العرب والمؤامرة الكبرى على الخريطة السياسية

يمكن قراءة التطورات الميدانية الأخيرة التي تعصف بالسودان، بمثابة نموذج تطبيقي على طبيعة توفيق العقل السياسي العربي بين حسابات الرضوخ لمنطق المؤامرة ـ بصرف النظر عن صحة الحديث عن مؤامرة في هذا النموذج ـ و تبعات الركوب على هذا المنطق، من أجل إعفاء مساءلة صانع القرار العربي عن فشل سياسات ومشاريع الوحدة والتنمية والتحديث والإدماج، ونرى أن هذا المعطى عين ما ينطبق على الوضع السوداني خلال الآونة الأخيرة.
نبدأ أولا بما صدر عن زعيم الحركة الشعبية سيلفا كير عندما أكد في تصريحات مثيرة في 28 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أنه لا يستبعد ''إقامة علاقات جيدة مع إسرائيل وفتح سفارة لها في جوبا عاصمة إقليم جنوب السودان، وذلك إذا اختار الجنوبيون الانفصال في الاستفتاء'' المقرر مطلع العام المقبل، بل ذهب الرجل إلى التأكيد ليومية ''الحياة اللندنية'' أن ''إسرائيل عدو للفلسطينيين فقط وليست عدوا للجنوب''، وأنه سيرسم ''خريطة جديدة للسياسة الخارجية في حال الاستقلال''.
في معرض الرد على هذه التصريحات المستفزة للمسؤولين العرب بشكل عام، وقبل نحو شهرين من إجراء استفتاء الجنوب، يُشدّد نافع علي نافع، مساعد الرئيس السوداني يوم الأحد السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري على أن تصريحات كير ''تعكس ارتباط الحركة الشعبية باللوبي اليهودي في الولايات المتحدة وعلاقاته المتينة بإسرائيل''، مضيفا أن ''القيادة السياسية في الحركة الشعبية مرتبطة باللوبي اليهودي في الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل، وبالنسبة لنا لم يكن مفاجئا أن تعلن بعض قيادات الحركة إقامة علاقات مع إسرائيل''، مؤكدا أن ''إسرائيل لها تدخل واضح في جنوب السودان كما أن لها خبراء في دارفور''؛ وفيما يُعتبر تحصيل حاصل للصراع على توظيف ورقة المؤامرة، استطرد نافع قائلا: ''لا نسعى للتقليل من مخاطر الاستفتاء، إنه جزء من مخططات الغرب لتقسيم إفريقيا والعالم العربي''.
ورغم ثقل الإغراءات والوعود الأمريكية المروج لها لدعاة الانفصال في الجنوب، فإن هؤلاء غير مكترثين بأن الدول المانحة التي تعد بالكثير اليوم، للحكومة المقبلة لجنوب السودان، غير مطالبة بأن تفي بوعودها، ولأن الجنوب ـ برأي المحلل السياسي السوداني يوسف نور عرض ـ ''معرض لأن يمرَّ بأزمات خانقة في حال الانفصال خاصة إذا لم يتم الاتفاق على كيفية تقسيم النفط بين الدولتين''، ولا حتى أن التلويح بالتطبيع مع الكيان العبري لا يعتبر ضمانة سياسية وأمنية واستراتيجية بأن الأمور ستكون على ''أحسن ما يرام'' في حال تكريس التطبيع، لاعتبار بدهي، لا يبدو أنه يغيب في حسابات سيلفا كير ومن معه، مفاده أن ''الأيادي الإسرائيلية ظلت تتحرك في جنوب السودان منذ فترة طويلة ولم يكن الهدف شمال السودان بل كان الهدف المقصود دائما هو مصر''، وبالتالي، فإنه لا يمكن فهم ما يجري في جنوب السودان إلا على أنه يصب في إطار المؤامرة الإسرائيلية على مصر، ومعنى ذاك، أن منطق المؤامرة في هذه الحالة، له من الوجاهة الموضوعية التي تكشف عورات الحسابات السياسية للمسؤولين في السودان، والفشل في تدبير مشاريع مجتمعية سنتطرق لها لاحقا.
من المُسلمات المنطقية المتداولة في مثل هذه المآزق استحضار مقولة ''فاقد الشيء لا يعطيه''، وواضح أن الدولة العربية القطرية التي فشلت في تحقيق أحلام الإدماج والتنمية والتحديث، سواء بسبب عوامل ذاتية أو خارجية، لا يمكن أن تنتظر من الغير (الشرقي والغربي) عدم توظيف هذا الفشل في حساباته الأمنية أو السياسية أو الاستراتيجية بشكل عام، بل إننا مع الحالة السودانية، لم نطلع فقط على التدخل الأمريكي والإسرائيلي وحسب، بل امتد حتى حدود اللحظة إلى تدخل رئيس لجنة حكماء إفريقيا ثاموبيكي، الذي وجّه دعوة صريحة إلى طرفي الحكم في السودان (حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) من أجل التسريع بالتوقيع على اتفاق إطار لحل القضايا الخلافية بينهما، ولأن الأمور لا تترك للصدف عند العقل السياسي الغربي، فقد تزامنت دعوة مبيكي مع عرض الولايات المتحدة شطب السودان عن لائحتها للدول الراعية للإرهاب بشكل مبكر ''اعتبارا من تموز (يوليو) 2011 تحديدا''، في محاولة لتسوية الخلافات بين شمال البلاد وجنوبها تمهيدا للاستفتاء، مقابل أن ''تعد الخرطوم وتنظم في التاريخ المقرر استفتاء شفافا حول وضع جنوب السودان''.
وفيما يشبه ''اللعب في الزمن الميت''، يُصرح القيادي في حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان ومستشار وزير الإعلام السوداني ربيع عبد العاطي أن ''أي معالجات يتم القيام بها في إطار القضايا الخلافية في الاستفتاء لن تخرج عن اتفاقية السلام الشامل''، نافيا تقديم الحكومة أية تنازلات بخصوص أبيي، ومن المؤكد أن الرأي العام السوداني والعربي لن يتردد كثيرا في الفصل والاختيار بين أحقية التأكيد/ الوعد الأمريكي والنفي السوداني، لأن السودان الرسمي أصبح في موقف ضعف أملته بالضرورة لائحة من المقدمات المرتبطة مباشرة بالفشل التاريخي في ترجمة آمال المواطنين، منذ انقلاب جماعة الترابي وجعفر النميري حتى تطورات اليوم.
الرهان على ''الزمن الميت''، كان أيضا عنوانا لردود فعل الرئيس السوداني عمر البشير، ردا على تصريحات ''الإغراء'' الأمريكية بسحب اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، عندما أعلن تشكيل لجنة عليا برئاسته لدعم الوحدة في الاستفتاء على مصير جنوب السودان، وتضم كلا من نائبيه سلفاكير ميارديت وعلي عثمان محمد طه، ثم زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي محمد عثمان الميرغني والقيادي الجنوبي بونا ملوال والرئيس السابق عبد الرحمن سوار الذهب.
الفشل الجلّي في مشاريع التحديث والتنمية والإدماج نقرأ عنه أيضا في مقالات أبناء الداخل والخارج، وليسوا بالضرورة من المنتمين لجماعة سيلفا كير أو المحسوبين عليه، ولا بالأحرى، من أقلام ''العمالة السياسية'' للإدارة الأمريكية أو لتل أبيب.
فهذا عبد الوهاب الأفندي، الباحث السوداني المقيم في لندن، الذراع الإعلامي السابق لحسن الترابي، وأحد أبرز نقاد التجربة الإسلامية الحركية في السودان، يرى صراحة أنه من أبسط مقتضيات ''المفاوضات الجارية بين شريكي الحكم حول قضايا حيوية مثل الديون والنفط''، أن ''توضع هذه الأمور على الطاولة مع قضية المواطنة، حيث يكون هناك أخذ وعطاء وصفقات يستفيد منها شطرا البلاد، لأنه كلما أظهر المسؤولون الأريحية والمودة تجاه كل قطاعات الشعب، كان ذلك أدعى للوحدة ولتقريب الشقة. والأريحية على كل حال مطلوبة حتى لو لم يكن لها مردود سياسي، ومثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة مفصل ومبين في صحيح التنزيل، ولكن أكثر الناس لا يعقلون''، ومؤكدا في مناسبة أخرى أن ''الحديث عن هيمنة فئة وإقصاء أخرى لا معنى له في إطار دولة غير ديمقراطية لأن مثل هذه الدولة تقصي الجميع بحسب منطقها. وعليه فإن الصراع حول التمثيل في إطار مثل هذه الدولة، كما كان الحال في اتفاقية أديس أبابا ثم اتفاقية نيفاشا واتفاقيات دارفور السابقة، لا يؤدي إلى توسيع حق المواطنة، وإنما تنتج عنه شراكة مشروطة في تسيير بعض الأمور''.
واضح إذا، لأي متتبع عربي يمتلك حدودا أدنى من تسمية الأمور السودانية بمسمياتها الحقيقية، كما هي حالة تحليلات الأفندي، أن الدولة، وبالرغم من شعاراتها الصارخة، قد سلمت أمر البلاد طواعية، ومصيره ووحدته وسلامة أراضيه، وحتى حماية أمن مواطنيه وشؤون العدالة فيه، إلى قوى أجنبية بسبب سياسات وحسابات خاطئة، وأصبح كثير من الشأن السوداني يقضى فيه في غيابها.
صحيح أن هناك سوء فهم لمسألة السيادة عموما، وأنه لا توجد في العالم اليوم دولة تملك السيادة الكاملة على قرارها، وأن اقتصاد كل الدول مرتبط بعضه ببعض، ولكن في المقابل، صحيح أيضا، أن الواقع السوداني الراهن، مرتبط ارتباطا وثيقا بأخطاء صانعي قراره من أمس، قد يكون أبرزها بتقييم المحلل نفسه، بعض السياسات الكارثية لحكومة الإنقاذ، أو السياسات نفسها التي مهّدت للتدويل أولا ثم حتمته، وقد كانت البداية حينما أغلق النظام باب السياسة الداخلية بإقصاء كل الأحزاب ورفض التعامل معها، مما جعل مجال السياسة الخارجية هو المجال السياسي الوحيد لممارسة السياسة، وهنا قام النظام باستثناء الحركة الشعبية لتحرير السودان من قاعدة الإقصاء، بل أفردها دون غيرها بعروض الحوار والمشاركة في السلطة، فيما ترجم عمليا تعاملات الخارج، عبر بوابة التعامل مع الحركة، ووحده هذا السبب، دون التقزيم من أسباب أخرى، كان يُكرس على أرض الواقع ـ المتأزم أساسا - حالة التقسيم التي قامت فعلا بين الشمال والجنوب، التي تتجه اليوم لأن تُصبح رقما رسميا باعتراف المنتظم الدولي، ولا يهم آنذاك الحسم في طبيعة الرعاة الأجانب للنظام السوداني الجنوبي القادم، كأن تكون الإدارة الأمريكية أو إسرائيل، بقدر ما يهم تأمل تبعات هذا السيناريو المتوقع على بعض الدول العربية. (ضمن الأسباب/ الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها الحكومة السودانية، لا يمكن إغفال قلاقل إصرارها السابق على اختزال ''الحوار الوطني'' فقط على القوى الخارجية، مقابل إقصاء خيار ''محاورة المواطن وإشراكه في الأمر إلى نهاياته المنطقية''، ولا يمكن أيضا تقزيم تبعات التدخل في أمور الدول الأخرى، وهو التدخل الذي تسبب مثلا في اندلاع صدامات أمنية أو أزمات دبلوماسية وسياسية مع بعض دول الجوار، وفي مقدمتها مصر وتشاد، دون الحديث عن الاصطدام مع القوى الكبرى، الذي نطلع على أهم نتائجه اليوم، حيث الانتقال من ''شيطنة الإدارة الأمريكية'' بالأمس، نحو ''التحالف مع الشيطان الأكبر'' اليوم والبقية في الطريق).
وما يجب أن تتأمله جيدا القيادة السودانية الحالية، أنه على الرغم من أن اتفاقية السلام التي أنهت عمليا أكثر من عقدين من الحرب بين الشمال والجنوب، لولا أن تطبيقها شهد عديدا من الخلافات بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، خاصة فيما يتعلق بمنطقة أبيي وترسيم الحدود وعائدات النفط ، وتلك النقاط تحديدا تستغلها واشنطن جيدا للإسراع بتنفيذ مخططها بتقسيم السودان، وهو المخطط الذي بدأت تتضح معالمه أكثر فأكثر خلال الأشهر الأخيرة، إلى درجة التلويح الأمريكي الصريح بورقة/ جزرة سحب السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب.
على صعيد آخر، مقلق دائما، ولا يخرج عن تبعات هذا السيناريو المتوقع، ولتبيان خطورة الأوضاع القائمة حاليا في السودان، لم يعد الرأي العام العربي، في شقيه القطري أو القومي/ الإسلامي، ينتظر أخبارا سارة تعوق مشروع انفصال جنوب السودان، وإنما يخشى أن تتطور عدوى الانفصال إلى بعض الدول العربية التي تعيش على إيقاع أزمات اجتماعية وبالنتيجة سياسية، يجمع بينها، بيت القصيد ـ الفشل الصارخ في سياسات الإدماج والتنمية والتحديث.
ويوجد اليمن والعراق وبدرجة أقل لبنان، في مقدمة الدول العربية المعرضة لتكرار ''السيناريو السوداني''، الذي من المنتظر، بالنظر إلى طبيعة التطورات الخطيرة التي يمر منها اليوم، أن يُؤسس لـ ''كانتونات سياسية''، قائمة تحت الوصاية الغربية والأمريكية، تكريسا لخيار المؤامرة عند البعض، أو تحصيل حاصل لنتائج فشل الدولة العربية المعنية في تحقيق مشاريع التنمية والإدماج والتحديث.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي