أليكس نايت: الرأسمالية فقدت مصداقيتها والفرصة مهيأة لنظام اقتصادي عالمي جديد

غير أن هناك من يرى أنه لم يعد بالإمكان إنقاذ النظام الرأسمالي لأنه النظام يعتمد على النمو، وهو أمر يرى البعض أنه من غير الممكن الاستمرار به لمحددات بيئية واجتماعية، ولهذا ظهر من ينظر لنهاية نظام الرأسمالية ويرى أن أيامه باتت معدودة مبشرا بفرصة جديدة قد تستغلها القوى التقدمية لصالح مستقبل أفضل أو قد تستغلها قوى يمينية متشددة تأخذ شكل الفاشية الجديدة.

من الأصوات البارزة في نظرية «نهاية الرأسمالية» أليكس نايت، الذي يعد من أشد المتحمسين المؤمنين بقوة بنظرية نهاية النظام الرأسمالي التي تقول إن النظام الرأسمالي العالمي سينتهي بسبب التحديدات البيئية والاجتماعية للنمو، وأن هناك تحولاً فعلياً نحو نظام عالم بعيد عن الرأسمالية في طور الإنشاء. ويواصل أليكس نايت في الوقت الراهن تأليف كتاب يحمل عنوان «نهاية الرأسمالية»، حيث يبحث عن دار نشر له. وظل منذ عام 2007 يقوم بتحرير الموقع الإلكتروني endofcapitalism.com. وهو يحمل شهادة جامعية في الهندسة الكهربائية، ودرجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة ليخ. ويعيش في ولاية فيلادلفيا الأمريكية، حيث يعمل في مجال التعليم والتنظيم. ونقدم هنا ملخص المقابلة التي أجريت معه في شهر تموز (يونيو) من العام الحالي والتي جاءت في أربعة أجزاء.

يرى أليكس نايت أن الأزمة المالية الحالية تحمل في ثناياها خطرا على الأفراد وعلى النظام الرأسمالي برمته، غير أنه يرى أنه هناك فرصة يجب اقتناصها للانتقال إلى عالم ما بعد رأسمالي. فملايين الناس يفقدون وظائفهم، وبيوتهم، ومدخراتهم، بينما تنتقل أعباء الأزمة إلى الفقراء، وإلى الطبقات العاملة. والمسألة لا تتعلق فقط بوجود أزمة اقتصادية حادة، فهناك شعور أن هناك ضرورة ملحة إلى إحداث تغيير عميق. وتم انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة بسبب وعوده الخاصة بالتغيير. وبما أنه أثبت فشله في هذا الأمر حتى الوقت الراهن، فإن هناك مزيدا من الناس الذين يتساءلون حول ما إذا كانت هنالك فرص حقيقية للتوصل إلى حلول من خلال نظام الحياة الحالي، أم أن النظام ذاته هو من يمثل جذور الأزمة.

ويرى أن فقدان الثقة في النظام يحمل في طياته فرصة هائلة لإرساء أسلوب جديد، وغير رأسمالي لحياتنا هذه. وإذا استحضرنا أزمة عام 1929، فإننا سنرى أموراً مشابهة إلى حد كبير للحظة التي نعيشها في الوقت الراهن. فحين بدأ ذلك الكساد العظيم، فقد كثير من الناس مصادر عيشهم ثمناً لأزمة تسبب في حدوثها رجال المصارف. وكانت نتيجة فقدان الثقة في تلك الفترة بجدوى النظام الرأسمالي، هي توجه الناس إلى طريقين ظنوا أنهما يوصلان إلى ملاذ الخلاص، وهما على وجه التحديد: الاشتراكية والفاشية.

حاولت الاشتراكية طرح نمط جديد من خلال مقولة «أن الرأسمالية يشوبها الخلل لأنها تقسمنا إلى أغنياء وفقراء، كما أن الأغنياء يعملون على الدوام على استغلال الفقراء، وإننا في حاجة إلى تنظيم الفقراء والعمال في نقابات، وأحزاب سياسية حتى نصل إلى السلطة من أجل تحقيق مصلحة الجميع». واستطاعت الاشتراكية أن تجتذب ملايين الأتباع، حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. وكانت حركة العمال هائلة، وبقيت تنجح في تحقيق المكاسب من خلال تنظيم الإضرابات، وغير ذلك من التحركات المباشرة. والتفت الاشتراكية على الرئيس روزفلت من اليسار، وهو الأمر الذي دفعه إلى إنشاء شبكة الأمان الاجتماعي ضمن ما أُطلق عليه وصف «الصفقة الجديدة».

من جانب آخر، انطلقت الحركة الفاشية على أساس أنها قوة جديدة في العالم، وتمكنت تلك الحركة من اجتذاب مجموعات من الناس انطلاقاً من مفهوم ينطلق من أن «الحكومة عملت على بيعنا. وأننا أمة عظيمة». وحين يسمع الناس كلمة الفاشية، فإن أذهانهم تتجه صوب التفكير بألمانيا النازية، وبإيطاليا الفاشية تحت حكم موسوليني، ومع ذلك، فإن الفاشية كانت ظاهرة عالمية خلال فترة الكساد العظيم، ولم تكن الولايات المتحدة محصنة من ذلك. ويرى أليكس نايت أننا نقترب في أيامنا هذه من مفترقات طرق شبيهة بتلك. فحين يستمع إلى قصة مؤامرة رجال الأعمال، فهو يفكر على الفور بحزب الشاي الذي جاء نتيجة لغضب شديد التعصب من جانب الجنس الأبيض، كما سهلته عناصر يمينية متطرفة في تركيبة عدد من المؤسسات، مثل (فوكس نيوز). وهذه ظاهرة بمنتهى الخطورة بالفعل، إذ يرى في ذلك بداية لحركة فاشية جديدة محتملة في أمريكا.

وفي المقبل، يرى أليكس نايت أن هذه الأزمة تقدم فرصة للذين يرون في الرأسمالية قوة مدمرة، وأن بالإمكان إيجاد عالم جديد. وهو يجادل على الدوام أن علينا أن نتحدث إلى الناس بلغة تتضمن قيمنا المشتركة من ديمقراطية، وحرية، وعدالة، واستدامة. فماذا لو استعاد التقدميون في هذا العالم هذه القيم المشتركة، وجعلوها منابر إرشاد في الطريق لتحقيق مجتمع أفضل؟ ويتساءل ماذا عن الحرية في تقرير مصائرنا خارج نطاق القيود التي تفرضها علينا الشركات، والحكومات، وهل هناك من حرية أشد أصالة من التخلص من براثن الفقر والمعاناة، وهل يمكن لأي منا أن يتحدث حول الحرية إذا لم يكن لديه دخل، ولا فرصة للنجاة من شرور البطالة؟

ويضيف فيما إذا كان التقدميون يمتلكون القوة، أو السلطة لتحقيق مثل هذه الأهداف، ومواجهة مثل هذا النوع من التحديات؟ قد يبدو الأمر في غاية التعقيد، حيث إن وسائل الإعلام المتعددة، إضافة إلى الحكومة، وخصوصاً على مستوى الولايات المتحدة، قامت بعمل متقن للغاية لإقناع الناس أن تحقيق النصر غير ممكن. وهكذا يتم استبعاد من يحملون وجهات نظر مماثلة لوجهات نظرنا من المناقشات الرسمية حول قضايا حيوية مثل الأنباء وصياغتها، والانتخابات. ويطلق المفكران المعروفان نعوم تشومسكي، وإدوارد هيرمان، على هذه الحالة وصف «صناعة الإجماع»، أي بكلمات أخرى، عملية استخدام وسائل الإعلام، وأبواق الدعاية لإيجاد جمهور سلبي، ومطيع للنظام الحاكم حتى في النظم الديمقراطية.

ويرى أليكس نايت أنه لا يمكن للرأسمالية أن تتحمل مساهماتهم الفاعلة في الشؤون العامة. وبمجرد أن يبدأوا في كسر قيود الصمت، والشروع في التحدث العلني عن عدم العدالة الذي يتعرضون لها، فإن النظام يبدأ بالاهتزاز، وكذلك يشرع في البحث عن وسائل من أجل أن يهدأوا أولاً، لكي يعمل فيما بعد إلى إعادتهم إلى حالة من الصمت، والسكوت. ويريد أليكس نايت في هذه المناسبة أن يحرك خيالات الناس حول الصورة التي يمكن أن يبدو عليها العالم الجديد. وليس هناك وقت أفضل، في نظره، من هذا الوقت لكي يقوم بذلك. ويقول إذا ثبتت صحة نظريتيه، فإن النظام الرأسمالي الذي هيمن على هذا العالم خلال خمسة قرون ماضية، في طريقه إلى الزوال. وهذا الواقع الجديد ربما يفتح عالما من الإمكانيات لمستقبل أفضل.

قد يكون ذلك الأمر باعثاً على حالة من الخوف لأنه لا أحد يستطيع أن يتأكد مما يمكن أن يحدث لاحقاً. ويرى أنه قد يتم دفعهم مرة أخرى إلى عالم آخر من عوالم كوابيس الفاشية المرعبة. وقد تستمر الأمور في التطور نحو الأسوأ. وبالتالي، فإنهم إذا فكروا بهذا الأسلوب، فإنهم قد يعودو إلى قناعتهم، ويرون مرة أخرى أن عليهم التمتع بحياتهم الحالية. هناك طبعا من يكرر مثل هذه المقولات، لكن ذلك يترك حقيقتين رئيسيتين يسلط أليكس نايت الضوء عليهما:

#2#

الحقيقة الرئيسة الأولى في هذا المجال هي أن النظام الرأسمالي نظام قائم على سوء الاستغلال، وشدة التدمير، وهما أمران من الأفضل الاستغناء عنهما. وأما الحقيقة الرئيسة الثانية، فهي تغيير العالم بنحو أفضل ممكن إذا كان هناك ضغط بهذا الاتجاه.

أزمات الرأسمالية

لقد واجهت الرأسمالية الكثير من أوقات الأزمات عبر الزمن. فهل هناك أمر مختلف فيما يتعلق بالأزمة الحالية، وما الذي يجعل نهاية الرأسمالية احتمالاً قائماً في الوقت الراهن؟ هنا يؤكد أليكس نايت على أن هذه الأزمة مختلفة في شدتها، وكذلك في عمقها، عن أي أزمة سبق أن واجهها النظام الرأسمالي في عالمنا هذا. ولديه سبب رئيس وراء هذا التأكيد هو أن النظام لم يعد باستطاعته النمو، وهو الأمر الذي يعني أن الرأسمالية لا تستطيع أن تؤدي في غياب النمو، وإنها بذلك أشبه بسمكة القرش التي عليها أن تتحرك على الدوام لكي تستطيع الاستمرار في عملية التنفس. ولا بد للاقتصاد الرأسمالي من البقاء في حالة من النمو حتى يتمكن من البقاء على قيد الحياة. ودون احتمالات وفرص تمكن المستثمرين من تحقيق عوائد على استثماراتهم، فإنهم لن يستثمروا، ومن المنطقي ألا يستثمر المرء أمواله إذا كان يتوقع خسارة تلك الأموال، أو حتى إبقاءها على حالها.

وإذا توقف المستثمرون عن الاستثمار، فإنه من المستحيل على النشاطات العملية أن تستمر في حركتها التوسعية، كما أن الوظائف ستتلاشى، في الوقت الذي يتراجع فيه إنفاق المستهلكين، وتتوقف القروض كذلك، وهو الأمر الذي يؤدي إلى دورة تكون نهايتها حالة من التراجع الشديد والإفلاس. وسيستمر في ظل مثل تلك الظروف انهيار الأسواق إلى أن تتحرك الجهات الحكومية وتقوم بعمليات الإنقاذ محاولة بذلك إنعاش الاستثمار، ولكن بوسائل مصطنعة. غير أن عمليات الإنقاذ إنما هي مجرد إجراءات علاجية مؤقتة، وهي بالتالي لا يمكن أن تكون حلولاً تحقق الدرجة المطلوبة من الاستدامة. وإذا أصبح من المتعذر «إصلاح» أحوال الأسواق، وإعادتها مرة أخرى إلى حالة النمو الاقتصادي، فإن اللعبة تكون قد انتهت.

وإذا نظرنا إلى المنحنى الزمني الطويل للتاريخ، فإننا في ذيل حياة النظام الرأسمالي. وأما النظام التالي لذلك، أياً كان من حيث جودته، أو سوءه، فإن عليه أن يكون قادراً على التكيف مع اقتصاد أصغر. حتى نتمكن من فهم نهاية الرأسمالية، فإننا في حاجة إلى أن نعرف أين بدأ هذا النظام الرأسمالي. فقد استطاعت الرأسمالية خلال 500 عام من الزمن أن تنتشر انتشارا كمرض السرطان فوق كوكبنا الأرضي. وقد بدأت بالازدهار في مراحلها الأولى في غرب أوروبا، وذلك على أكتاف صغار المزارعين، والفلاحين الذين أخرجتهم عمليات التطويق من أراضيهم. وكانت عمليات التطويق تلك تتمثل في نظام التخصيص المتعلق بالأرض، أي وضع سياج حول الأراضي التي كانت في الماضي تحت مسمى «الأرض المشاع»، أو «الأرض التي يمتلكها الجميع». وعملت الدولة في ذلك الحين على تنفيذ دور جهة فرض وتطبيق هذه الإجراءات، وهو الأمر الذي أجبر المجتمعات الفقيرة على مغادرة منازلها، والهجرة من الأراضي التي كانت مشاعاً قبل الإجراءات الأخيرة. وهكذا تم انتزاع تلك الأراضي من أيدي صغار المزارعين، ليتم بعد ذلك تحويلها إلى مزارع كبرى، وأماكن لتربية الحيوانات بأعداد كبيرة.

لقد كان لعمليات الاستيلاء والتطويق هذه أثر تمثل في إيجاد طبقتين من الناس، سواء كانت هذه العملية مقصودة، أم عن غير قصد، حيث ظهرت طبقة قليلة العدد، ومتنفذة تماماً، عرفت بطبقة ملاّك الأرض، ورجال الأعمال الذين تحولوا ليصبحوا من نطلق عليهم وصف الرأسماليين في أيامنا هذه. ومقابل ذلك نشأت طبقة كبيرة العدد من الذين لا يمتلكون الأرض، وبالتالي أصبح أفرادها عمالاً ينتظرون الحصول على أجورهم في المصانع الجديدة في المدن، حيث لم يكن أمامهم أي طريق آخر يمكنهم أن يسلكوه.

في ذلك الوقت تماماً من حركة التاريخ، بدأ الأوروبيون عملياتهم الكبرى في استعباد أعداد هائلة من الإفريقيين، والعمل على نقلهم لكي يصبحوا عبيداً في مزارع العالم الجديد. وهكذا أصبح هناك مورد كبير من الثروات التي تمتع بها الرأسماليون، والطبقات العليا في القارة الأوروبية. وكانت هذه المعاملة الوحشية للناس حسب لونهم عاملاً أساسياً في سرعة انتشار الرأسمالية عبر العالم. ورافقت كل ذلك حملة شرسة أساءت إلى النساء، وعاقبتهن على ذنوب ادعت أنها كانت موجودة في الماضي، وتم إحراق الآلاف من النساء وهن ما زلن على قيد الحياة وفقاً لما أوردته بعض فصول كتاب سيلفيا فيدريسي في نطاق ما كان يعرف بمطاردة الساحرات.

يورد هذا الكتاب وثائق حول كيفية استخدام الكنيسة والدولة لما يسمى بالعقوبات الجماعية على مخالفات سابقة، مثل إنجاب الأطفال خارج نطاق الزوجية، أو اللجوء إلى عمليات الإجهاض. وتم كذلك في تلك الفترة استهداف تلك النسوة اللواتي كانت لديهن منزلة اجتماعية رفيعة في ظل المجتمعات الفلاحية مثل القابلات، والمعالجات، وقارئات الحظ. ورأت هذه المؤلفة أن في كل ذلك هجوماً شرساً على المرأة أوجد نوعاً جديداً من نظام الوصاية المتشددة على النساء. وحين انتهى العمل بهذه الإجراءات في القرن الـ 17، فإن النساء في المجتمع الرأسمالي أصبحن معتادات على الأدوار الاجتماعية التي تم تحديدها لهن، وأصبحن أكثر فأكثر عاملات جديدة، أو قائمات بعدد من الخدمات دون أجر، حيث إن النظام الرأسمالي كان يحدد مثل هذه الأدوار لكي تقوم بها النساء. وترى المؤلفة أن تشغيل النساء دون أجر كان يصب في صالح الرأسماليين في صورة الكثير من الأرباح التي يضعونها في جيوبهم. وتشبه المؤلفة هذه الظروف بالظروف التي كان يعمل في ظلها المستعبدون الذين تم جلبهم قسراً من القارة الإفريقية للعمل دون أجر في مزارع سادتهم البيض.

لقد تحركت النساء ضد هذا الوضع غير السوي، واستطعن تحقيق إنجازات مهمة على هذا السبيل خلال السنوات الـ 50 الماضية، وبالذات في دول شمال الكرة الأرضية. وأما في القسم الجنوبي، فقد شهدت أوضاع النساء المزيد من التدهور، بينما كان النظام الرأسمالي يخترق تلك المجتمعات بصوره المتعددة. إن هذه العودة إلى ممارسة هذه الصور من العنف في الكونجو تمثل أمراً أخطر وأوسع من مجرد العودة إلى أيام تسييج الأراضي للاستيلاء عليها، بعد طرد المقيمين عليها. وتقول الكاتبة سيلفيا «إن العنف على نطاق واسع، وبصورة مخطط لها، قد رافق كل مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي على مر التاريخ، وهو يرافق كذلك كل مراحل العولمة الحديثة، وهو الأمر الذي يشير إلى عملية مستمرة تكون نتيجتها المؤكدة طرد الفلاحين من أراضيهم، وإشعال الحروب، والفوضى على نطاق عالمي واسع. وإن استمرار إذلال النساء، وتحقيرهن، شرط من شروط استمرار النظام الرأسمالي».

يمكن القول بذلك إن الاستيلاء على الأراضي ظل من السمات التي رافقت تطور النظام الرأسمالي على مر العصور، وتعاقب الأجيال، وذلك لأن هذا النظام لا يمكنه أن يجدد نفسه دون أن يبني على الدوام الجدران العالية للسيطرة على إمكانيات نسبية عالية من بني البشر، والسيطرة على هذا الكوكب بصورة كاملة. والحقيقة هي أن الناس يستسلمون أمام طغيان الرأسمالية حين لا يكون أمامهم أي خيار بديل لذلك.

إن ما ورد في هذا الكتاب يمثل تحدياً لكثير من الخرافات المحيطة بالنظام الرأسمالي، مثل الادعاء بأن الرأسمالية تعمل بأفضل صورها دون تدخل من جانب الدولة. وهناك كذلك الخرافة الماركسية السخيفة التي تقول إن الرأسمالية نظام أفضل بكثير من الأنظمة التي سبقته. وعلى العكس من ذلك، تستخدم مؤلفة هذا الكتاب الحالات الكثيرة التي عوقبت فيها النساء عن ذنوب قيل إنها ارتكبت في الماضي، وذلك لإثبات أن الرأسمالية ظلت طوال تاريخها تعتمد على عنف الدولة، ليس فقط لمهاجمة النساء في عدد كبير من المجتمعات، ولكن كذلك للقضاء على أي جانب غير رأسمالي في حياة الشعوب.

ويرى أليكس نايت أن العالم الآن يختلف في عام 2010 بصورة كبيرة عن عام 1492، أو عام 1929 لأسباب تعود إلى قضايا خاصة بحدود النمو، حيث أن الأزمات السابقة شهدت وجود قارات كاملة، وشعوب بأسرها، وثروات، وموارد طبيعية كانت متاحة لكي يتم استغلالها من جانب القائمين على النظام الرأسمالي، وبما يحقق الأرباح المستمرة لهم. ويجادل أن العالم بلغ حدود إعاقة النمو، حيث إن النظام الاقتصادي القائم في الوقت الراهن يحتاج إلى النمو. وإذا أردت تفسيراً للأزمة الاقتصادية الحالية، فإن الأمر يعود إلى محددات النمو البيئية والاجتماعية منها.

وتتمثل الحدود البيئية في القيود المفروضة على النمو الاقتصادي لأن هذا الكوكب لا يستطيع استدامة النمو إلى الأبد، إما بسبب تراجع الموارد، أو بسبب عدم القدرة على تحمل نتائج تدمير البيئة. وهناك عدد كبير من التحديات البيئية، كما أن الوعي بخصوصها يزداد باستمرار. ولدينا كذلك حدود لاحتياطيات وإنتاج النفط، والغاز، واليورانيوم، والفوسفات، والنحاس، والمياه العذبة. كما أن للتربة القابلة للزراعة حدودها، وكذلك للمخزون السمكي. وهناك، إضافة إلى كل ذلك، قضايا المناخ. ويضيف أليكس نايت أن العالم شهد ذروة النفط.

أصبح بلوغ النفط ذروته منذ صدمة أسعار النفط في عام 2008، كلمة على لسان كل أسرة في الولايات المتحدة. ونجد أولاً أن إنتاج النفط الأمريكي بلغ ذروته في عام 1970. وكان قد اكتشف في ولاية بنسلفانيا في عام 1859، وأصبحت الولايات المتحدة البلد الأول المصدر له إلى بقية أرجاء العالم، وذلك كما هي حال السعودية في أيامنا هذه. وبعد ذروة الإنتاج، أصبحت الولايات المتحدة مستوردة رئيسة، كما أنه ليست هنالك عمليات حفر يمكن أن تعيد الإنتاج الأمريكي إلى سابق عهده. كما أن الاستكشافات النفطية الكبرى بلغت ذروتها في ستينيات القرن الماضي، حيث إنه كان هناك تراجع في معدلات الاستكشاف خلال السنوات الـ 50 الماضية. وإن عهد النفط الرخيص قد ولّى، كما أن مناطق الإنتاج الجديدة مكلفة للغاية، كما هي الحال في خليج المكسيك الذي تحول الآن إلى كارثة بيئية. والسؤال الآن هو: متى يبلغ العالم قمة إنتاجه النفطي بعد أن تبين أن ظاهرة بلوغ ذروة الإنتاج حقيقية؟

إن هناك الكثير من الجيولوجيين، والمهندسين المكرسين للإجابة عن هذا السؤال، حيث لا يمكن إضافة الكثير إلى آرائهم. ولكن لا يمكن إغفال رأي كينيث ديفايس، الجيولوجي في برنستون الذي ألف كتابي «ذروة هيوبرت»، و»ما بعد النفط». وهو يقول إنه حين يصل إنتاج النفط العالمي إلى 27 مليار برميل، فإن أسعاره ستبلغ حدود السماء. وفي الظروف العادية نتوقع أن يزيد العرض لدى ارتفاع السعر. غير أننا نرى أن الإنتاج وصل إلى حاجز معين بغض النظر عن مسألة السعر. ويرى هذا الجيولوجي أن الذروة قد حلّت بالفعل، حيث نمو الإنتاج أصبح غير ممكن مهما كان تذبذب الأسعار. يقول هذا الجيولوجي إنه ما من مادة في الأرض يمكنها أن تقدم للنظام الرأسمالي مثل ما قدمه النفط الرخيص، والوفير له. وصحيح أن طاقة الشمس، والرياح مهمتان للمستقبل، ولكنهما لا يمكن أن يدخلا في خزانات دبابات تحارب في أفغانستان. ونجد كذلك أن خلايا الهيدروجين محدودة الاستخدام.

#3#

وهناك أيضاً قضية كفاءة استهلاك الطاقة، حيث تزداد تكلفة إنتاج كل وحدة حرارية من خلال اللجوء إلى موارد الطاقة غير التقليدية، كما أن الكثير من تلك الموارد، مثل رمال القار، أو تسييل الفحم، مدمر للبيئة. وبالتالي فلا يوجد أي مورد للطاقة بكفاءة النفط من حيث نسبة ما ينفق في استخراجه مقارنة بالوحدات الحرارية المستفاد منه من خلال استخدامه. هل حرّك بلوغ النفط ذروته زناد الأزمة الاقتصادية؟ من الصعب في واقع الأمر معرفة ذلك، غير أن هناك حقيقة مؤكدة مفادها أنه حين بلغ سعر برميل النفط ذروته عند 150 دولاراً في 2007 – 2008، استقر الإنتاج على حاله. وكما لاحظ الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، آلين جرينسبان، في عام 2002 «سبقت كل دورات التراجع الاقتصادي في الولايات المتحدة منذ عام 1973، زيادات حادة في أسعار النفط.

المحددات الاجتماعية
لنمو الرأسمالية

ينتقل أليكس نايت ليسلط الضوء على المحددات الاجتماعية التي تعمل مع المحددات البيئية لتعجل بنهاية نظام الرأسمالية. والمقصود بالمحددات الاجتماعية هو عدم قدرة أو عدم رغبة المجتمعات الإنسانية لأن تدعم توسع الرأسمالية. وهذا يشمل بشكل عام كل أشكال المقاومة للرأسمالية والتي زاد نطاقها في العالم. وهنا لا بد من التنويه بأن ليس كل حركات الاحتجاج تقدمية، إذ إن هناك قوى أصولية وغير ديمقراطية مثل طالبان وكوريا الشمالية، وهذه قوى لا يراها حليفة لهم لأنها لا تشترك بالقيم التقدمية نفسها ولا يمكن الموافقة معهم على هجماتهم على النساء. ومن هنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه القوى المعادية للرأسمالية تشكل خطرا أيضا على التقدميين على حد تعبير أليكس نايت. وهنا يقول إن الرأسمالية نجحت في اختراع طرق كثيرة لاحتواء الحركات الاجتماعية وإعادة توجيهها لمخارج لا تتحدى النظام الرأسمالي، ومع ذلك بقيت هذه الحركات على قيد الحياة وتعمل على تمكين الناس للتوصل إلى عالم مختلف.

ويشير في المقابلة إلى أن بعض الحركات الاجتماعية نجحت في تحديد جشع الرأسمالية وهنا الإشارة إلى حركة العدالة الكونية. وهي حركة حققت نجاحات منقطعة النظير ولذلك تراجعت، فقبل عقد من الزمان كانت الرأسمالية تهدف إلى تحويل العالم كله إلى سوق واحد فيما يعرف بالعولمة. والعولمة كما زعم تخدم كل الناس لأن كل واحد سيشترك بغنائم النمو. لكن في واقع الأمر أرادت أن تحصل على أقصى ربح ممكن عن طريق استغلال الأيدي العاملة الرخيصة في الجنوب عن طريق نقل الصناعات والوظائف. لكن المجتمعات التي تأثرت بهذه العملية لم تصمت، فقد انطلقت حركة من دول مثل المكسيك والبرازيل والهند وكوريا الجنوبية وإفريقيا وغيرها من الدول معا في حركة العدالة الكونية وكان حضورها لافتا في سياتل عام 1999 عندما قامت باحتجاجات كبيرة. وقد شعرت بعض الدول مثل الهند والبرازيل بحالة من الاستقواء بعد انتشار الاحتجاج العالمي ورفضت هذه الدول تقديم تنازلات لدول الشمال فيما يتعلق بالمساعدات الزراعية غير العادلة. وهنا تراجعت سمعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحتى الخريطة السياسية تغيرت في أمريكا الجنوبية مع انتصار اليسار في الانتخابات. وهنا تثبت حركة العدالة الكونية أنه بالعمل معا بشكل عابر للحدود لمعارضة الظلم وانعدام العدالة، فإن هناك إمكانية لتحقيق النصر. لكن الحركة تبخرت بسرعة انطلاقها لكن وكما يشير أن السبب في ذلك كان تحقيقها معظم أهدافها بشكل سريع.

الآن لم يعد تقاسم العمل العالمي بين أمريكا والصين مستقرا. فالصين تقدم منتجات رخيصة للسوق العالمي بسبب تدني الأجور، وكانت الأرباح التي تجنى سببا رئيسا في استدامة الرأسمالية، لكن في الصين تظهر حركة عمال قوية وهو ما يعني أن احتجاجات العمال في الصين تشكل تهديدا ليس على الحكومة الصينية فحسب بل وعلى النظام الرأسمالي برمته. هنا لا بد من تقديم السياق التاريخي، ففي بداية الستينيات والسبعينيات واجه النظام الرأسمالي تحديا كبيرا من قبل الثورات، فقد تخلصت إفريقيا من الاستعمار وانتهى الفصل في جنوب الولايات المتحدة، وحرب فيتنام وصعود الحركات النسائية وكذلك حركات البيئة. وهذا الحركات أوجدت تحديا للرأسمالية لطبقة مؤسسات حاكمة مثل أصحاب البنوك والشركات في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. وبالتالي ابتدعوا استراتيجية للتعامل مع الأزمة (بالتزامن من زيادة القمع والاحتواء)، وهي لنقل الإنتاج الصناعي خارج مناطق مثل الولايات المتحدة التي كانت فيها الأجور عالية جدا إلى مناطق مثل الصين التي تنخفض فيها أجور العمال. وأفضت هذه الخطوة توليد أرباح كبيرة، لكنها أيضا خلقت مشكلة استهلاك، فعندما بدأت الأجور بالانخفاض لقلة عدد الوظائف في الولايات المتحدة، عندها أصبحت هناك حاجة للتعويض ورفع معدلات الاستهلاك أعطي عمال الولايات المتحدة فرصة الحصول على بطاقات اتئمان ورهونات عقارية وبعض المشاريع المالية مثل نظام التقاعد. وهذا الوضع مكن الأمريكان استهلاك الكثير حتى عندما انخفضت الأجور.

وفي الوقت نفسه أصبحت الصين هي مصنع العالم التي تضخ منتجات رخيصة الثمن للسوق العالمي وخاصة الولايات المتحدة. وهنا أيضا دخل الصين تريليونات الدولارات الأمريكية تجد الصين صعوبة في إعادة تدويرها في السندات الأمريكية وهو ما يبقي الاقتصاد الأمريكي عائما. وإذا لم يستثمر الصينيون في أمريكا، شريكهم التجاري، فإن أمريكا ستعاني من دين التجارة الذي يزداد يوما بعد يوم. وهنا تشكل العلاقة التجارية بين الصين وأمريكا العنصر الرئيس في الاقتصاد العالمي، وكل واحد منهم يبقي الآخر عائما، فالصين تنتج بجنون عن طريق استغلال عمالها والأمريكان يستهلكون يجنون من خلال الاعتماد على بطاقات الائتمان. وهنا لا بد من الإشارة إلى الضرر الذي يلحق بالنظام البيئي، لكن الربح كان مستمرا حتى أعلن في بداية التسعينيات نهاية التاريخ بمعنى أن أي معارضة للرأسمالية قد انتهت.

لكن هناك نقاط ضعف لتقاسم العمل العالمي، وهنا نشير إلى حركة العمال الصينية الجديدة العنيفة التي لم تٌدرس جيدا، فمطالبهم تقبل من الحكومة الصينية على مضض، وتم رفع أجورهم بمعدل 300 في المائة في الفترة الواقعة بين أعوام 1990 و2005. ومع أن الاقتصاد الصيني مستمر في النمو إلا أن الارتفاع في الأجور يعني تدني معدلات الربح للشركات التي تعمل في الصين بصرف النظر عن هويتها أكانت أمريكية أو يابانية أو غيرها. والارتفاع في الأجور يعني أيضا ارتفاع في معدلات الاستهلاك في الصين وبالتالي تصدير أقل، وعندما يتمكن عمال الصين من تحمل مقدرة شراء السيارات والإلكترونيات التي ينتجوها فإن الأمريكان لا يمكن لهم أن يطلبوا الأسعار المتدنية نفسها.

وهنا يقول أليكس نايت إنه بالنظر للمعيقات أو المحددات البيئية والمحددات الاجتماعية جنبا إلى جنب فإن النتيجة الوحيدة هي أن نهاية الرأسمالية ليس احتمالية بل حتمية. فلا كوكب الكرة الأرضية ولا سكانه بقادرين على الاستمرار في دعم هذا النظام. في الجزء الأخير من المقابلة ينتقل أليكس نايت للحديث عن آفاق المستقبل بعد أن تيقن من أن النظام الرأسمالي إلى زوال. وهنا يقول إن زوال النظام الرأسمالي لا يعني أننا سنعيش في عالم مثالي، فالأزمة هي فرصة للتقدميين لكنها أيضا فرصة للقوى اليمينية، وإذا ما نجح اليمين من اقتناص الفرصة فإن هذا سيؤدي إلى بروز فاشية جديدة. وهذا التهديد هو حقيقي في الولايات المتحدة.

وهنا يقول إنه لا يمكن له أن يوصف النظام المثالي بعد انهيار النظام الرأسمالي، فالناس سيبتدعون حلولا للأزمة التي يواجهونها بشكل يتناسب مع الظروف، وفي واقع الحال بدأوا الناس بذلك. ويرى أن الحلول الحقيقية للمشكلة تكمن في إيجاد ترابط بين العدالة البيئية والعدالة الاجتماعية. وإذا ما فضلنا واحدة على الأخرى فإننا سنسبب أضرارا إضافية، فيجب أن تشفى الكرة الأرضية وتشفى المجتمعات، ويقترح هذين الهدفين كنقطة بداية للنقاش.
ويختم المقابلة بتقديم خمسة إرشادات لعالم جديد هي: الحرية والديمقراطية والعدالة والاستدامة والحب. وهو يرى أن هذه النقاط الخمس تمثل ما يراه هو المقاربة الراديكالية للفهم العام. وهو يفهم الحرية بأن أساسها تقرير المصير، لأن الناس تحت النظام الرأسمالي لا يملكون تقرير مصيرهم. أما الديمقراطية فتعني المشاركة من قبل الفرد والمجتمع في صناعة القرار الذي يؤثر في حياتهم، وهنا يفضل ما يسمى بالديمقراطية التشاركية التي تشمل على تكتيكات سلمية للتغيير. ففي الديمقراطية التشاركية يقوم الناس وليس ممثلوهم العمل، فالممثلون يعتمدون على أموال الشركات حتى يضمنوا الانتخاب. أما العدالة فهي تتطلب حماية الضعيف والمضطهد من القوي، ففي المجتمع الرأسمالي ما يحدث هو العكس تماما. وهنا يأتي بمثال رجل الشركة في أوكلاند الذي قام بإطلاق النار على رجل أسود فأرداه قتيلا، وقامت المحكمة بتبرئة رجل الشرطة، وهنا يتساءل ماذا سيكون الحكم لو الأمر كان معكوسا؟! وينتقل بعد ذلك للحديث عن الاستدامة وأهمية أن يتجه العالم للسياسات الخضراء، فالاقتصاد الإنساني يجب أن يتواجد بانسجام مع البيئة. وهنا يضرب مثالا على الثورة الخضراء التي بدأت في كوبا منذ عام 1990 بعد انتهاء الحرب الباردة. ويؤكد في النهاية أن الحب هو عنصر مهم لعالم مستقبلي أفضل، وهو ما يتطلب الاحترام للحياة والمخلوقات والتعاون بين البشر.

لكن ماذا لو أخفقت نظرية نهاية الرأسمالية؟ هنا يشير أليكس نايت إلى خيارين. أولا، أن ينتهي العالم بسبب تغير مناخ كارثي أو حرب نووية لا تبقي ولا تذر. وهو يرى أن هذا السيناريو هو أقل احتمالا من السيناريو الثاني الذي يفيد بأن يتم التحوط من جديد على الكوكب وعلى الفقراء. فقد يتمكن باراك أوباما مع القادة العالميين الآخرين من التغلب على مشكلة النمو لعقود قليلة قادمة، لكن لن يتعدى ذلك عن كونه تصليحا مؤقتا للعالم. فالتناقض الرئيس في النظام الذي يتطلب نموا غير منتهي في كوكب محدد، وهو ليس نوعا يمكن أن يبقى للأبد. فحالما ينتهي الوقود ستتغير الأمور، فالرأسمالية تمكنت من البقاء وشراء مزيد من الوقت لكن العاصفة القادمة ستكون أشد وطأة من سابقاتها ما يعني نهاية النظام الرأسمالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي