تأهيل المقاولين: مطلب لتفادي سوء التنفيذ

اعتنت الدولة – حفظها الله - بطرق ترسية المشاريع الحكومية على المقاولين، وقامت بدراسات مستفيضة حول ضرورة وجود آلية لتصنيف المقاولين تهدف إلى تحديد قدرة المقاول واختصاصه بما يتلاءم مع إمكاناته الذاتية (المالية والفنية والإدارية والتنفيذية)، وبالتالي حماية المال العام والحرص على تنفيذ مشاريع الدولة من قبل مقاولين مؤهلين فقط، وفي الوقت نفسه حماية المقاول من الخسارة وذلك عن طريق تحديد المشاريع التي تتناسب مع إمكانياته وخبراته السابقة وعدم الزج به في مهمة لا يمكن له إنجازها بنجاح.
 جاء هذا الاهتمام مبكرا بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (820)  وتاريخ  1/7/1393هـ بالموافقة على مشروع لائحة تصنيف المقاولين، ثم تبع ذلك عدة قرارات أخرى جاء آخرها اعتماد رفع الحدود المالية لدرجات التصنيف ولجميع المجالات بنسبة 40 في المائة بناء على قرار مجلس الوزراء رقم 155 وتاريخ 5/6/1429هـ. هذا الاهتمام المبكر يخبر عن أهمية نظام تصنيف المقاولين الذي يعد من أول الخطوات المهمة لتنفيذ مشروع ناجح. ومن الدراسة والبحث نجد أنه لا تكاد تخلوا أي شركة عالمية كبيرة (أو حتى بعض الإدارات والمؤسسات العامة) من وجود نظام تأهيل يخص أعمالها للمقاولين أو للمتعاملين معها. أي أن التصنيف مرحلة والتأهيل مرحلة أخرى، ودون اكتمال هذان المرحلتان قبل الترسية ستتلاشى إيجابياتهما حتماً.
مرحلة التأهيل لا تدخل ضمن مسؤوليات وكالة التصنيف، ولذلك على الإدارات الحكومية مالكة المشروع أن تهتم بقضية التأهيل بنفسها ولا تكتفي بمسألة التصنيف فقط. تأهيل المقاولين موضوع مخصص على كل مشروع أو حالة بعينها، فما يُطلب من معايير لتأهيل المقاولين لمشروع محدد قد لا يطلب على مشروع آخر، لذلك على كل جهة أن تقوم بوضع معايير خاصة للتأهيل تتناسب مع حالة مشروعها على ضوء ظروف المشروع وما يشمله من خصوصية.
تحديد إمكانيات المقاول (المالية والفنية والإدارية والتنفيذية) مسألة ليست بالسهلة وتعتريها الكثير من العقبات منها ما هو مرتبط بالمقاول، ومنها ما يرتبط بالجهة المسؤولة عن التصنيف وصولا إلى الجهة المسؤولة عن التأهيل (مالك المشروع). فالمقاول عليه أن يحدث المستندات التي تثبت إمكانياته وأن يدرك أن التصنيف هو وسيلة وليس غاية، بمعنى أن السعي للتصنيف لهدف الحصول على التصنيف الأعلى مرتبة والذي يمكن من المنافسة على مشاريع ذات قيم مالية أكبر، وبالتالي يعطي فرصة أكبر لتوفير ربح أعلى من بنود متعددة وذات قيم مالية كبيرة يعد سعيا غير صحيح، لأنه يجعل المقاول يتحمل مخاطرة عالية ربما تلج به في ورطة كبيرة، فهدفه أصبح درجة التصنيف بعينها لا الاستفادة من التصنيف في التعرف على إمكاناته التي تساعده على التعرف على المشروع المناسب له والذي يستطيع أن ينافس عليه وينجزه بسمعة طيبة. 
أما الجهة المسؤولة عن التصنيف فعليها أن تحقق العدالة والشفافية وأن تبني عناصر و معايير للتصنيف قابلة للقياس بشكل واضح مع تحقيق التطور المستمر لجميع عملياتها وإجراءاتها، كما أنه من الجيد أن تشجع المقاولين دائما على بدء خطوات التصنيف وأن تنشر الوعي حول أهمية التصنيف لكل مقاول، وبالتالي ربما تحتاج بعض المعايير إلى القليل من التعديل لتكون أكثر جذبا للمقاول خاصةً في أول تصنيف له. وعلى مالك المشروع سواءً من الإدارات الحكومية أو القطاع الخاص أن يسلك طريق تأهيل المقاولين ولا يكتفي بالتصنيف (فمثلا: التصنيف قد يخبر أن المقاول مصنف في أعمال المباني، فهذا تصنيف واسع النطاق فمشاريع المباني متنوعة منها السكنية ومنها التجارية ومنها المكتبية ومنها العالية ومنها المنخفضة ... إلخ)، وعلى مالك المشروع إذا ما كان لديه مشروع ما أن يبحث عن من لديه خبره عريضة في مشاريع مشابهة لمشروعه من حيث النوع والحجم ودرجة التعقيد، وهكذا حتى يجيد في عملية اختيار المقاول الأنسب لمشروعه، وبالتالي يقلل من مخاطر تأخر المشروع بسبب عدم كفاءة أو قلة خبرة المقاول وفي الوقت نفسه ألا يتجه إلى المقاول ذو الخبرة الكبيرة جدا والتي تفوق ما يحتاجه المشروع وبالتالي ينعكس ذلك سلبا على تكلفة المشروع والمبالغة فيها. في هذا السياق أشيد بجهد وكالة تصنيف المقاولين ومِن خلفها وزارة الشؤون البلدية والقروية لشفافيتها بنشر عناصر ومعايير التصنيف، كما نشر نظام ولائحة التصنيف وآلية التصنيف على موقعها الإلكتروني المميز. كما أنه من المهم والمطلوب من وعلى الجهات الحكومية أن تتعامل مع شهادة وكالة التصنيف على أنها شهادة تؤكد أن المقاول الحاصل على درجة تصنيف معينة هو قادر على تنفيذ المشاريع المحددة قيمها ومجالها في الشهادة، وهذا لا يعني أن هذه الشهادة تؤكد أن هذا المقاول المصنف هو مناسب ومؤهل للمشروع المطروح للمناقصة، وبالتالي الفرق بين تصنيف المقاولين وتأهيل المقاولين لابد أن يكون مأخوذ في الحسبان دائما وأبدا.
 عند طرح أي مشروع للمناقصة يُمكن للإدارة الحكومية أن تستفيد من شهادة التصنيف للمقاولين كمحاولة "لفلترة" المقاولين، ويجب أن يتبع ذلك مرحلة أخرى مهمة تقوم بدراسة هؤلاء المقاولين ووضعهم الحالي (أي حال طرح المشروع للمناقصة)، وذلك حتى تستكمل عمليات التأهيل لهم والخروج بجواب على السؤال: مَن مِن هؤلاء المقاولين لديه القدرة - في الوقت الحالي - على تنفيذ المشروع بنجاح ؟ ثم يأتي التحليل الفني والمالي للعطاء كمعيار أخير للترسية (مع الاستطراد والتنويه إلى أن العرض الأقل قيمة يعد مفهوما يحبذ التخلص منه، لأنه في نظري ونظر الكثيرين هو أحد العوامل الرئيسة المتسببة في فشل المشاريع وتعثرها). حجم الأعمال الحالية الملتزم بها المقاول ومستوى أداءه فيه قد يكون أحد المعايير المهمة لتأهيل المقاول، حيث إنه قد تكون الأعمال الحالية للمقاول عائقا له من إضافة أي مشروع جديد، وقد يكون المقاول متعثر في مشروع أو أكثر فعلينا أن نحذر من "أن نزيد الطين بلة". فالمقاول قد يكون مصنف ولديه شهادة تثبت تصنيفه لمثل المشروع المطروح للمنافسة، ولكن ظروفه الحالية لا تدعم تأهيله لهذا المشروع في هذا الوقت. فلكل مقاول حجم معين من المشاريع في السنة الواحدة، فإذا تجاوزها ترتب عليه تحمل مخاطر ذلك وعلى الجهات الحكومية ألا تتشارك معه في تحمل مخاطره الذاتية.
 تصنيف المقاولين وتأهيلهم للمشاركة في أي منافسة يعد من المشكلات المزمنة في عالم صناعة التشييد، إيجاد حلول لهذه المشكلة تتناسب مع واقع المقاولين وواقع الإجراءات والقوانين - والتي تحتاج إلى التطوير المستمر- تعد مسألة صعبة إذا ما استمر تشتت المعلومات والمسؤوليات الخاصة بالمشاريع بين الوزارات ذات الصلة واستمر عدم التكامل بينهم. فمثلا: وزارة المالية يصل إليها جميع معلومات المشاريع الحكومية (معلومات تخص عقود المقاولين مع الجهات الحكومية، قيم المشاريع، التدفقات المالية للمشاريع، كشف حساب المقاولين المالي الخاص بمشروع حكومي ما، صور شهادات التصنيف، شهادات السعودة، وغيرها) ووزارة الشؤون البلدية والقروية متمثلة في وكالة تصنيف المقاولين لديها معلومات عن المقاولين (معلومات تخص ميزانيتهم المالية، مشاريعهم السابقة، جهازهم الفني، وغيرها)، والإدارات الحكومية الأخرى - ذات التجربة مع المقاول - لديها معلومات عن أداء المقاول (معلومات تخص جودة الأعمال، مهاراته في التخطيط والتنفيذ، جهازه الفني، حجم المعدات، علاقاته مع الموردين، وغيرها) فهل يمكن تحليل هذه المعلومات مجتمعه؟
هذا يتطلب تكاملا بين الوزارات ذات العلاقة، بمعنى هل يمكن أن نبني برنامجا يحوي جداول للبيانات توفر معلومات عن المقاولين والتي بدورها تسهم في عملية تأهيلهم. هذا البرنامج يقوم بربط أسماء المقاولين المصنفين مع المشاريع والعقود التي لديهم (عقود مع الوزارات والجهات الحكومية والخاصة) في جداول بيانات موحده وبالتالي يسهل التحري عن عدد المشاريع التي لديهم في وقت طرح المشروع، وهذه البيانات لابد لها أن تكون ذكية وغنية بمعلومات تخص المشاريع القائمة للمقاولين، فمثلا: معرفة في أي مرحلة من مراحل المشاريع القائمة هم، وأيضا معرفة ما لهم وما عليهم من مستحقات مالية تخص المشاريع الحكومية، وأيضا أن نتعرف على الجهاز العامل لدى المقاول (الطاقة البشرية له) بربط هذه الجداول مع جداول بيانات التأمينات الاجتماعية، وبالتالي سنقف على صورة أكثر وضوحا عن حال هذا المقاول، ونستطيع أن نحكم على تأهيله بشكل  أكثر دقةً وعدلا. وهنا لابد لي أن أشير إلى وجوب وضع معايير للتأهيل بما يتناسب مع المعلومات المستخلصة من مثل هذا البرنامج ثم يتم نشرها للجميع أسوةً بعناصر ومعايير التصنيف.

المزيد من الرأي