مركبات النقل الكبيرة كارثة اقتصادية

على الرغم من الزيادة المطردة في عدد مركبات النقل الثقيل التي تجوب الطرق الرئيسية بين مدن المملكة، إلا أن الأمر يُنظر إليه من وجهة نظر الكثيرين وكأنه حدث عادي جلبته معها الطفرة الاقتصادية التي تعيشها البلاد اليوم. ولكن الذي يُسافر عبر الطريق المُوصِّل بين المنطقة الشرقية والرياض على سبيل المثال، ومثلها الطرق الرئيسة الأخرى، يُشاهد بنفسه تلك السلسلة المتواصلة من المركبات التي تنقل الأحمال الثقيلة والبضائع المختلفة من الجبيل ومن ميناء الدمام والمُدن الصناعية إلى المناطق الأخرى، تاركة قسماً يسيراً تنقله عربات سكة الحديد لا يُكوِّن من المجموع إلا نسبة قليلة. وهذه هي المرة الثانية التي نتطرق فيها إلى هذا الموضوع المهم. ونود اليوم أن نتوسع في توضيح الأهمية الاقتصادية لإحلال استخدام مرافق السكك الحديدية محل مركبات النقل البري لنقل جميع الأحمال الثقيلة بين الموانئ والمصانع وبين المُدُن. والغرض الرئيس من عرض الموضوع يتمثل في ارتباطه المباشر بالاقتصاد الوطني من جوانب كثيرة وسلامة السير على الطرق العامة مع ازدياد عدد المسافرين. وبالنسبة للمركبات الكبيرة التي تسير على الطريق نفسه الذي نستخدمه أثناء انتقالنا بين المدن، يُشاهد المرء تدمير المسار الأيمن من الطريق، مما يُعرِّض حياة المسافرين للخطر ويزيد من احتمال وقوع حوادث نتيجة لسيرها البطيء، ناهيك عن كثرة تجاوزها لبعضها مما يجعلها تحتل المسار الأوسط من الطرق الرئيسة لفترة طويلة دون مُراعاة لكثافة وسلامة المركبات الأخرى.
أما من الناحية الاقتصادية، وهو الدافع لكتابة هذا المقال، فسنوضح المكاسب الكبيرة التي سيجنيها اقتصادنا الوطني لو استطعنا تحويل معظم نقل الأحمال الثقيلة من خدمة المركبات إلى عربات السكك الحديدية خلال السنوات المقبلة. فنحن لا نُصنِّع ولا قطعة غَيار واحدة من تلك المركبات. بل نستورد المركبة مع ما تحتاج إليه من قطع الغيار غالي الثمن من بلد المنشأ خلال سنوات عمرها. وبطبيعة الحال، فإن ما ندفعه ثمنا لتلك المُعدات الثقيلة هو بالعملة الصعبة التي عادة ما تُنهك الاقتصاد الوطني، دون أن يكون لعمالتنا أي شراكة في التصنيع، أو حتى التجميع. ولو استطعنا أن نستغني عن قسم كبير منها لصالح وسيلة نقل تكون أكثر كفاءة وأرخص ثمناً وأطول عُمراً، لحققنا بذلك إنجازاً اقتصادياًّ مهماً يتمثل في توفير الكثير من المليارات النقدية دون أن نُضحِّيَ بأي نسبة من حركة نقل البضائع، وهذا ما يخُص وسائل النقل فقط. والعامل الآخر في المعادلة هو الاستغناء عن عشرات الألوف من العمالة الأجنبية التي تم جلبها من أجل قيادة تلك المركبات. ولوجود العمالة الأجنبية في بلادنا آثار سلبية، اقتصادية واجتماعية، ولذلك يجب أن نبذل جهداً مًضاعفاً نحو الاستغناء عن أكبر عدد منهم ونتيح فرص عمل أكبر للمواطنين العاطلين الذين يزداد عددهم كل سنة، وذلك عن طريق الاستثمار في مشاريع النقل التي تُهيِّء لهم مجالات واسعة ومناسبة للعمل. فالعامل الأجنبي يحرص على أن يبعث بمدخراته إلى بلده الأم، وهو أمر طبيعي. ولكن ذلك أيضا يدخل في عِداد استنزاف الثروة النقدية للبلاد التي يعملون فيها. وفي الوقت نفسه، فتلك العمالة تستهلك أثناء وجودها بيننا كثيراً من المنافع والمواد الغذائية المعفاة أو المُخفضة. ولا نستثني الأمور الأمنية التي بالتأكيد ستكون أفضل حالاً دون وجودهم.
وهذه المركبات تستهلك سنوياًّ كميات هائلة من الوقود الذي يبلغ ثمنه محلياًّ أقلَّ من عُشر قيمته الحقيقية بموجب الأسعار العالمية، وهو يذهب إلى ما يُشبه الهدر، وينتج عن ذلك خسارة اقتصادية تُقدَّر بمليارات الريالات. وحرق الوقود بهذه الكميات يُضيف إلى التلوث الجوي الذي نحن نُعانيه ونود التخلص منه، أو على أقل تقدير نعمل على تخفيفه. وعلى الرغم من وجود عدد من موازين الشاحنات في مداخل بعض الطرق، إلا أنك تشاهد تلك الشاحنات التي تحمل أحمالاً ثقيلة, وقد دمرت المسارات التي تقع في الجهة اليُمنى من الطرق الرئيسة، مُحدثة حُفراً ونتوءات تُعرِّض مركبات المسافرين الصغيرة للخطر، إلى جانب تكلفة الصيانة الكبيرة التي تتحملها جهات المواصلات المسؤولة. ومن المُستبعد أن تُشاهد هذه الكثافة من المركبات الكبيرة في أي بلد في العالم، وهو أمر يدعو إلى دراسة الوضع وعدم التهاون في شأنه.
وبما أن حركة نقل البضائع والمعدات الثقيلة بين المواني ومناطق الاستخدام والاستهلاك تزداد مع استمرار ارتفاع الدخل ومتطلبات الحياة، فلا بُدَّ من إيجاد وسائل نقل عام تكون أقل تكلفة وأكثر سلامة وتستهلك نسبة ضئيلة من الوقود، وإلى جانب ذلك يتم تشغيلها وصيانتها بأيد وطنية. بل أنها مُتوافرة لدينا الآن، وهي السكك الحديدية التي يتم حالياًّ إنشاؤها وتمتد من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها. وكل ما نحتاج إليه هو إرادة قوية من المسؤولين عن ذلك المرفق الحيوي، وإيماناً منهم بما يعود على المصلحة العامة. ونود أن نؤكد على كلمة المصلحة العامة، بعيداً عن المصالح الخاصة، التي غالباً ما تستغل التسهيلات والإعفاءات الحكومية لصالحها. ونحن نعلم أن التخطيط لإنشاء مشاريع استقبال الكميات الهائلة من الأحمال الثقيلة من أجل مُناولتها ونقلها بواسطة عربات سكة الحديد، بدلاً من المركبات الكبيرة التي نتمنى أن يختفي معظمها، هو عمل جبار ومسؤولية كبيرة لا يستطيع القيام به إلا ذوو العزم من الرجال المخلصين الذين يتمتعون بنظرة ثاقبة وبعيدة المدى نحو خطورة الوضع الحالي ومتطلبات المستقبل.
وما علينا إلا أن نُطلق العنان لخيالنا ونتصور ما ستؤول إليه حالنا لو أننا تركنا الأمور تسير على ما هي عليه اليوم من زيادة مُخيفة في عدد الناقلات الثقيلة مع مرور الوقت، وأخذنا في الحسبان الأعداد الهائلة من العمالة الأجنبية المطلوبة لقيادتها ومضاعفة كميات الوقود الذي يُسيِّر تلك الناقلات واحتلالها شبه الكامل لمساحات الطرق ومضايقتها للمسافرين، مما يتسبب في زيادة الحوادث المرورية المروعة التي نحن نُعانيها الآن قبل أن نُضيف عوامل جديدة. إن أقل ما يُقال عن وضع كهذا أنه سيكون سبباً في إحداث كارثة اقتصادية - لا سمح الله ـ ولعله من الواضح أن المكاسب المادية الهائلة، المباشرة وغير المباشرة، التي سنجنيها بعد الاستغناء عن نسبة كبيرة من تلك المركبات، سيكون له آثار إيجابية لا حدود لها. ونتمنى أن تتولى الجهات المسؤولة في وزارة المواصلات دراسة الوضع الحالي والمستقبلي لهذه الظاهرة وتضع لذلك خُططاً استراتيجية بعيدة المدى تتناسب مع ما تستحقه من اهتمام، من أجل وضع حدٍّ لهذا الاستنزاف الاقتصادي الذي يسير الآن في اتجاه مُضاد للمصلحة العامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي