إدارة الميزانية ونظام قياس الأداء

منذ توحيد المملكة العربية السعودية على يد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله، والدولة أعزها الله تبذل بسخاء على تنفيذ جميع المشاريع التنموية التي تخدم الوطن والمواطن، سواء في التعليم أو الصحة أو الأمن أو الخدمات الأخرى، وما الميزانيات التي تترى سنة بعد سنة، وآخرها ميزانية عام 2011 م، بقيمة تكاليف إجمالية وسيولة قدرها (580) ألف مليون ريال أو (155) مليار دولار، مخصصات مالية ودعم لا متناهي تضاف إلى ميزانيات السنوات والعقود السابقة والمقدرة بتريليونات الدولارت، إلا شاهداً ومؤيداً لدعم ورعاية الدولة وبذلها لتمويل مشاريع التنمية وتطوير الإنسان في بلدنا الغالي. في ظل هذا الدعم المالي المستمر وعلى عمر المملكة السابق ولأكثر من (80) سنة واللاحق ولأعمار مديدة إن شاء الله، تبرز الحاجة والأهمية إلى آلية تقييم ومتابعة ومراقبة ما يتم تخصيصه مالياً للمشاريع والخدمات للتأكد من تحقيق أهداف التنمية والتطوير، مع تقديم مقترحات لتعديل هذه الآلية أو استحداث آلية جديدة تساعد على تقديم الضمانات.
لمعرفة أفضل الطرق للتطوير والتقييم والمتابعة وتحديد أعلى عائد على الاستثمار، وهو ما نأمل أن يتم تحقيقه في هذه الميزانية المباركة، فليس أنسب من الاطلاع على تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، دول مثل النرويج وكوريا الجنوبية وسنغافورة والصين وفنلندا والسويد، فما العوامل المشتركة بين هذه الدول؟ وما العلاقة التي تجمع أو يمكن أن تجمع بين هذه الدول والمملكة؟ وهل تعتبر هذه الدول دولاً متقدمة وأمثلة يمكن للدول الأخرى الاحتذاء بها؟ جميع هذه الدول عملت على تطوير خطط استراتيجية طويلة الأجل والتزمت بتنفيذها وفق آلية واضحة وحسب جدول زمني محدد، فتحقق لها ما هدفت إليه. فجميع هذه الدول تتبوء مصاف الدول حالياً في مستوى الدخل القومي ومستوى دخل الفرد ومستوى الموارد البشرية، فسنغافورة مثلاً تحتل المركز الأول في العالم في مستوى دخل الفرد بعد أن كانت دولة فقيرة في الستينيات الميلادية، والسويد في المركز الأول في مستوى الموارد البشرية، مركزة على تطوير المواطن السويدي، كما يلاحظ أن النرويج، وهي دولة بترولية، كانت تعتمد في السابق في دخلها على إيراداتها من مبيعات النفط، ولأهمية تقليل مخاطر اعتماد دخلها على سلعة أسعارها قابلة للتذبذب مما يعرض اقتصادها للانهيار في فترات انخفاض أسعار البترول، وضع أجبر دولة النرويج على العمل على استراتيجية شاملة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على البترول كمصدر أساسي ووحيد للدخل في النرويج، وهو ما تحقق لدولة النرويج، ليصبح البترول الدخل الثاني وليس الأول والرئيس.
هذه التجارب الرائدة والأمثلة العملية والصبر الطويل والمثابرة والالتزام بمتطلبات التطوير، متطلبات قد تبدو صعبة التحقيق ولكنها ضرورية للشفاء الصحيح والتطور والرقي، فالمريض لكي يشفى يجب أن يمتنع عن بعض العادات المضرة له وإلا فإنه لن يشفى، والدول أيضاً يجب أن تمتنع عن ممارسة العادات غير الفاعلة وغير المفيدة مثل غياب التخطيط الشاملو واختيار واعتماد المشاريع على أساس توجهات ورغبات شخصية, والتركيز على المدى قصير الأجل في اختيار المشاريع, وتنفيذ المشاريع بشكل منعزل وفردي، والدخول في مشاريع فردية وعدم مراقبة ومتابعة المشاريع من خلال مؤشرات أداء دقيقة تركز ليس فقط على مراجعة لاحقة للمستندات الورقية، كما يقوم به ديوان المراقبة العامة أو الصرف المالي من قبل وزارة المالية، ولكن، وهو الأهم، المراقبة والمتابعة الفنية أولاً بأول ومن قبل جهات مستقلة، أهمها قياس معدل العائد على الاستثمار ومدة تحقق فوائد المشروع. كما أن كل هذه التجارب الدولية الناجحة ركزت على العنصر البشري المحلي وبنائه وصقله من خلال تطوير التعليم ونقل التجارب الدولية والمعرفة والتقنية محلياً. ويمكن تلخيص الدروس المستفادة من تجارب هذه الدول الناجحة والتي ينبغي الأخذ بها كحزمة واحدة وليس بشكل انتقائي عند محاولة نقل بعض هذه التجارب الناجحة، هذه الحزمة تتمثل فيما يلي:
1- الإرادة والرغبة الحقيقية للتغيير والتطوير، مع ترجمة هذه الإرادة إلى عمل حقيقي وعمل مؤسساتي لا يرتبط بأشخاص وإنما إرادة الدولة والدولة فقط.
2- إدارة وطنية مؤهلة ومخلصة تملك الخبرة العلمية والعملية والمهارات القيادية، بحيث يتم الاعتماد عليها في التطوير والتنفيذ، دون مجاملات في الاعتماد على أشخاص لا يملكون الحد الأدنى في القيادة والإرادة والتنفيذ.
3- تطوير رؤية وخطة استراتيجية، تتضمن أهدافا استراتيجية وبرامج ومشاريع تنفيذية وبرنامج زمني وتكلفة تقديرية ونظام مؤشرات أداء، تحكم وتتابع تمويل وتنفيذ وأداء المشاريع.
4- جهاز تخطيطي في أعلى مستوى تنفيذي في الدولة يتبع المسؤول الأول في الدولة، الملك حفظه الله في حالة السعودية، يقوم بعمليات الإشراف والمتابعة والمراقبة ليس فقط المالية والإدارية ولكن أيضاً المراقبة الفنية أولاً بأول من خلال نظام مؤشرات أداء وتقييم دقيق.
5- محاسبة المسؤولين عن تنفيذ الخطط والمشاريع مع الشفافية الكاملة، على أن تتم المحاسبة على أساس الأداء، بالثواب والعقاب حسب النتائج وحسب المسؤوليات والصلاحيات، وعلى أن تتم محاسبة الكبير قبل الصغير والوزير قبل الموظف.
هذه الحزمة إذا أخذت كجرعة كاملة وغير مقسمة، حينها يمكن للدول أن تتطور وترقى إلى مصاف الدول المتقدمة، ولتحقق ما حققته دول مثل فنلندا والنرويج وسنغافورة. كما أن أي تجربة لا تعتمد على الاستثمار في العنصر البشري المحلي مصيرها الفشل لا محالة، وتجربتنا في المدن الاقتصادية والصناعية والخطة الوطنية للصناعة ومشروع تطوير العلوم والرياضيات وغيرها تعاني من هذه الأمراض، مما يتطلب التدخل من أعلى السلطات لتشخيص المرض وعلاجه ليس من خلال مسكنات ولكن من خلال عمليات جراحية ليس فقط لهيئة الاستثمار ولكن لكل الجهات ذات العلاقة بتخطيط وتنفيذ وتمويل المشاريع.
الحل الاستراتيجي يتمثل في إنشاء جهاز أعلى يتبع المقام السامي ويملك صلاحيات أعلى من الجهات التنفيذية ومنها الوزارات، تكون من مهامه وضع رؤية وخطة استراتيجية شاملة في المملكة ومتابعة تنفيذها من خلال نظام مؤشرات أداء دقيقة وواضحة، حل يمثل الحل الاستراتيجي الوحيد، حل سيحدث الفرق ويرقى ببلدنا إلى مصاف الدول المتقدمة ويرفع من مستوى الرفاهية للوطن والمواطن.
وللحديث بقية ...

المزيد من مقالات الرأي