لنوقد شمعة بدل جلد الذات

مع الاعتذار لقائل الحكمة» أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام» لاستعارة العنوان أعلاه مع بعض التصرف. كثير من أدباء ومفكري العالم العربي دأبوا على انتهاج أسلوب جلد الذات في إنتاجهم الأدبي والفكري، والنظر إلى وضع الأمة بمنظار أسود من» قرن الخروب» كما يقول إخواننا المصريون مع العلم أنني لا أعرف ماذا تعني كلمة خروب. هؤلاء الأدباء والمفكرون لا يعدمون من يتصدى لهم وينتقد منهجهم الفكري والأدبي واتباع الأسلوب السوداوي غير الإيجابي الذي يقتل همة الأمة. ومن الأمثلة على هذا الكلام ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي عندما فُجرت السفارة العراقية في لبنان وقُتلت فيها زوجة الشاعر الراحل نزار قباني ـ رحمه الله ـ ونشر قصيدته الشهيرة (بلقيس) والتي منها:
سأقول، يا قمري، عن العرب العجائب فهل البطولة كذبة عربية؟
أم مثلنا التاريخ كاذب؟
بلقيس. ..
ليست هذه مرثية
لكن. ..
على العرب السلام

ها نحن نسأل يا حبيبة..
إن كان هذا القبر قبرك أنت
أم قبر العروبة..

بلقيس. .
إن قضاءنا العربي أن يغتالنا العرب..
ويأكل لحمنا العرب..
ويبقر بطننا العرب..
ويفتح قبرنا العرب..
فكيف نفر من هذا القضاء؟
فالخنجر العربي..ليس يقيم فرقاً
بين أعناق الرجال..
وبين أعناق النساء..
وحين نُشرت هذه القصيدة قامت الدنيا ولم تقعد ضد الشاعر وضد القصيدة ، وقد استغل كثير من مناوئي الشاعر تلك القصيدة ليصبوا جام غضبهم ضد الشاعر. إثر ذلك انقسم القوم كالعادة إلى فريقين، فريق مع أسلوب نقد الذات وجلدها لعلها تصحو وتتعظ، وفريق ضد هذا الأسلوب، وكيف أن أسلوب جلد الذات يعتبر معول هدم يفت في عضد الأمة ولا يختلف عن البندقية الإسرائيلية المصوبة تجاه الصدر العربي.كنت في ذلك الوقت - رغم حداثة سني حيث كنت لا أزال على مقاعد الدراسة - مع منتقدي تلك القصيدة ومنتقدي أسلوب الشاعر نزار قباني السلبي تجاه قضايا الأمة، مع حبي وإعجابي بشعر الشاعر نزار قباني، إلا أنني كنت لا أرضى أن تمس سمعة وكرامة (هل ما زالت الكلمة الأخيرة تذكركم بشيء؟) العرب بأي انتقاد حتى لو كان ذلك صحيح.
ومن قصيدة أخرى للشاعر نزار «إعلان موت العرب» ينتهج الأسلوب نفسه:
أنا منذ 50 عاماً
أراقب حال العرب
وهم يرعدون، ولا يمطرون..
وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون..
وهم يعلكون جلود البلاغة علكاً
ولا يهضمون..
والآن لو أن الشاعر نزار قباني ما زال حياً بيننا فما عسى أن يقول عن الأعظمية مكان ولادة بلقيس؟ بل ما تراه يقول عن العراق بلد الحبيبة؟ بل أكثر من ذلك ما تراه يقول عن العرب؟ هل يا ترى ما زال عند قوله.. وهم يدخلون الحروب؟.. أم حتى هذا القول كثير على عرب اليوم فدورهم هذه الأيام اقتصر على (الفرجة). لم تكن حقبة الثمانينيات هي الحقبة التي اتسمت بأدب وفكر جلد الذات بل سبق ذلك حقبة ما بعد النكسة التي كانت نكسة على العرب في كل شيء.
على الرغم من الإحباطات والنكسات التي حلت بالأمة العربية فهل يا ترى ما زال هناك اليوم من مفكري وأدباء ومثقفي وناقدي الأمة من لا يزال ينافح ويدافع عن نظرية النصف المملوء من الكأس وينتقد أسلوب جلد الذات؟ والجواب من وجهة نظر شخصية هو نعم، حيث ما زال في الدنيا متفائلون (كان الله في عونهم)، وما زال هناك أمل.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.. أما عن صاحبنا فلا يزال كذلك لديه أمل، حتى ولو اعترى قناعته كثير من الفتور، وقد توصل إلى طريقة تصالحية مع الوضع الراهن وبعد ما أعياه طول الليل الكالح وانتظار الفجر، وذلك بالانكفاء – ولو مؤقتاً – على الذات، وبدل إشغال الفكر وإضاعة الوقت فيما عسى أن تفعله الأمة، قرر أن يوظف ذلك الجهد والتفكير فيما عسى أن يفعله هو للأمة، فلو أن كل فرد في هذه الأمة اجتهد وأخلص وأتقن ما سُخر له وما اختص فيه - خاصة أن هذا عبادة يتعبد به الفرد لربه، فليست العبادة مجرد صوم وصلاة وتأدية للفروض - لتحول ليلنا إلى رابعة من نهار. ومن هذا المنطلق أتت فكرة هذا المقال والذي يدعو إلى ما يمكن أن يفعله الفرد للأمة وليس الانشغال بما يمكن أن تفعله الأمة للفرد وفقاً لمقولة الرئيس الأمريكي الراحل جون كندي عندما قال Ask Not What Your Country Can Do For You

***
لا تسأل عما يمكن أن يقدمه لك بلدك، بل أسأل عن ما يمكن أن تقدمه أنت لبلدك، ودعونا نجرب ونوقد شمعة بدل لعن الظلام.

المزيد من مقالات الرأي