توأمة سياسات المجلس الاقتصادي الياباني ومبادرات قطاع الأعمال الاستراتيجية

إعلان المجلس الاقتصادي الأعلى أخيرا عن تأسيس ثلاث شركات مساهمة في الرياض وجدة والظهران لتطوير اقتصاد المعرفة بمشاركته قطاع الأعمال السعودي، ذكرني بقصة نجاح يابانية ـ لم يشهد لها العالم مثيلاً ـ بدأت فصولها بعد الحرب العالمية الثانية ولم تنتهِ بعد.
بمجرد خروج اليابان من الحرب مُدمرةً كلياً ومُحطمة نفسياً، شهد الاقتصاد عدة تغيرات جوهرية مثل التحول من اقتصاد الحرب إلى مرحلة إعادة البناء ومن اقتصاد مغلق ومعزول إلى آخر أكثر انفتاحاً على الأسواق العالمية وكذلك من اقتصاد تسيطر عليه الحكومة إلى هيكلية الاقتصاد المزدوج، يشارك قطاع الأعمال في رسم وتنفيذ السياسات الاقتصادية بدعم كامل من المجتمع الياباني.
ولمواكبة هذه التحولات، بادرت الحكومة اليابانية إلى إنشاء مجلس السياسات الاقتصادية والمالية CEFP برئاسة رئيس الوزراء لتحقيق عدة أهداف، ومنها ما يلي:
- رسم السياسات الاقتصادية لكل مرحلة.
- توأمتها مع المبادرات الاستراتيجية للشركات.
- ضمان الصادرات والاستثمارات الخارجية.
- توفير فرص عمل لكامل الموارد البشرية.
- بلورة توافق وطني وحشد تأييد المجتمع.
وفي رأيي أن الاقتصاد الياباني أشبه ما يكون بالسفينة التي كلما شارفت على الغرق اندفع جميع اليابانيين إلى الجهة الأعلى من السفينة حتى تتوازن كجسد واحد بمقتضى روح الجماعة، وهذا ما رأيته بنفسي في السلوكيات الشرائية للمجتمع الياباني عندما يواجه قطاع معين مشكلات يبادر الجميع إلى الإقبال على منتجاته حتى يسترد عافيته.
تمشياً مع سياسات المجلس الاقتصادي الياباني، تبنت الشركات مجموعة من المبادرات الاستراتيجية، ومنها:
- توفير مصادر خارجية ومستقرة للمواد الخام.
- ترشيد عمليات الإنتاج وأنظمة التوزيع الداخلية.
- تصدير المنتجات النهائية إلى الأسواق العالمية.
أولاً: بادرت الشركات اليابانية إلى الاستثمار المكثّف في تطوير مشاريع الموارد الطبيعية حول العالم، لخلو اليابان من الثروات الطبيعية عدا المياه، مثل تطويرهم حقول النفط والغاز في بروناي ومناجم الحديد في أستراليا والمجمعات البتروكيماوية في المملكة.
في عام 1980م، ساهمت مجموعة شركات يابانية في تطوير مجمعين في مدينة الجبيل الصناعية، هما الشركة السعودية للميثانول (الرازي) والشركة الشرقية للبتروكيماويات (شرق) مناصفة مع ''سابك'' وذلك لإنتاج البولي إثيلين وجلايكول الإثيلين وشحن كميات منه إلى اليابان لتغذية صناعات النسيج، ومن ثم تصدير الأقمشة ذات القيمة المضافة إلى المملكة لحياكة الملابس!!
ثانياً: تتسم بيئة الأعمال اليابانية بالفصل التام بين عمليات التصنيع وأنظمة التوزيع الموكلة لشركات تجارية يفوق عددها عشرة آلاف شركة حسب إحصاءات وزارة التجارة الدولية والصناعة MITI، مصنفة إلى كبيرة ومتوسطة وصغيرة وعامة أو متخصصة حسب المنطقة الجغرافية والمنتجات التي توزعها.
وكنت كلما ناقشت زملاء الدراسة والعمل اليابانيين بأن وجود هذا العدد المهول من تجار الجملة والتجزئة يرفع تكلفة السلع على المستهلكين، أجابوا بأنه لا بأس في ذلك طالما أن هذه الشركات توظّف ملايين المواطنين، في إشارة إلى دعمهم للسياسات الحكومية الداعية إلى توفير وظائف لجميع الموارد البشرية تحت شعار Full Employment Economy، إضافة إلى قيام هذه الشركات التجارية بترشيد عمليات التجميع والتوزيع في مراكز مخصصة لهذا الغرض Fabrication and Distribution Centers.
وفي هذا السياق، أنشأت ثلاث شركات تجارية كبرى مراكز تجميع وتوزيع منتشرة في جميع جزر اليابان، أسهمت في تخفيف أعباء التجميع والتخزين عن عدد كبير من الصناعات التصديرية مثل السفن العملاقة والمعدات الثقيلة ومولدات الكهرباء وكذلك الأجهزة الكهربائية والإلكترونية والسيارات، أدى إلى هيمنة الصادرات اليابانية على الأسواق.
ثالثاً: مبادرة استراتيجية أخرى طبقتها الشركات اليابانية وأسهمت في تفعيل السياسات الاقتصادية الحكومية وتحسين ميزان المدفوعات وتحقيق وفورات في العملات الصعبة، تتمثل في تصدير منتجات نهائية بقيمة مضافة عالية مستخدمة شبكة مكاتب منتشرة في جميع أصقاع الأرض تعمل جميعها على دراسة الأسواق وتحديد الفرص ومتابعتها مع غرفة عمليات في مقارها الرئيسة في طوكيو أشبه ما تكون بتلك الموجودة في البنتاجون. وقد بدأت مسيرة التصدير اليابانية على استحياء نتيجة رداءة جودتها في ذلك الوقت، لدرجة أن شركة نيسان عرضت سياراتها تحت اسم ''داتسون'' خوفاً من أن يؤثر فشل التجربة على سمعة الشركة، ولم تُطلق اسم نيسان إلا بعد أن حققت نجاحاً في الأسواق العالمية.
على النقيض، نجد أن بعض شركاتنا المساهمة تُعيد تموقع مراكز إنتاجها خارج المملكة، من خلال استحوازات على شركات أجنبية متعثرة، في حين أن الاستراتيجية الوطنية للصناعة - التي طورتها وزارة التجارة والصناعة أخيرا - تدعو إلى الاستثمار في تحويل مواردنا الطبيعية مثل الغاز إلى صناعات تحويلية ونهائية ذات قيمة مضافة، وكذلك إلى مضاعفة عدد العاملين السعوديين في قطاع الصناعة إلى خمسة أضعاف العدد الحالي بحلول عام 2020م.
في رأيي إن تبوؤ اليابان المركز الثاني بين أكبر اقتصادات العالم، يعود إلى توأمة سياسات المجلس الاقتصادي الياباني والمبادرات الاستراتيجية لقطاع الأعمال نحو توفير مصادر خارجية مُستقرة للمواد الخام اللازمة للصناعات المحلية وترشيد عمليات التجميع والتوزيع، وكذلك تصدير المنتجات النهائية ذات القيمة المضافة العالية إلى الأسواق العالمية، حتى إن بعض المحللين صوروا اليابان على أنها شركة بذاتها Japan Inc.، وهي بلا شك تجربة ناجحة جديرة باهتمام واضعي السياسات الاقتصادية السعودية في المجلس الاقتصادي الأعلى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي