في نقد فكر الهزيمة .. تفكيك أيديولوجيته وإزالة الأوهام حوله

بيد أن من النصوص التي استمتعت بقراءتها, وحفزتني على العودة إلى هذا الموضوع كتاب المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري ''مساءلة الهزيمة'', الصادر عام 2001، وقبله بسنوات عمل الراحل ياسين الحافظ ''الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة'' (1978)، ولعل قصدي من العودة إلى هذا مقولة ''الهزيمة ما يشعر به كل منا، أو يشاهد في حياته من إحباط لدى الناس، وتبرم مما يحيط بهم إقليمياً ووطنياً، فعلى مدار أكثر من نصف قرن، وتحديداً منذ نكبة فلسطين (1948)، ونحن ننام ونستفيق على نغمة الهزيمة، بل إن متون الفكر العربي حبلَى بعشرات العناوين التي اتخذت من مقولة الهزيمة مفهوماً إرشادياً Paradigm للحديث عن الواقع العربي وتحليل إمكانات تغييره .. فهل يحتاج خطابُنا حول الهزيمة إلى مساءلة نقدية تُسعفه في الانطلاق إلى آفاق نظرية وفكرية أكثر عقلانية، والأهم تساعده على التأثير الفعلي والفاعل في الواقع العربي العليل بوباء الهزيمة؟
رٌبَّ معترِض يقول لقد قُتِلت مقولةُ الهزيمة بحثاُ، ونحتاج إلى قوة الفعل التي ظلت غائبةً طوال هذه العقود، فنخبٌنا الفكرية، أو على الأقل ثُلة منها، أضاءت الطريق، وعلى الأمة أن تستنهض هِمَّتها، فتضغط في اتجاه استرجاع العرب عقلَهم، والتصالح مع ذاتهم وتاريخهم، أسوةً بما حصل في أكثر من منطقة في العالم.
إن وجاهة هذا الاعتراض مردودة ولا تعفينا من الإقرار بحاجة الفكر العربي إلى مزيد من الحفر لتفكيك الغموض الذي يكتنف أذهان الناس, ويحول بينهم وبين فهم مصادر الهزيمة فهماً تاريخياً عقلانياً، ومن قلب هذه الثلة من المفكرين العرب من وضع أصبعَه مبكراً على داء الهزيمة، كما حصل للمؤرخ المغربي عبد الله العروي ''العرب والفكر التاريخي''، (1973)، والسوري ياسين الحافظ ''الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة'' (1978)، و'' إحسان مراش'' في ''مدخل إلى تطبيق الماركسية في الواقع العربي'' (1975)، وهناك من استكمل المسيرة لاحقاً، من قبيل برهان غليون ''العرب ومعركة السلام'' (1999)، و محمد عابد الجابري في ثلاثيته حول ''نقد العقل العربي''، ومحمد جابر الأنصاري في مجمل ما كتب، وتحديدا كتاب ''مساءلة الهزيمة''.
تكمن قيمة المطالبة بمساءلة الهزيمة نقدياً في السعي إلى تعرية Démystification أيديولوجيا الهزيمة وإزالة الأوهام التي تلف مَظانّ تكوينها, فمنذ حصول النكبة ونحن نرثي مصائبنا دون التقدم على طريق التجاوز التاريخي لأعطابنا، بل إن قدراً كبيراً من التكلس ألمَّ بمجمل تيارات الفكر في مجالنا العربي، فسواء كنا قوميين، أو ليبراليين ديمقراطيين، أو نهضويين، نشعر جميعاً بالهزيمة جاثمةً على صدورنا، بل إن وتيرة تطور الأحداث في منطقتنا تمنحنا الدليل غير القابل للاعتراض على أن زمن الهزيمة هو السائد في أوطاننا. إن المساءلة، بحسبها عمليةً ذهنيةً نقديةً بامتياز، تُرغِمنا على التمييز بين الهزيمة, كمعطى سسيولوجي وتاريخي، والتفكير فيها، أي في تجاوزها بالإيجاب. ثم إن التفكير وحده لا يكفي لصنع الانتصار ودَحرِ الهزيمة، بل يحتاج إلى رافعة تُنزله منزلةَ التطبيق والإعمال، وإلا سيبقى مجرد تفكير ليس إلا. إن الرافعة الضرورية لهذا التنزيل تتجسد في القوة الكامنة في التفاف الدولة والمجتمع حول مشروع نزع روح الهزيمة من حياتنا، وهو ما نراه، مع الأسف، فاتراً وغير واضح بما فيه الكفاية.
ت جد أيديولوجيا الهزيمة عَضُدَها في التصورات التي تخترق أذهان الناس في التعاطي مع حال هزيمتهم، وفي صدارتها تصوُّر يرى أن بالنكبات والهزائم تستعيد الأمم حيويتَها وقدرتهَا على الفعل الحضاري، وقد جاراه في هذا المنحى بعض المثقفين فشرعوا ينقِّبون في بطون التاريخ ليستخرجوا أمثلةً يستدلون بها على رجاحة هذا الاعتقاد. فمن ذلك قولهم إنه لولا هزيمة بروسيا أمام حملة نابليون لما دبّت الحيوية من جديد في الأمة الألمانية، ولما أينعت قُطوف الفكر والفلسفة، وازدهرت المعرفة النقدية، ولما تحققت الوحدة الألمانية أصلاً. والمثال نفسه ينسحب على اليابان، التي كادت المغامرات العسكرية تعصف بحركة الحداثة في مجتمعها، وهو ما حدث في الصين، حين أعاد الاستعمار البريطاني، من حيث لا يدري، المناعة إلى جسم الصين الذي نخره الفساد. فالخلاصة أن ثمة علاقةً طرديةً بين النكبة أو الهزيمة واليقظة أو النهضة، ولعلي بهؤلاء يعيدون دروس علم النفس, أي العلاج بالصدمات .. فيكفي أن تتزايد نكبات العالم العربي، أي صدماته، لتستعيد مجتمعاته حيويتَها، وتدِبّ النهضة في مفاصل جسمه ككل .. بيد أن هذا التصور الذي لفَّ ذهن الإنسان العربي واستحكمَ في فهمه للهزيمة وسبل الخروج منها، لم تثبت صدقيتَه وقائعُ الحال، إذ منذ نكبة فلسطين والهزائم تتوالى على أوطاننا، والأخطر كنا مع بداية الألفية الجديدة، وما زلنا، أكثر المناطق في العالم مختبراً للهزائم, ومع ذلك لم يكن دواء الحكيم، أي العلاج بالصدمات، شافياً لوباء الهزيمة في حياتنا.
تتعايش إلى جانب هذا التصور إدراكات أخرى للهزيمة، أهمها تلك التي توعِز مصادر ما يحصل في حياتنا إلى نوع من القدر التاريخي، الذي ليس للعرب حول ولا قوة لتجنبه، والحال أن ''القدرية''، تجد سندها في روح الإحباط، وانسداد التفكير العقلاني، وارتباك الرؤية إلى المستقبل، وهي سمات ذات قيمة منهجية كبيرة في تفسير استمرار روح الهزيمة في أوطاننا. إن مكمن الخطر في مثل هذا الإدراك، يتجسد في تنحيته إرادة الإنسان وقدرته على التغيير، ويتجلى في إلغائه العقل ودوره في تأطير سيرورة التقدم نحو الأفضل.. الحاجة إذن إلى ثورة ذهنية تفكك أيديولوجيا الهزيمة، وتعيد بناء مُدركات الإنسان العربي لواقع حاله على أسس يتنزَّل العقل فيها منزلة المرشِد والمخطط والموجه، وهذا ليس مستحيلاً أو بعيد المنال، إن توافرت له شروط الاكتمال والكفاية. إن أهم خطوة في نقد الذهنيات وفتح باب الحداثة أن نتجنب الأسئلة الزائفة عن أوضاعنا، وأن نمتلك جرأة السؤال, وإرادة الإقدام على الإجابة عنه, فحين نكسب هذه الخطوة، وهي ضرورية واستراتيجية، نكون قد عبدنا الطريق لمساءلة الهزيمة، ووفرنا العٌدّة المنهجية والمعرفية لمقاربة مصادر وقوعها بانتظام في أوطاننا، وعندئذ فقط نكون حققنا الانتصار، ليس على الهزيمة، لكن على الأيديولوجيا المهزومة، أي العقل الذي يجعل الهزيمة عَصيةً على الحل والتجاوز، ومستبدة بتفكيرنا، وسلوكنا.. إن عينَ الخطر لا تكمن في الهزيمة في حدّ ذاتها، لكن في التفكير بعقل الهزيمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي