Author

نجاح التنمية الإدارية .. عندما تبحث الخدمة عن العميل!

|
القطاع العام مفتاح التنمية الاقتصادية والاجتماعية، هذه حقيقة يثبتها الواقع، فهناك تفاوت في درجة التقدم بين الدول سببه قدرة الأجهزة الحكومية في تهيئة الظروف المناسبة لتحريك الموارد وزيادة الإنتاجية. فقدرة القطاع العام على صناعة سياسات وإجراءات مبنية على الكفاءة والفاعلية والجدارة، والمهم الشفافية والنظرة المشتركة شرط أساس في تحقيق مستويات أعلى من التنمية. كثير من الدول التي قطعت شوطا كبيرا في التنمية وأصبحت متقدمة صناعيا واقتصاديا مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وغيرها كان بسبب تطور قطاعها العام وأخذه زمام المبادرة في عملية التحول، وكأنما معادلة التنمية تقول إن التنمية تبدأ في القطاع الحكومي فإن صح صحت التنمية وإلا فلا! فإذا كان القطاع الخاص يحركه ويحفزه المصلحة الخاصة والسعي بتحقيق الربحية أو ما أسماه آدم سميث اليد الخفية التي تنظم السوق، فإن القطاع العام اليد الظاهرة المنوط بها تحقيق المصلحة العامة التي لا يمكن إدراكها إلا من خلال نظرة شمولية ومشتركة. هذه النظرة الشمولية والمشتركة تتطلب إيجاد نظام إداري يفجّر الطاقات لدى الأفراد والمؤسسات الخاصة وينسّق الجهود جماعيا ويؤدي إلى تحقيق الأهداف الوطنية، فالقطاع الخاص وليد القطاع العام وكيفما يكن القطاع العام يكن القطاع الخاص. الإشكالية أن هناك اعتمادا كبيرا على التنظيمات البيروقراطية، وهي بطبيعتها أنظمة منغلقة على ذاتها تتصف بالجمود لا تتفاعل مع المتغيرات لتستمر على ذات النهج والأسلوب، بعيدة عن المتطلبات المستجدة والحقيقة للمجتمع. هكذا تكون هذه التنظيمات الضخمة، التي يفترض أن تكون مؤسسات تنموية تتحول إلى عائق ومثبط للنشاط التنموي، فهي تقتل الإبداع وتحارب الابتكار، فأي تغيير هو تحدٍ لثقافتها الراكدة ونمطيتها الثابتة وتهديد لكيانها ولوجودها. فهمها الأول البقاء والنمو والتوسع حتى ولو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية العليا. كثير من الإجراءات الحكومية عفى عليها الزمن ومع ذلك ما زال كثير من الأجهزة الحكومية تصر على اتباع الأسلوب الرتيب ذاته من الإجراءات الورقية المطولة التي هي في حقيقتها مضيعة للوقت والجهد والموارد. والسبب هو في عدم مراجعة هذه الإجراءات وعدم الرغبة في تطويرها، بل في الحقيقة عدم تحمل الجهاز الحكومي المسؤولية فيطلب من المراجع نسخة من الهوية الوطنية على سبيل المثال، مع أن البطاقة ذاتها أصدرت من جهة حكومية فما لزوم تصويرها؟! وفي كل مرة أراجع فيها دائرة حكومية أتساءل: ''أين يضعون تلك الكميات الهائلة من أوراق المراجعين، وكيف يتم استرجاعها لو طلبت؟!''.. وأخشى أنها فقط تطلب من أجل التثبت في لحظتها ثم يتم التخلص منها! وفي بعض الحالات تطلب الأوراق ذاتها للمعاملة ذاتها في كل مرة تطلب فيها الخدمة! مع وجود سجل كامل للشخص في الحاسب الآلي. إذن السؤال لماذا هذا التعقيد ومضيعة الوقت؟ الجواب يكمن في أن هناك غيابا تاما للأهداف وانشغالا وتشاغلا بإجراءات عقيمة من أجل إضفاء هالة من السلطة والتحكم في مصير المراجعين وإحساس بالأهمية والإبقاء على حالة الوضع المريح بعيدا عن المساءلة والتفكير الإبداعي والتطوير، فالأمر يبدو ظاهريا أن جميع الموظفين في الجهاز الحكومي يعملون بكل جد واجتهاد وحسب، لكن إلى أين يقود هذا العمل؟ وما النتائج المتوخاة؟ وكيف يسهم في تطوير المناخ الاجتماعي العام؟ وما عساه أن يضيف إلى التنمية الوطنية؟ هذه التساؤلات لا يستطيع أن يجيب عليها أحد ولا يجرؤ على طرحها أحد! لتبقى الأمور كما هي عليه ثابتة لا تتغير ولا تتطور ويظل المراجع يعاني والموظف يعاني والمصلحة الوطنية تعاني، وبعد ذلك يقتل التفاؤل في اللحاق بالعالم الأول أو حتى الثاني. الثقافة المسيطرة في الأجهزة الحكومية ويتشربها الموظفون حتى الثمالة هو أن على المراجع أن يستجدي الخدمة وليكون تقديمها إليه منّة عليه وعطاءً يجود به الموظف تفضلا وتكرما منه. هكذا يكون المراجع المسكين دون حول ولا قوة يصطف في صف طويل سببه التسيب وعدم اللامبالاة من قبل الموظفين فالمراجع طالب الخدمة وعليه أن يذعن وينصاع لأوامر سيده الموظف، وهذه من المفارقات العجيبة الغريبة فكيف يصح أن يتسلط الموظف على المراجع، وإنما وضع في الأساس من أجل خدمته، بل إنه يعمل تحت نظام اسمه الخدمة المدنية، أي أنه خادم للعموم وليس السيد المتسلط! ولكن في ظل الانفلات البيروقراطي وعدم المساءلة وغياب الشفافية والتركيز على الإجراءات دون التحقق من الأداء والنتائج، يتفرد الموظف بالمراجع وتنقلب المعادلة فبدلا من أن يسعى الموظف لإرضاء المراجع يكون على المراجع تقديم السمع والطاعة؛ خوفا من غضبة الموظف الذي يمكن أن يمنعه الخدمة لأتفه الأسباب أو بتطبيق إجراءات مخصصة لهذا الغرض! فالإجراءات مرة تستخدم لتسهيل الأمور وتقديمها للمعارف والأصدقاء على طبق من ذهب وفي مرات تكون سيفا مسلطا على معاملات من لا يعرفونه. إنها المحسوبية البغيضة التي هي جذور الفساد الإداري الذي تم تأسيس هيئات وأنظمة لمحاربته، لكن كيف السبيل لمحاربته وهو فساد خفي يفرزه النظام العام ذاته الذي صيغ من أجل الحفاظ على المصلحة العامة! فالتعقيد الإداري يخفي الكثير من الإخفاقات الإدارية وتدني مستوى الأداء ما يلقي بظلاله على جهود التنمية ويعوق التطور الحضاري للمجتمع دون إدراك، وهذه مصيبة عظمى وبلوى كبيرة. ما ينبغي عمله هو التفكير في المستقبل بوعي تام وتبعا إعادة صياغة النظام الحكومي ليكون جسرا نعبر عليه لتتحقق طموحاتنا وتطلعاتنا ليس لمستوى معيشي عال وحسب، لكن لمجتمع أكثر إنتاجية واحتراما للوقت والقانون. ولن يتأتى ذلك إلا عندما نصل لمستوى إداري تبحث فيه الخدمة عن العميل وليس العكس!
إنشرها