الفرق بين النظرية والتطبيق في معاملة الضيوف

قبل سنوات حين كنت أعمل مديراً تنفيذياً في أحد المستشفيات الخاصة في مدينة الرياض، أبلغني مساعدي ذات يوم أن هناك شخصا يرغب في لقائي, وهو شديد التأثر بمصيبة أصابته، كما أنه مبالغ في الإلحاح على طلب مقابلتي, فأذنت له، وكان الزائر عربي الجنسية مهاب الشخصية في أول الأربعينات من عمره, وما إن بدأ في الحديث إلا وغالبته دموعه ثم أجهش بالبكاء، وهالني ذلك, خاصة أنا لا أعلم عم يتحدث، وبعد أن هدأت من روعه وطلبت منه أن يتعوذ من الشيطان ويقص علي خبره، أبلغني أنه يعمل في الرياض ولديه إقامة نظامية, وتزوج قبل سنوات وزوجته تقيم معه في الرياض, وهو يعمل محاسباً في إحدى الشركات، وحملت زوجته وعند الوضع أخذها إلى أحد المستشفيات الحكومية، الذي قبلها على مضض تحت ضغط الوقت وحالة الطوارئ التي كانت تئن تحت وطأتها حتى تم توليدها، وبعد الولادة بساعات طلب منها مغادرة المستشفى مع وليدها بعد أن تم إبلاغهما بأن المولود لديه تشوه خلقي, حيث ولد من دون فتحة شرج، وتم نصحهما بالذهاب إلى أي مستشفى "آخر" لإجراء عملية التعديل للمولود، وطوال ثلاثة أيام بعد الولادة راجع فيها أخونا المقيم أكثر من عشرة مستشفيات حكومية, رفضت جميعها بلا استثناء إجراء المعاينة على الطفل, فضلاً عن إجراء العملية, بحكم أنه أجنبي, والمستشفيات الحكومية مخصصة لعلاج المواطنين فقط، فلم يجد بداً من الذهاب به إلى أحد المستشفيات الخاصة الذي أكد التشخيص, لكنه لم يستطع معالجته, لأنه لا يملك تكلفة العلاج، فما كان مني إلا أن اتصلت فوراً بالاستشاري المتخصص في جراحة الأطفال وأحلت الرضيع إليه طالباً رأيه، فهاتفني بأن حالته حرجة وأن عملية التعديل يجب أن تتم خلال ساعات وإلا سيموت الرضيع متأثراً بسوء حالته وانحباس فضلاته، استفسرت من القسم المسؤول عن تكاليف العملية وتوابعها فجاءني الرد بأنها تتكلف 15 ألف ريال تقريبا، أبلغت الدكتور بمباشرة العملية فوراً، وتكلمت مع والد الرضيع وطلبت منه أن يوافيني بالمبلغ المتجمع لديه فأحضر لي ثلاثة آلاف ريال, ووعدني بخمسة أخرى سيحضرها لاحقاً, وأن هذا كل ما يملكه، عندما أبلغته بأن ابنه في الطريق إلى غرفة العمليات لإجراء العملية أخذني بالأحضان وقبل رأسي ويدي شاكراً ممتناً، تم علاج الرضيع وخرج صحيحاً معافى وتم إعفاء والده من باقي التكاليف منحة من ملاك المستشفى وليست مني.
قصة أخرى لي شخصياً حدثت في كوالالمبور، حيث كنت قادماً من دولة أخرى شرق آسيوية, وبعد أن هبطت الطائرة في المطار شعرت زوجتي بآلام في بطنها، وعندما وصلنا الفندق كان الألم يشتد فاتصلت بإدارة الفندق أطلب طبيباً، الذي قرر بعد حضوره إصابتها بتسمم غذائي وضرورة نقلها إلى المستشفى، حضرت سيارة الإسعاف إلى الفندق بعد خمس دقائق، وعندما هممت بالركوب معها في الإسعاف سألني الطبيب مستفسراً "دون مبادرة مني" إلى أين تريد أخذ زوجتك؟ إلى المستشفى الحكومي أم الخاص؟ فسألته وما الفرق؟ فأجابني بأن الخدمات الصحية مكفولة مجاناً لكل من يقيم في ماليزيا أو يزور أراضيها، وستحصل على النوعية المتميزة نفسها من العلاج، الفرق الوحيد أنك في المستشفى الخاص ستتمكن من مرافقة زوجتك في غرفتها, الأمر غير المتاح في المستشفى الحكومي، العجيب في الأمر أنه لم يسألني أحد عن جواز سفري أو إقامتي أو بطاقتي التأمينية، لقد كان الاهتمام بالعلاج طاغياً على كل شيء آخر.
قصة ثالثة كان بطلها ابني عمر، فقد كنت مغادراً إلى أمريكا لحضور دورة تدريبية, وبالتحديد إلى مدينة بيتسبرج, مصطحباً أسرتي الصغيرة آنذاك، وفي الطريق الطويل إلى أمريكا بدأت بعض الأعراض السلبية تظهر على عمر, فآلام في البطن، تبعها تقيؤ (أعزكم الله)، ولما وصلنا إلى مقر إقامتنا, وكانت حالته تسوء أكثر، اصطحبت عمر إلى مستشفى الأطفال وبدأوا في إجراء الفحوص اللازمة, حيث شخصوا حالته بعدها بالتهاب شديد في الزائدة الدودية، وقرروا له عملية أجروها قبيل الفجر وبقي عمر بعدها في المستشفى 14 يوماً للنقاهة خرج بعدها إلى المنزل، طوال تلك الفترة لم تكن لدى المستشفى الجامعي آنذاك أي معلومات عني باستثناء الاسم وعنوان شقتي المستأجرة مؤقتا في وسط المدينة، لست في موقف يتطلب مني أن أقسم بأنه لم تكن لديهم معلومات عن جواز سفري أو إقامتي أو بطاقة التأمين أو خطاب من الكفيل أو حتى بطاقاتي الائتمانية، الطريف في الأمر أنني توجهت إلى المستشفى بعدها وسألتهم عن تكاليف العلاج فأبلغوني بأن الفواتير سترسل لي بالبريد، فشرحت لهم وضعي وأنني في رحلة تدريبية كما أنني غير مؤمن علاجياً وسأضطر إلى دفع تكاليف العلاج نقداً، فأرشدوني إلى طريقة يمكن من خلالها أن يتم تحمل تكاليف العلاج من قبل المستشفى، وطلبوا مني أن أقدم لهم ما يفيد بأنني موجود لأجل التدريب، وزودوني برقم للمراجعة, بحيث أعطيه لكل من يطلب مني السداد، وبعد ستة أشهر تقريباً أرسلوا لي تأكيداً بأنه تم تحمل تكاليف العلاج من قبل المستشفى دون أن أدفع ريالاً, عفواً سنتاً واحداً، الأطرف من ذلك أن بعض الطلاب السعوديين اقترحوا علي أن أرسل طلبا للسفارة لتحمل تكاليف العلاج، فأرسلت رسالة معها تأكيد من المستشفى بالحالة وبأنها طارئة، وأرفقت معها جميع تفاصيل الاتصال بي، طبعاً لست في حاجة إلى أن أبلغكم بمصير تلك الرسالة، لكن أؤكد لكم أنني لم أسمع أو أر أو أقرأ أي رد على رسالتي تلك حتى الساعة.
هذه ثلاث قصص عشت أحداثها شخصياً وأذكرها جيداً رغم مرور سنوات على حدوثها، وأعرف كثيرا من القصص الحقيقية الأخرى عن التعامل الإنساني للبشر المقيمين في أوروبا من جميع النواحي العلاجية والتعليمية, بل حتى توفير السكن, ولا أبالغ إذا قلت إن بعضهم يعامل هذه المعاملة حتى عند الإقامة غير النظامية، بل تتم معاملتهم رسمياً ونظامياً معاملة المواطنين! وأتساءل عندها عن تعاملنا مع المقيمين لدينا, وهل طريقة التعامل معهم تحسب لنا أم علينا؟! حقيقة أتشرف كثيراً عندما أتذكر بعض الحالات التي تبيض الوجه لتعاملنا مع ضيوفنا المقيمين، لكني أستحي أكثر عندما تروى القصص الأكثر تعبيرا عن تعاملنا معهم، بدءا من مراجعتهم سفاراتنا في الخارج للحصول على التأشيرة حتى مغادرتهم مطاراتنا أو منافذنا البرية.
يحدث ذلك ونحن العرب من نتحذلق بقيم الضيافة والكرم والتسامح، ونحن من يدعونا ديننا إلى أن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا, كما يدعونا إلى الإيثار على النفس لو كان بها خصاصة، ونحن من ندعو إلى المساواة والإنسانية!
أكاد أجزم بأن تعامل الدول العربية مع ضيوفها العرب على المستوى الرسمي والمؤسساتي والمجتمعي والشخصي لا يعبر حقيقة عما نتشدق به، بل أجزم أن هذا التعامل أقل من الحد الأدنى الذي تفرضه حقوق الإنسان على أخيه الإنسان، فكيف بحقوق المسلم على أخيه المسلم، الذي ربما يشترك معه في اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا؟ أضف إلى ذلك حقوق المستخدم على صاحب العمل.
على سبيل المثال هنا في المملكة كغيرها من الدول العربية الأخرى، انظروا إلى تعاملنا مع ضيوفنا المقيمين في الجهات الحكومية, خاصة في الجوازات، طالعوا تعامل المستشفيات الحكومية مع ضيوفنا المقيمين.
بالطبع هناك كثير من المواطنين المحترمين والمؤسسات المحترمة التي تعامل ضيوفنا المقيمين بشكل مثالي, حتى أني أعرف حالات يعامل فيها الخدم كأبناء الأسرة, بل أكثر، لكن ـ مع الأسف ـ إن الحالات الأخرى المسيئة كثيرة هي الأخرى.
أعتقد جازماً عندما يتم دخول غير السعودي إلى أراضينا وقد استقدمناه بإرادتنا وبطلب منا، ويحصل على إقامة نظامية ويحترم أنظمة وقوانين المملكة, فيجب أن يعامل المعاملة التي تشرفنا، باعتباره ضيفا كريما في بيتنا وعلى أرضنا، حيث يجب أن نعامل الآخرين كما نريد أن يعاملونا في ديارهم، ومن ذلك أن نعاملهم كما نعامل أبناءنا وإخواننا على أقل تقدير، خاصة في مجالات الخدمات الصحية والتعليم، والأمر ليس أنظمة تكتب وقرارات تصدر، بل هي ثقافة تُبث وتربية تُدرس وعقليات تتشكل، وعقوبات تفرض على المخالفين والمسيئين لصورتنا أمام العالم، والأهم من الإساءة أن هذه الصور مؤلمة إلى حد القتل لضمائرنا أمام الله ـ سبحانه.
ختاماً .. أرجو للجميع إجازة صيفية سعيدة سأغيب فيها عنكم لظروف السفر الذي يتبعه شهر الصوم والتفرغ للعبادة، تقبل الله منا ومنكم، ومتعكم جميعاً بإجازة سعيدة ماتعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي