Author

القيادات المعيقة وأزمة البطالة

|
اتصل بي وبصوته حشرجة وهو يعرض علي تخصصات بناته الأربع وابنه الوحيد العاطلين عن العمل رغم جهوده المتواصلة في البحث عن عمل أيا كان حتى وإن كان لا يتناسب وتخصصاتهم وبأي راتب كان لعلهم يخرجون من حالة الاكتئاب التي يعيشونها ويكتسبون خبرة في أي مجال وشيئا من المال يعينهم على تكاليف الحياة. وبكل أمانة لم أستطع أن أفعل له شيئا، كما هو حال كثيرين من الأقرباء والأصدقاء والمعارف الذين يبحثون عن عمل لأبنائهم وبناتهم تحت أي بند من البنود حتى وإن كان بند ما دون الأجور، فالطلب فاق المعروض بشكل كبير، ونحن وإن كنا لا نجد أرقاما دقيقة مقنعة إلا أننا بتنا نلمس ونعايش المشكلة بشكل يومي. على الطرف الآخر يحدثني أحد رجال الأعمال يريد أن يستثمر في القطاع السياحي بعد أن رأى فرصة سانحة للاستثمار في هذا القطاع معززة بتشجيع إعلامي من جهاز السياحة في منطقته إلا أنه يقول وبكل صراحة ما إن بدأت في دراسة المشروع والتواصل مع الأجهزة الحكومية المعنية حتى ظهر لي عوائق كثيرة ومتعددة جعلتني أحجم عن هذا الاستثمار، فبدل الدعم والتشجيع وجدت الشكوك المقرونة بطول الإجراءات وتعدد الجهات المعنية التي تشترط شروطا لا علاقة لها في السياحة، فكل جهاز حكومي له مرجعيته التي تعمل في انفصال تام عن بقية الأجهزة، ويضيف رجل الأعمال هذا بأن سمعته سيكون على المحك في حل فشل في المشروع، والكل يعلم أن النجاح أو الفشل احتمالان قائمان أمام كل مشروع مهما كان درجة التخطيط له. رئيس تنفيذي لشركة كبرى يقول إنه قرر أن يعين مواطنين في كل الوظائف المتوفرة في الشركة من وظيفة مدير إلى وظيفة السائق مرورا بوظائف السكرتارية والمبيعات والتعقيب والاستقبال والإعلام والعلاقات العامة... إلخ، وهذا ما قام به ولمدة ثلاث سنوات قرر بعدها توظيف وافدين في أغلب هذه الوظائف، وعندما سألته عن هذا التغير قال وبصريح العبارة نريد أن ''نعمل'' فالملاك يريدون شركة ناجحة وأرباحا والموظفين الوافدون أكثر عملا وإنتاجية والتزاما وقبولا للعمل تحت الضغط وحرصا على تطوير أنفسهم معرفيا ومهاريا على عكس السعوديين الذين يحرصون على الراحة أكثر من العمل ويحرصون على واجباتهم الاجتماعية أكثر من واجباتهم العملية، ولا يفكرون في تطوير أنفسهم، وإن وفرت لهم دورات اعتذروا عنها ومعدل دورانهم عال، فكل بضعة أشهر تجد أحدهم يقدم استقالته لأنه وجد وظيفة حكومية وهكذا. وأعتقد ومن خلال الدراسات التي اطلعت عليها ومن خلال الواقع الذي نعيشه جميعا أننا أمام ثلاث مشاكل رئيسية، الأولى قوى عاملة وطنية غير منافسة تبحث عن فرص وظيفية، وأمام رجال أعمال لا يستطيعون توليد فرص وظيفية بمعدلات تتوافق ومعدلات تدفق القوى العاملة لسوق العمل بسبب قيادات معيقة تدير الأجهزة الحكومية ذات الصلة بطريقة عقيمة بمعزل عن الأجهزة الأخرى والصورة الشاملة للمشهد الاقتصادي في البلاد، وأمام جهات تأهيلية (تعليمية وتدريبية) عاجزة عن إنتاج مخرجات بشرية مؤهلة فكريا وسلوكيا للعمل في القطاع الخاص بما يتوافق ومتطلباته. مشكلة الموارد الوطنية غير المنافسة ومشكلة ضعف الجهات التأهيلية من جهة مخرجاتها البشرية الوطنية ناقشها منتدى الرياض الاقتصادي وغيره من الأجهزة الحكومية، وأعتقد أن التوصيات التي رفعت لهيئة الخبراء فعلت وتحولت إلى برامج عملية لتطوير مرفق التعليم العام وتطوير التعليم العالي (المتوسط والجامعي والدراسات العليا) والأمل كل الأمل أن تنجح تلك البرامج ليكون لدينا قوى عاملة وطنية منافسة فكريا وأخلاقيا وفنيا ومهاريا، والأمل أيضا معقود على شبابنا بأن يتخلصوا من عقد العيب الاجتماعي وعقدة البحث عن العمل الحكومي، وإن قل راتبه بحثا عن الأمان الوظيفي، فالأمان كل الأمان بما يملكه الإنسان من معارف ومهارات وفكر وأخلاق، وهذا ما أثبته لنا الصحابي الجليل المهاجر عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه ـــــ بمقولته المشهورة لأخيه الأنصاري سعد بن الربيع - رضي الله عنه ــــ عندما عرض عليه أن يشاطره ماله، ويختار إحدى زوجتيه ليطلقها له بقوله ''بارك الله لك في مالك وأهلك، لا حاجة لي في ذلك، وإنما دلني على السوق، لأتاجر فيها'' فدله سعد عليها فغدا إليها، فأتى بأقط وسمن، وباع واشترى حتى فتح الله سبحانه عليه. مشكلة نظرة قيادات الأجهزة الحكومية والعاملين فيها الضيقة والمتمحورة حول مهامها دون نظرة شمولية للواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد هي المشكلات التي ما زالت قائمة، وهي مشكلة جعلت كثيرا من القيادات في تلك الأجهزة وموظفيها على كافة مستوياتهم تلعب دورا معيقا دون أن تعلم بذلك خصوصا في ظل سيادة الفكر القائل ''لا تعمل لا تخطئ لا تحاسب'' وفي ظل تسلط إعلامنا على الأجهزة الحكومية العاملة وترك الكسولة دون نقد لأنها لا تظهر إعلاميا لتعلن خططها أو نتائج أعمالها أو إنجازاتها. ختاما أعتقد أن وجود رؤية استراتيجية لمستقبل المملكة العربية السعودية اقتصاديا يمكن أن تسهم في تحريك القيادات المعيقة نحو هدف واضح ومحدد خصوصا إذا ما تم تحديد مسؤولية كل جهاز حكومي في تحقيق هذه الرؤية وتكليفه بإعداد وإعلان برامجه الاستراتيجية والخطط الزمنية لتحقيق غاياته وأهدافه لبلوغ الرؤية في الزمن المعلن سيسهم في تحويل القيادات المعيقة إلى قيادات دافعة - بإذن الله - وعندها ستتولد لدينا فرص وظيفية هائلة تغطي الطلب المتنامي سنويا ليتمكن أبناؤنا من اقتناصها في ظل التطور الكبير في سياسات تأهيل الموارد البشرية الوطنية.
إنشرها