رأسمالنا البشري وغياب التخطيط الاستراتيجي لاستثماره

تنطلق الأسبوع المقبل فعاليات منتدى الرياض الاقتصادي برعاية خادم الحرمين الشريفين - رعاه الله - والموارد البشرية أحد محاوره. كثيرا ما نقرأ ونسمع شعارات ومقولات «الإنسان أولاً» و«الإنسان هو هدف التنمية» و«الاستثمار الحقيقي هو الاستثمار في تعليم وتدريب شبابنا» و»الأهم هو بناء رأس مالنا البشري» و«الإنسان هو صانع الثروة»، ولكن ما الجهة التي تخطط لاستثمار مواردنا البشرية وتحيلها إلى مورد اقتصادي لا ينضب من الإبداعات والاختراعات والسواعد الماهرة المنتجة؟ فالتخطيط الاستراتيجي لاستثمار مواردنا البشرية هو السبيل الوحيد لتحقيق اقتصاد المعرفة على صعيد الواقع. ويأتي بعد التخطيط الاستراتيجي والتشريع، عامل التعليم والتدريب الذي يحيل الجاهل عالماً والعاطل منتجاً ويكشف عن الإبداع، والعامل الأخير هو التوظيف ووضع كل عنصر بشري عامل في الموقع المناسب لدرجة تعليمه وتدريبه ومهاراته وقدراته الإبداعية.
وفي حالة مواردنا البشرية لم تحدث الأمور بهذا التسلسل الصحيح حيث سبق عاملا التعليم والتدريب والتوظيف عامل التخطيط الاقتصادي لمواردنا البشرية بعقود.
فالتخطيط لاستثمار مواردنا البشرية جزء من التخطيط الاقتصادي إلا أن التخطيط لاستثمار الموارد البشرية لم يحظ بالأولوية لأسباب موضوعية، منها اعتماد اقتصادنا منذ وقت مبكر على البترول مما غيّب عنا الحاجة للتخطيط الاقتصادي لمواردنا البشرية، وكذلك لتأخر نشأة أجهزة التخطيط الاقتصادي وتشتتها وتداخل أعمالها وصلاحياتها. لقد كان الاقتصاد ملحقاً بشكل أسمي وهامشي بوزارة المالية ثم انتقل حديثاً إلى وزارة التخطيط والاقتصاد، فما إن استقر في وزارة التخطيط حتى نشأ المجلس الاقتصادي الأعلى واستمرت جهات عديدة تشترك في التخطيط الاقتصادي والترخيص لمشاريع اقتصادية عملاقة مثل الهيئة العامة للاستثمار والهيئة الملكية للجبيل وينبع ووزارة الصناعة ثم وزارة التجارة والصناعة فيما بعد ووزارة الشؤون البلدية. وكان مجلس القوى العاملة من الجهات التي تشرع للموارد البشرية والقوى العاملة.
كل هذه الجهات كانت تخطط وترخص لمشاريع اقتصادية واستثمارية بناء على دراسات جدوى تتضمن أعداد القوى العاملة والموارد البشرية اللازمة لإنشاء ثم تشغيل تلك المشاريع. ولكن قلما حولت أعداد تلك القوى العاملة إلى جهات التعليم والتدريب لتأهيل وتدريب مواردنا البشرية لأخذ دورها في التوظيف في مشاريعنا الاقتصادية. وفي الغالب الأعم توجه هذه الأعداد المطلوبة من القوى العاملة إلى وزارة العمل لتوفير تأشيرات لعمالة وافدة. أما على صعيد خطط التنمية التي تصدرها وزارة التخطيط والاقتصاد فلم يدخل مصطلح الموارد البشرية إلا بدءاً من خطة التنمية السابعة عندما ناقشت أبحاثا ضمن مداولات مؤتمر الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي الذي نظمته وزارة التخطيط عام 1423هـ دور القوى العاملة واقتصادياتها والتخطيط لذلك. والمشكلة التخطيطية لمواردنا البشرية تكمن في أن معظم تلك الخطط تصدرها جهات تنفيذية لا تستطيع أن تلزم بعضها بعضا ولا تستطيع أن تلزم وزارة المالية بتمويل تلك الخطط أو تلزم الجهات التنفيذية الأخرى بتنفيذها. وحتى بعد إنشاء المجلس الاقتصادي الأعلى لم يرد من ضمن مهامه رسم الاستراتيجيات الشاملة للموارد البشرية الملزمة للجهات التنفيذية. ولم تقترح أية خطة أو استراتيجية شاملة للاستفادة من مواردنا البشرية من جهة أعلى من الجهات التنفيذية إلا الاستراتيجية الوطنية الشاملة بعيدة المدى للتعليم التطبيقي والتقني والتدريب الفني التي أعدها مجلس الشورى عام 1426هـ وصدرت بقرار لمجلس الوزراء عام 1427هـ لتكون استرشادية وليست ملزمة، وذلك بعد محاربتها وقتلها من قبل الجهات التنفيذية كوزارة العمل ووزارة التعليم العالي والمؤسسة العامة للتدريب التقني. والعجيب أن تلك الجهات التنفيذية كوزارة العمل ووزارة التعليم العالي والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني سارعت إلى إصدار «استراتيجيات» مجتزأة ومكررة من الاستراتيجية الشاملة المقترحة من مجلس الشورى عام 1426هـ وفق رؤية كل وزارة وجهة تنفيذية على حدة تمشياً مع موضة الاستراتيجيات القطاعية التي تصدرها الجهات التنفيذية. إن التخطيط الاستراتيجي الشامل لأي جانب من جوانب الاقتصاد لا بد أن يصدر من جهة تخطيط أعلى من الجهات التنفيذية ويبقى دور الجهات التنفيذية بناء خطط وبرامج العمل التنفيذي وليس التخطيط الاستراتيجي الشامل كما يحدث في وزاراتنا. إن تشتت و تنازع الصلاحيات وعدم وضوح الرؤية وحرص الجهات التنفيذية على بقاء الحال على ما هي عليه لديها جعل كل وزارة أو جهة تنفيذية تخطط «استراتيجياً « من وجهة نظر تلك الوزارة أو الجهة التنفيذية القطاعية، وبذلك حرم اقتصاد الوطن من التخطيط الاستراتيجي الفاعل والملزم.
أما العامل الثاني الحاسم في الاستفادة من مواردنا البشرية فهو التعليم والتدريب. تُعلّم وتُدرّب مواردنا البشرية (الآن) وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالي والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني وما يتبع لتلك الجهات من مؤسسات تعليمية وتدريبية أهلية. لقد انطلق تعليمنا لعقود قبل أن تنشأ الجهة التي تخطط خطط التنمية، وأخذ اتجاهات في بداياته لا ترتبط بسوق العمل ولا تقوم على خطط أو رؤية اقتصادية واضحة. لقد أفرز هذا الفصام والفجوة الزمنية بين التخطيط الاقتصادي وانطلاقه وتطور التعليم والتدريب فجوة تعمقت بمرور الزمن بين مخرجات التعليم والتدريب وحاجة سوق العمل. فمع أنه من المفروض تحويل الأعداد المتوقعة من القوى العاملة بعد الترخيص للنشاطات الاقتصادية للجهات التعليمية والتدريبية لبناء خططها الدراسية والتدريبية ومناهجها لتأهيل تلك الموارد البشرية اللازمة للأنشطة الاقتصادية، إلا أن هذا لم يحدث في الماضي وما زال الوضع على ما هو عليه من غياب الربط بين التخطيط الاقتصادي ومؤسسات التعليم والتدريب. لقد أفرز هذا أن 80 في المائة من مخرجات تعليمنا نظرية و50 في المائة من مخرجات الثانوية أدبية وجعل تدريبنا الفني وهمياً .
لقد نشأ (على الورق) عام 1425هـ المجلس الأعلى للتعليم، ومن بين صلاحياته صياغة سياسة التعليم وخططه ومناهجه وهذا المجلس لا شك يمثل حلقة أساسية في تحويل الموارد البشرية إلى مصدر من مصادر الاقتصاد الأساسية، إلا أنه مع الأسف تأخر في مزاولة صلاحياته ومهامه حتى الآن مع أن حالة التعليم بجميع أنواعه و مراحله وحالة مواردنا البشرية هي أحوج ما تكون لهذا المجلس بالاشتراك مع المجلس الاقتصادي الأعلى لإعادة توجيه مؤسسات التعليم والتدريب وخططها ومناهجها نحو التحول إلى اقتصاد المعرفة وتعليم وتدريب مواردنا البشرية في هذا الاتجاه.
أما العامل الثالث الحاسم في الاستفادة من مواردنا البشرية فهو التوظيف. وفي هذا المجال تعاني مواردنا البشرية ثنائية قديمة عقيمة تحرمنا الاستفادة المثلى من مواردنا البشرية. حيث تقوم وزارة الخدمة المدنية بتوظيف مواردنا البشرية في القطاع الحكومي الذي يتسم بالأمان الوظيفي وقلة الإنتاجية وكثرة الإجازات الأسبوعية والسنوية والمجاملة في قياس الكفاءة والترقيات والمحاباة والمحسوبية في التعيين والترقية وقلة ساعات العمل والوجاهة الاجتماعية والتمتع بمزايا يوفرها نظام التقاعد. وفي المقابل تقوم وزارة العمل بتوظيف مواردنا البشرية في القطاع الخاص الذي يتسم بعدم الأمان الوظيفي وقلة الإجازات الأسبوعية والسنوية وكثرة ساعات العمل والصرامة في قياس الإنتاجية والتدقيق في الترقيات وربطها بالانضباط والإنتاجية والتدقيق في المؤهلات والخبرات عند التعيين وتدني الأجور والعمل لفترتين وغلبة العمل الميداني وكثرة التنقل حسب حاجة العمل وعدم الاستقرار الوظيفي والخضوع إلى نظام التأمينات الاجتماعية. لقد ولدت هذه الثنائية في سوق العمل انطباعاً لدى المواطن بأن وزارة الخدمة المدنية لتوظيف السعودي أما وزارة العمل فهي لتوظيف الوافدين وإن وظفت وزارة العمل مواطناً في القطاع الخاص فهي وظيفة انتقالية سيتركها حال توافر وظيفة حكومية له. وهكذا ولدت هذه الثنائية عزوف المواطنين عن وظائف القطاع الخاص الذي قاد إلى مبرر لاستقدام عمالة وافدة، وهكذا استمرت هذه الحلقة بلا نهاية حتى تحولت وزارة العمل عن أجندتها لتحقيق السعودة إلى وزارة لاستقدام الوافدين والتراجع عن سعودة نشاط بعد آخر حتى سميت وزارة «الاستقدام والتراجعات». إن هذه الثنائية كرست وما زالت تكرس أن نظام الخدمة المدنية للسعوديين وأن نظام العمل والعمال للوافدين ولا مكان للمواطن في القطاع الخاص إلا على سبيل العبور. فإن كنا نؤمن بما يقوله وزير العمل بأن القطاع الحكومي تشبع وهو كذلك فعلاً حتى تحول ذلك القطاع إلى حد البطالة المقنعة حيث بلغ متوسط إنتاجية الموظف 35 دقيقة فلماذا تستمر هذه الثنائية ولمَ لا يوضع حد لها بإيجاد وزارة واحدة للقوى العاملة تنقذ مواردنا البشرية من المعايير المزدوجة ليعامل المواطن بالمعايير والأجور والمزايا والتقاعد والأمان الوظيفي نفسها، ولم تستمر هذه الثنائية إلى مرحلة التقاعد فيخضع المواطن إلى نظامين تقاعد أو تأمينات؟ أن إلغاء هذه الثنائية أجدى بمراحل من الحلول الترقيعية والتخديرية بإيجاد المركز الوطني لتوظيف المواطنين في القطاع الخاص وإعانات صندوق الموارد البشرية المؤقتة لتوظيف السعوديين في القطاع الخاص والسعودة الصورية التي يستدعى فيها السعودي بالهاتف عند حملات التفتيش عن السعودة في القطاع الخاص .
إن الاستفادة من مواردنا البشرية تستدعي بشكل عاجل الأمور الآتية:
1- رفع مستوى التخطيط الاستراتيجي الشامل للاقتصاد والموارد البشرية أو غيرهما إلى مستوى أعلى من مستوى أي جهاز أو وزارة تنفيذية، وتحديد جهة وإعطاؤها صلاحية التخطيط الاستراتيجي الشامل لأي أمر في بلادنا . إن تجربة مجلس الشورى في التخطيط الشامل للقوى العاملة أحبطت من قبل بعض الوزارات وقد يحدث التنازع على هذه الصلاحية مرة أخرى بين مجلس الشورى والوزارات التنفيذية ويحرم الوطن واقتصاده وجميع مناحي مصالحه من التخطيط الاستراتيجي الشامل الملزم للجميع. لقد مررنا بتجربة خطط «استراتيجية « اقترحتها وزارات وجهات تنفيذية وهي في حقيقتها خطط قطاعية لا تلتزم بها الجهات الأخرى ولا تلزم وزارة المالية بتمويلها وتنتهي إلى حملة إعلامية لتلميع الوزارة التي اقترحتها خصوصاً في غياب المتابعة والمحاسبة وطول مدد تنفيذ الاستراتيجيات وتعدد الجهات التي تشترك في تنفيذها. وما استراتيجية النزاهة ومكافحة الفساد إلا نموذج لذلك .
2- إصلاح الخلل الموروث في مجال الموارد البشرية وذلك بالربط بين التخطيط والتشريع للموارد البشرية الذي يجب أن يتم من خلال جهة تخطيطية وتشريعية عليا وبين المجلس الأعلى للتعليم والتدريب من خلال تفعيل ما سبق أن صدر بخصوصه .
3- لمّ شتات وإعادة هيكلة وإصلاح ما يخدم توظيف وإدارة الموارد البشرية من أجهزة قائمة ثبت عقمها وتحجر أنظمتها وبيروقراطيتها المفرطة وتسببها في ازدواجية عقيمة في مجال الموارد البشرية في بلد واحد مثل وزارة العمل ووزارة الخدمة المدنية وصندوق تنمية الموارد البشرية.
شكراً لمنتدى الرياض الاقتصادي الثاني على تبنيه محور الموارد البشرية ودورها في التحول إلى اقتصاد المعرفة ولكن يجب التنبيه إلى أن التخطيط الاستراتيجي الشامل للاستفادة المثلى من مواردنا البشرية واستثماراتنا الضخمة في التعليم بجميع مراحله وأنواعه شأن حكومي بامتياز ولا يمكن أن يتحقق دون إعادة النظر في الجهات التخطيطية وتحديد صلاحيات التخطيط الاستراتيجي الشامل ولمن يكون؟ ومن يتابع تنفيذ التخطيط الاستراتيجي الشامل عندما يصدر؟ إن مما ينذر بالخطر أن تقديرات مصلحة الإحصاءات العامة تشير إلى أن سكان المملكة سيصلون إلى 40 مليون نسمة عام 1450 هـ، منهم 28 مليونا في سن العمل ولا يفصلنا عن هذا التاريخ سوى 20 سنة، فماذا أعددنا من خطط استراتيجية شاملة لمواردنا البشرية تنقذ شبابنا مما نحن فيه وما نحن متجهون إليه؟
ليس هناك أقسى على اقتصادنا وأبنائنا من أن يعمل في بلادهم أكثر من ستة ملايين وافد بينما تتصاعد البطالة في أوساطهم ويفتح الاستقدام والإقامة المفتوحة على مصراعيه ويظلون هم عاطلين تحت عطف آبائهم أو أسرهم أو يمتهنون السرقة وتسجل عليهم السوابق أو ينخرطون في ترويج المخدرات وتعاطيها والسهر والسلوكيات المنحرفة .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي