الاقتصاد، حيث يمكن استخدام أدوات الدين قصيرة الأجل لامتصاص السيولة من الاقتصاد في حالة التضخم، باستخدام نافذة عقود إعادة الشراء التي استخدمتها مؤسسة النقد بفعالية في عام 2007 عندما تفاقم معدل التضخم.
فائدة أخرى للدين العام هي توفير الفرصة للمؤسسات المالية، ومؤسسات التقاعد والتأمينات، ومؤسسات الإقراض المتخصصة، والأفراد أيضاً، لتنويع أصولهم الاستثمارية. فبدلاً من الاستثمار فقط في أصول ذات مخاطر عالية كأصول الملكية (الأسهم)، أو في الأصول منخفضة السيولة كالعقار، يمكن استخدام السندات المصدرة من الحكومة لتنويع الأصول، ما يسهم في تخفيض مخاطر المحافظ الاستثمارية وتعظيم أصولها. كما أن السندات الحكومية وسيلة مهمة للتعامل مع عملية مقابلة الالتزامات بين الأصول والالتزامات، خصوصاً الالتزامات طويلة الأجل، كالتزامات مؤسسات التقاعد، التي تعد أكثر العناصر تحدياً بالنسبة لمديري الأصول في المؤسسات المالية.
وأخيراً، هناك أهمية كبيرة لوجود دين عام مصدر في شكل سندات في كل دولة، لأنه يمثل مرجعية أساسية لتسعير الأصول الاستثمارية. فسندات الحكومة المركزية هي الأقل مخاطرة بين درجات الأصول (سندات حكومات محلية، سندات شركات، سندات رهن عقاري، أسهم، عقارات... إلخ). وبالتالي، فإنها تعد مرجعية أساسية في تسعير العائد على الأصول الأخرى. على سبيل المثال، إذا كان سعر الفائدة على سندات الحكومة المركزية قصيرة الأجل (ثلاثة أشهر) 3 في المائة سنوياً، فهذا يعني أن العائد على كل الأصول الأخرى يجب أن يمثل هامشا يضاف إلى هذا المعدل، كأن يضاف 0.5 في المائة إلى سندات الحكومات المحلية (في الحكومات الفيدرالية) ليصبح سعر الفائدة 3.5 في المائة، وتستمر الزيادة تبعاً لارتفاع المخاطر، وزيادة آجال الاستحقاق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي