منهج الاعتدال وثقافته كما يراهما خالد الفيصل

«لا للتكفير، لا للتغريب، نعم للاعتدال في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة، إنه الدين والحياة، إنه الإسلام والحضارة، إنه منهج الاعتدال السعودي».
هذه رؤية رجل صاحب فكر نير وإحساس مرهف وقلب كبير يتطلع إلى تحقيق أهداف سامية لمجتمعه. إنها كلمات قالها الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة بمناسبة تدشين كرسي الأمير خالد الفيصل لتأصيل منهج الاعتدال السعودي بجامعة الملك عبد العزيز ظهر يوم الثلاثاء 19/1/2010.
وفي المساء نفسه كنت في مجلسه الخاص وتطرق حديث سموه مع الحضور إلى هذه المناسبة وزادنا شرحاً لهذا التوجه. فسموه يرى أن هذه الدولة الحديثة منذ أن تأسست على يد الملك عبد العزيز - رحمه الله - لم تكن منغلقة على نفسها ولم تكن ضد الحضارة والتطور والانفتاح المسؤول على حضارات الأمم الأخرى، بل إن المؤسس قاوم من كانوا ضد العلم والتطوير. والاعتدال والانفتاح كانت تعكسه الحياة السياسية في عهد الملك عبد العزيز، حيث كان مستشاروه من كثير من البلدان العربية (سورية، العراق، ليبيا، وغيرها) وأحياناً تجد في مجلسه الخاص بعض شيوخ القبائل الذين حاربوه أثناء توحيد المملكة، ومع ذلك كان يحاورهم ويرعاهم ويحمد الله أن تلك العداوة لم تضره. ثم تحدث سموه عن الملك فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - وكيف جسد هذا الحب والانفتاح تجاه الأمة الإسلامية بأسرها من خلال دعوته للتضامن الإسلامي ورحلاته المشهورة لتوحيد كلمة المسلمين وإصلاح أي خلاف بينهم، فقد كان يحب الخير لأمته الإسلامية كما يحبه لوطنه.
ويرى الأمير خالد الفيصل أن تلك الفئة من شبابنا التي تبنت الإرهاب كوسيلة للتغيير كانوا ضحية الدين المسيس والفكر المنحرف. وأن الانغلاق الفكري قادهم إلى التطرق فأساءوا فهم الدين وخلقوا صورة مشوهة عن شباب هذا الوطن.
إن الرؤية التي طرحها سموه ويأمل أن تكون منهجاً لهذا المجتمع في حاضره ومستقبله تدعوني للتفكير في نشر ثقافة الاعتدال وقبول الآخر والتحاور مع فكره في حال الاختلاف. وفي دراسة سابقة لي قلت إن الثقافات حول العالم يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
1- ثقافة الهيمنة
وهذا النوع من الثقافة مصابُ بالغرور والانغلاق والنظرة الفوقية لنفسه والنظرة الدونية لغيره من ثقافات الشعوب الأخرى. وهذه الثقافة تفسر أحداث العالم من منظور فكرها الضيق ومصالحها الخفية، وهي ثقافة متعصبة وجاهلة لأهمية غيرها وتشكل خطراً على الثقافات الأخرى التي لا تذعن لهيمنتها ولا تساعدها على تحقيق مصالحها.
2 - ثقافة الاستسلام
وهذا النوع من الثقافة ضعيف ويعاني مجموعة من الأزمات، مثل: أزمة الهوية وأزمة الوحدة وأزمة الاستقرار، ولذلك تذعن هذه الثقافات لإرادة الثقافات الأقوى منها وتتلون حسب إملاءاتها ومصالحها. وكما قال ابن خلدون في مقدمته «بإن الحضارة يتأثر فيها المغلوب بالغالب». فإن الثقافات الضعيفة تتأثر بثقافة القوي المنتصر عليها؛ لما يحمله من معارف وعلوم وفنون ووسائل قوة تسهم في نشر ثقافته الغالبة.
3 - ثقافة التكيف
وهذا الثقافة تحاول أن تحافظ على هويتها المحلية - لأنها تراث أصيل لا ينبغي التفريط فيه - ولكنها في الوقت نفسه تحاول أن تقوم بنوع من التحديث والتطوير لذاتها؛ من خلال إعادة تفسير الدين أو الأيديولوجية أو القيم كي تتماشى مع الظروف المعاصرة.
وهذه الثقافة تتفاعل مع الثقافات الأخرى وتتأثر بها وتحاول أن تأخذ منها بعض الأفكار المفيدة التي تلبي بعض احتياجاتها، حيث تأخذ من تلك الحضارات والثقافات المتفوقة عليها في مجالات العلوم والمعرفة والفنون والتكنولوجيا.
وهذه الثقافة تتمتع بقدر معقول من التسامح الحضاري وتنادي بالتحاور - لا التصادم - مع بقية شعوب الأرض وتحث على التعاون والتفاهم ومراعاة الاختلافات الثقافية بين الشعوب.
إن الاعتدال الذي يتطلع إليه الأمير خالد الفيصل لن يتحقق على أرض الواقع ما بين يوم وليلة ولن يحدث بخطبة حماسية أو بمقالة صحافية، إنه لن يتبلور بصورة فاعلة إلا من خلال عمل فكري مؤسسي يجب أن تشارك فيه جميع مؤسسات المجتمع السعودي.
إن التغيير المأمول لا بد أن تسبقه تغيرات فكرية إيجابية كي تنعكس على سلوك الإنسان في هذا المجتمع، والتفكير هو الموجه لكل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال.
أتمنى أن يهتم كرسي خالد الفيصل - الذي تشرفت جامعة المؤسس باحتضانه - باستقطاب شخصيات مبدعة ومفكرة بعيداً عن المجاملات التي تلمع من لا يستحقون. فمساحيق التجميل الرديئة لن تزين الوجه القبيح مهما كثر التلطيخ، ولنا في سيل الأربعاء عبرة حسنة. فالطلاء المغشوش كشف وجه المدينة الحقيقي رغم التلميع الساطع على مدى ثلاثة عقود.
إن صاحب هذا الكرسي مفكر له رؤية ثاقبة، وإنسان حكيم صاحب فراسة وتجربة يعرف من خلالهما الصالح من الطالح، واسأل الله أن يوفق جميع العاملين على هذا المشروع الفكري في بلورة منهج الاعتدال في حياة المجتمع السعودي بجميع مستوياته الاجتماعية والفكرية، وأن نرى ثمار هذا المشروع قريباً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي