Author

تعثر دبي في السداد هل يمهد لإفلاسها.. ما معنى ذلك وما احتمالاته وتبعاته ومن المتضرر الأكبر؟

|
معنى الإفلاس عموما هو عدم القدرة على الوفاء بمستحقات الغير. وإفلاس الدول بعدم تسديد المستحقات الأجنبية في عصرنا المتحضر ليس كالإفلاس في العصور غير المتحضرة للغرب. فقديما إذا امتنعت دولة أو تاجر فيها عن سداد مستحقات أجنبية تقوم الدولة الأجنبية بغزو الدولة المفلسة لتحصيل ما يمكن تحصيله من مستحقاتها أو مستحقات مواطنيها . ولم يعد الحال الآن كما كان ونحن نعيش في عصر العولمة المتحضر. فقد أصبح إعلان الإفلاس اليوم هو عبارة عن إيجاد وضع قانوني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مستحقات الغير مع فتح المجال لعودة المفلس إلى معاودة نشاطه الإنتاجي ضمن المجتمع الاقتصادي. وهو شبيه بالإعسار في الفقه الإسلامي، «فنظرة إلى ميسرة». فسجن المُعسر أو الاستيلاء على أملاكه الإنتاجية لا يضمن رجوع مستحقات الدائنين، وبجانب ذلك فإن فيه غالبا القضاء على عضو منتج في المجتمع الاقتصادي فتكون الخسارة إذن متضاعفة. ومفهوم التمويلات (القروض الاستثمارية) في مفهوم الاقتصاد الحديث هو مشاركة محدودة من الممول في الربح والخسارة. لذا فالممول يتحمل جانبا من الخسارة في حالة فشل المشروع كما أنه كان يتوقع جانبا من الربح وهذا من العدل. إفلاس الدولة يلحقه انهيار لعملتها ولنظامها البنكي مما قد يترك أثرا قاسيا وطويل الأمد في الاقتصاد الإنتاجي وفي مكانتها المالية الدولية وهذا ما ستعمل أبو ظبي على منعه من أن يتعدى ضرر إفلاس دبي إلى دولة الإمارات، فدبي ليست دولة الإمارات وإنما هي إمارة (ولاية) مهمة من إماراته، وإفلاس مدينة أو مقاطعة في ولاية، أو حتى احتمالية إفلاس ولاية، من الأمور التي قد حدثت لأهم مدن وولايات أمريكا. فمدينة نيويورك على سبيل المثال أفلست عام 1975م وكذلك مدينة كليفلاند عام 1978م . وبعض المحللين يراهنون حاليا على إفلاس ولاية كاليفورنيا وهي أغنى ولاية أمريكية. وهناك أمر آخر، فليس كل ديون دبي مرتبطة بضماناتها الحكومية فبعضها كذلك أي General obligation bonds (GOs) وبعضها الأخر -أي من ديون دبي- مرتبطة بمشاريع. فهي وإن كانت من قبل حكومة دبي إلا أن دبي لا تضمنها إنما يضمنها المشروع المرتبط فيه أشبه ما تكون بـ Revenue municipal bonds. وحالات التعثر في دفع مستحقات سندات مرتبطة بالمشاريع العامة الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر مما يمكن حصرها وتبلغ قيمتها عشرات المليارات. والصكوك في هيكلتها لا بد أن تكون من هذا النوع من السندات. فهي مرتبطة بالأصل من حيث الرهن ومن حيث العائد ومقصورة عليه. لذا فلعل دبي وحكومة الإمارات معها أرادت أن تختبر السوق الدولية بسندات (أي الصكوك) التي ليست في ضمانها العام. وممن الممكن أيضا أن من أسباب اختيار الصكوك هو جعلها ككبش الفداء قبل اختبار إشهار الإفلاس رسميا. وذلك من أجل امتصاص الصدمة الأولى المصيرية من قبل المستثمرين في الصكوك والمتوقع أن يكونوا هم أقل إزعاجا وثقافة ومشاغبة من ملاك السندات. وأنا أكتب هذا المقال يوم السبت ليلا (أمس الأول) و قبل وجود أي أخبار عن أزمة دبي فمعطياتي هي المعلومات المتوافرة إلى يوم السبت. والتي سأحاول أن أستنبط منها بموضوعية علمية ما يمكن استنتاجه من احتمالية إفلاس دبي وموقف أبو ظبي والتفريق بين الدين المحلي والأجنبي ومن ثم تبعيات إفلاس دبي وأحاول أن أحدد من هو المتضرر الأكبر من إفلاس دبي محليا وخليجيا ودوليا. وسنخلص بأن دبي في الواقع ليست من أكبر المتضررين بل دائنوها. وقد توقعت تعثر دبي ماليا من قبل ستة أشهر في برنامج في قناة تلفزيونية كنت فيها آنذاك أبرر حكمة أسباب انسحاب الإمارات من العملة الخليجية الموحدة، والمقابلة موجودة على (اليوتيوب) لمن أراد مزيدا من التفصيل عن احتمالية علاقة أزمة دبي المالية بانسحاب الإمارات من الوحدة النقدية. فأما احتمالية إفلاس دبي فهو أمر وارد لأنه هو الحل الأمثل لمشاكل دبي المالية الحالية. فمعظم ديون دبي هي ديون قصيرة الأجل لا تتجاوز خمس سنين، والمشاريع الضخمة الممولة لا يمكن استعادة ما أنفق عليها في خمس سنين، هذا إن تم الانتهاء من إنشائها أصلا. ويظهر لي أن سياسة دبي التمويلية كانت تفترض إمكانية إعادة التمويل كلما حان وقت استحقاقه ولكن الأزمة المالية حالت دون ذلك. لذا فالسيناريو المحتمل أحد أمرين. إما أن تحول أبو ظبي بينها وبين الإفلاس وهذا الاحتمال بعيد لصعوبة تحقيقه من الناحية المالية، وأعتقد أن دور أبو ظبي سيتركز في الدفاع عن النظام البنكي لدولة الإمارات كلها دون انهياره بسبب الأزمة، وإما (ثانيا) إعلان الإفلاس من أجل إعادة جدولة الديون الأجنبية وأعتقد أن هذا هو الحل الأمثل المتوقع، وهو ليس حلا سيئا في جانب دبي أو أنه سيتسبب في انهيار دبي كما يتصور البعض بل العكس وسنبحث كلا الاحتمالين. بخصوص إمكانية أن تتحمل أبو ظبي ديون دبي بنوعيها المحلية منها والأجنبية فهو احتمال يظهر لي أنه ممتنع من الناحية العملية. (وسأركز على أبو ظبي كإمارة أولا وليس كونها عاصمة الإمارات ثم أتطرق إلى كيانها القانوني كعاصمة للإمارات وما يمكن أن تساهم به عن طريق البنك المركزي). فعندما نتحدث عن إمكانية مساعدة حكومة أبو ظبي لحكومة دبي فإننا نتحدث عن ذلك بسبب صندوق أبو ظبي السيادي. ورغم أنه لا توجد أرقام مؤكدة عن حجم هذا الصندوق وقد تواترت الأخبار أنه بلغ 800 مليار دولار قبل الأزمة و400 مليار دولار بعد الأزمة. والصناديق السيادية ليست كالموجودات الأجنبية، فالموجودات الأجنبية هي عبارة عن سندات حكومية- كسندات الخزانة الأمريكية- يسهل تقدير قيمتها كما يسهل تسييلها بلا تكلفة تذكر ولا مخاطرة فيها. وأقرب مثال عليها هو الموجودات الأجنبية للحكومة السعودية التي تقدر بأكثر من 400 مليار دولار. وأما الصناديق السيادية كصندوق أبو ظبي فيصعب تقييم قيمته الحقيقية. فهو عبارة عن استثمارات في سندات شركات وفي أسهم وفي المشتقات وفي العقارات وفي صناديق التحوط وغيرها من الاستثمارات البديلة. #2# لذا فتسييل موجودات الصندوق السيادي بكميات كبيرة أمر صعب وذو تكلفة عالية لأن قيم الأصول التي ستباع في وقت قصير ستنخفض مع كثرة البيع وتصاحبها انتهازية المستثمرين في الأسواق المالية لاستغلال هذا الوضع القائم، أضف إلى ذلك قيمة الفرصة الضائعة لأن الوقت الحالي ومع ظهور انفراجات الأزمة المالية العالمية هو وقت الشراء والاستثمار لا وقت البيع. لذا فلو افترضنا أن أبو ظبي ستقوم بشراء أصول دبي لسداد ديونها فإن هذا الشراء سيكون عالي التكلفة ومرهقا لصندوق أبو ظبي السيادي الذي تبني فيه الإمارة وتستثمر منذ السبعينيات بعيدا عن البترول وعن المنطقة ليكون عونا للأجيال القادمة من مواطني أبو ظبي - إذن فهو قرار استراتيجي خطير وصعب على أصحاب القرار في أبو ظبي وليس كما يتصور سهولته بعض المحللين في الإعلام-. وعلى افتراضية أن قيمة الصندوق السيادي لأبو ظبي تساوي 400 مليار - وإن كنت غير متأكد في كون هذا الرقم حقيقيا من ناحية إمكانية الاستغلال- فقد تحتاج أبو ظبي إلى التضحية تقريبا بـ 20 في المائة من صندوقها السيادي مقابل أمر هو ليس بتلك الضرورة الملحة. فديون دبي الأجنبية يمكن أن تُحل بإعلان الإفلاس لإعادة جدولتها وبتكلفة أقل فاضطرار دبي إلى بيع أصولها لحل أزمتها سيكون ذلك على حساب قيم هذه الأصول بأسعارها الحالية ومعرفة المستثمرين بحاجة دبي إلى بيع هذه الأصول الآن. وبيع المضطر ليس كبيع غيره. وفي إعادة جدولة الديون مساحات للمفاوضة، إما بتمديد الآجال أو بتخفيض الفوائد أو كليهما، وهذا معروف في المجتمع المالي الدولي. فكثير من الدول والمنظمات الاقتصادية التي تحملت ديونا أجنبية وعجزت عن سدادها تدخل البنك الدولي بحلها بإحدى هاتين الطريقتين. وهذا الأسلوب فيه منفعة للطرفين، حصول الدائنين على معظم مستحقاتهم خير لهم من عدم حصولهم عليها مطلقا، وهذه مخاطر الاستثمار الأجنبي، فالدول لها استقلالية كاملة على أراضيها. ومن ناحية المدين سواء كان دولة أو منظمة أجنبية تستطيع استعادة مكانتها الائتمانية، وهذا حل وسط لجأ إليه المجتمع الدولي الحديث في النزاع المالي بين الدول. وهذا يكون على طريقتين: إما بوجود جهة ضامنة أو من غير وجود هذه الجهة، فإما إعادة ضمان الديون بضمان دولة أخرى تتعهد بكفالة الدولة المدينة، وإذا التزمت الدولة المدينة بسداد مستحقاتها لزمن معقول قد يرفع عنها ضمان الدولة الضامنة. وإذا كان هذا هو الحل المقترح لأزمة دبي فغالبا ستقوم أبو ظبي بدور الجهة الضامنة لإعادة جدولة ديون دبي. ولكن الأمر المُلح والذي لن تقف أبو ظبي مكتوفة الأيدي دونه هو حماية النظام البنكي للإمارات من الانهيار، وكذلك الدفاع عن قيمة الدرهم الإماراتي. (ولو كانت هناك وحدة نقدية و الإمارات منضمة إليها لكان على باقي دول الخليج التدخل لحماية العملة الخليجية). لذا فإنني أعتقد أن دور أبو ظبي في أزمة دبي المالية لن يكون خاصا بإنقاذ دبي مباشرة عن طريق سداد ديونها الأجنبية والمحلية ولكن بتحالفها مع البنك المركزي الإماراتي لإنقاذ البنوك المحلية الإماراتية، حيث يقدر أن 30 في المائة من ديون البنوك المحلية الإماراتية على الغير هي على إمارة دبي. ومن المعلوم أن أي بنك في العالم سيعلن انهياره حتما إن تعثر 30 في المائة من الدائنين عن السداد. لذا فإني أتوقع أن يقتصر دور أبو ظبي على مساعدة دبي في الالتزام بدفع ديونها المستحقة للبنوك الإماراتية فقط مقابل حصول أبو ظبي على أصول وعقارات من دبي. كما أتوقع أن تقوم أبو ظبي بواجبها الوطني العام بمساندة البنك المركزي في الدفاع عن قيمة الدرهم الإماراتي في مواجهة الحملات الشرسة المتوقعة ضد الدرهم الإماراتي من قبل المضاربين بعد إجازة العيد ومع مضي دبي قدما في إعلان إفلاسها إلى أن تتضح الصورة كاملة أمام الأسواق المالية العالمية ويخسر المضاربون رهانهم على الدرهم. إن أزمة دبي الحالية هي أشبه ما تكون بأزمة أمريكا الائتمانية التي سببت الأزمة المالية العالمية عام 2008 ولكن على مقياس أصغر مع بعض الاختلافات الجوهرية. فأمريكا قد منعت وقاومت انكماشا اقتصاديا لمدة ستة أعوام كان من المفترض حدوثه منذ عام 2001 لأسباب سياسية واقتصادية معروفة من أهمها إزالة آثار هجوم الحادي عشر من سبتمبر. فقد استخدم المسئولون الاقتصاديون هناك وعلى رأسهم رئيس الاحتياطي الفدرالي السابق (جرينسبان) السياسة النقدية مدعومة بالثقة في النظام المالي الأمريكي ومتانته لخلق فقاعة مالية مصحوبة بالتغاضي عن التجاوزات الائتمانية مما أدى إلى ارتفاع أسعار المنازل التي استخدمت أصول رهونها كأساس لكثير من الضمانات من أجل الحصول على التمويلات والتسهيلات المحلية والعالمية والتي حركت الاستهلاك المحلي وبالتالي نشطت الإنتاج المحلي بتنشيط الاستهلاك المحلي الذي دعمته هندسة تخفيض سعر الدولار الذي خفض سعر المنتجات الأمريكية. ولكن هذه السياسة النقدية المتوسعة مع انخفاض قيمة الدولار زادت السيولة وأرخصت سعر الأصول الأمريكية فخلقت فقاعة لا مناص عنها في سوق الأسهم والسلع والمشتقات. فكانت أصول رهون هذه المنازل تستخدم للتمويل ولإعادة التمويل فلما انفجرت فقاعة المنازل في عام 2007 قاوم الفيدرالي الأمريكي تبعات تلاشي قيمة أصول رهون المنازل التي استخدمت كرهون في تمويلات أخرى ومشتقات حتى استسلم في عام 2008 بعد أن استنزف مدخرات العالم وجره معه في أزمته وسمح بسقوط ليمان براذر لتصحيح الوضع المالي ولشطب الديون أو إعادة جدولتها. وكذا الحال مشابه في دبي مع فروق بسيطة، فدبي لا تملك سياسة نقدية مستقلة لكي تستخدمها ولكنها قد استخدمت إدارة استثمارية جريئة وخارجة عن المألوف فحصدت ثمرة الابتكار. واعتمدت دبي على الثقة باقتصاد الإمارات المعتمد على النفط وعلى سمعة صناديق الإمارات السيادية الضخمة وجذبت انتباه المستثمرين بكونها اقتصاد منفتح ناشئا ذا مردود عال في قلب منطقة غنية بالنفط ولكنها فقيرة في الاستثمارات. فجلبت الاستثمارات المحلية والخليجية والعالمية لدبي لتكون منطلق الاستثمارات في دول الشرق الأوسط وآسيا، وبنت من خلال ذلك (عروس الخليج) مقابل رهن العروس في سندات وصكوك. هذه السندات والصكوك استخدمها ملاكها كرهون عند البنوك للحصول على تمويلات وتسهيلات هلك الكثير منها في الأزمة المالية العالمية وبعضها استخدم في تمويل مشاريع أخرى في دبي. وقد نجحت دبي في تأخير أزمتها المالية - كما فعلت أمريكا من قبل! وسأوضح وضع الأزمة المالية لدبي بمثال وسنجده مشابها لأزمة أمريكا. فمثلا قد يكون هناك مستثمر فرد (زيد) (مؤسسة استثمارية) قد استثمر (هو أو هي) في سندات قرية النخيل، ثم استخدم هذه السندات كضمانات للحصول على تمويل من بنك محلي أو أجنبي أو خليجي. هذا التمويل يمكن أنه هلك في الأزمة المالية العالمية أو أنه استثمر مرة أخرى في تمويلات لمشاريع في دبي أو أنه موجود الآن وعامل في سوق الأسهم في أي بلد. وكذلك البنك الذي مول (زيدا) من الممكن أنه باع هذا الدين على مؤسسة استثمارية أخرى التي استخدمته كرهن في تمويل حصلت عليه من بنك آخر. إذن فنحن أمام حالة مشابهة لأزمة الائتمان التي حدثت في أمريكا بسبب انفجار فقاعة المنازل. والفرق هنا أن الذي انفجر هو عدم استطاعة دبي سداد مستحقاتها في مشاريعها التي حتى ولو باعتها فستكون بأسعار رخيصة لا تغطي الدين وتكلفته وقد لا تجد من يشتري أصلا فكان حال تعثرها كحال تعثر مُلاك المنازل في أمريكا. تعثر دبي في سداد مستحقات سنداتها يعني أن زيدا لن يستطيع أن يسدد البنك الذي ارتهن سنداته مقابل التمويل الذي حصل عليه زيد. فإن كان البنك قد باع هذا التمويل على مؤسسة أخرى فمعنى هذا أنها لن تحصل على المبالغ اللازمة لسداد دينها التي حصلت عليه مقابل ارتهان أصول دين زيد وهكذا تبدأ كرة الثلج. أمريكا ليست مثل دبي. فبجانب أنها تملك اقتصادا عميقا ومتكاملا ومتطورا له تاريخ اقتصادي طويل فإن أمريكا تستطيع إصدار السندات الحكومية بأسعار فائدة منخفضة ويتنافس العالم على شرائها و تستطيع كذلك طبع الدولار -الذي هو عملة الاحتياط الدولية- من أجل إنقاذ اقتصادها وأما دبي فلا، فلن يشتري أحد سندات دبي إلا بفوائد مرتفعة وبكمية محدودة ولا تستطيع كذلك طبع الدولار ولا الدرهم. فلم يبق أمامها إلا الإفلاس. إفلاس دبي في ضرره على دبي شبيه نوعا ما بالضرر الحاصل على أمريكا بتزعزع الثقة بالدولار وبالمصداقية الأمريكية، كلاهما يزول مع الزمن ومع عودة النشاط الاقتصادي إلى طبيعته وإن كان من المتوقع أن يطول زمنه في دبي عن أمريكا وأن يُحدث فرقا في طموحات دبي التوسعية في النمو الاقتصادي. أمريكا ودبي كلاهما حقق أهدافا استراتيجية على حساب خسارة لا تُذكر أمام الأرباح المتحصلة. فأما أمريكا فقد تجاوزت محنتها الاقتصادية الاستراتيجية عام 2001 وهي تتجاوز الآن الأزمة. وأما دبي فقد حققت فوزا أكبر وأعظم. فقد بنت دبي أسطورة الخليج الاقتصادية من لا شيء ومن غير موارد. ودبي لن تزول بسبب الديون (وأنا هنا أتحدث عن الجانب الاقتصادي فقط). فلن يغزو الدائنون دبي كالعصور المتخلفة ويستولوا على المشاريع وإنما عليهم التفهم وإعادة جدولة الديون على مدى زمني أطول، وإن لم يعجبهم ذلك فليشربوا من ماء الخليج فهذه مخاطر الاستثمار في بلاد أجنبية. إذن فالنتيجة المحصلة لدبي هي أنها خرجت من استراتيجيتها رابحة - وأنا أتكلم عن الناحية الاقتصادية- وليس هناك ربح بلا ألم. الألم منحصر أولا في قصور آمال طموحات دبي عما كانت تصبو إليه. فقد كانت تريد الوصول إلى السماء فلم تدرك إلا النجوم والنجوم خير من قيعان الأرض. ومن تبعات إفلاس دبي على دبي عدم إكمال كثير من المشاريع العملاقة أو تعطلها لفترة طويلة. ومنها كذلك زوال حلمها الطموح بأن تكون عاصمة المال في دول الخليج وذلك لتزعزع الثقة بها. ومن الآثار المتوقعة ارتفاع قيمة التأمينات على الديون في دبي وكذلك ارتفاع تكلفة التمويل. ومن المتوقع نكسة قوية لسوق الأسهم فيها، ولكنها في نهاية الأمر هي الرابح الأكبر، فمن هو إذن الخاسر الأكبر من إفلاس دبي. المتضرر الأكبر هم ملاك السندات والصكوك وما تولد عنهما من تمويلات وهذا يعني تضرر بنوك الإمارات والخليج وأوربا وخاصة بريطانيا ومن ثم بقية العالم بنسبة أقل. ويشرح ذلك تصريحات رئيس الوزراء البريطاني الذي تتحمل بنوك بلاده ما يقارب 50 مليار دولار على دبي والله أعلم كم تولدت على هذه السندات والصكوك من ديون أخرى. ويشرح ذلك أيضا تصريحات بنك HSBC الواعدة بمساعدة دبي لتورطه بثلاثة عشر مليار دولار على دبي ولا أحد يعلم كم تولد من هذا الدين من الديون. وهذا يقودنا إلى الإجابة عن سؤال: هل أزمة دبي المالية ستقود العالم إلى نكسة في الانتعاشة الحالية للاقتصاد العالمي؟ أعتقد أن أزمة دبي المالية سينحصر تأثيرها في الخليج لتعيده إلى الأزمة المالية العالمية. فالخليج لم يتأثر بشكل قوي ومباشر بالأزمة المالية العالمية وكانت المخاوف وفقدان الثقة أعظم من التأثير المباشر. معظم هذه المخاوف كانت ناتجة عن تعثر مستثمرين خليجيين متمولين من البنوك الخليجية وهلكت استثماراتهم في الأزمة المالية العالمية. والوضع نفسه سيتكرر مع أزمة دبي. فالمستثمرون الخليجيون لهم استثمارات لا يستهان بها في دبي وسترجع بسبب أزمة دبي أزمة الثقة التي خلقتها الأزمة المالية العالمية. وكذلك سوق الأسهم ستتنكس انتكاسة شديدة إن لم تتدخل صناديق الدولة الاستثمارية لحفظ توازن السوق. وأما الدول الأخرى فباستثناء بريطانيا فإن استثماراتها في دبي وما يتعلق بها لا تشكل نسبة كبيرة في عموم استثماراتها فتأثرها سيكون نوعا ما هامشيا. ولا أعتقد أن الاقتصاد الأمريكي أو الصيني أو الياباني سيهتز بسبب أزمة دبي فهذه الاقتصاديات العظيمة تؤثر في العالم ولا تتأثر بتأثر الاقتصاديات الصغيرة. فالأزمة المالية العالمية كانت تحمل في طياتها تعثر التريليونات من الدولارات وليس المليارات. ولذا فإنه من المتوقع ظهور أخبار ليست جيدة في دول الخليج عامة وفي السعودية عندنا كذلك. وذلك من ناحيتين. الأولى أنه لن تخلو صناديقنا الاستثمارية وبنوكنا من ديون على دبي ولن تخلو أيضا من تمويلات قُدمت بضمانات على سندات وصكوك دبي. فزيد الذي تمول من البنك السعودي مليار ريال بضمانات صكوك دبي لاستثماره في استثمارات أخرى لن يتمكن من السداد لانقطاع العوائد من صكوك دبي فإن قام البنك السعودي ببيع هذه الضمانات لاستحصال مستحقاته فلن ينال قيمتها بسبب انخفاض قيمها. وقد تتسابق البنوك العالمية ببيع هده الضمانات (الصكوك والسندات) ما يسبب انخفاضا عظيما لقيمها. وأما نمو القطاع الخاص في السعودية فسيتضرر بسبب تحفظ البنوك عن التمويلات الجديدة والتمويلات الموعودة احتياطا لما قد تواجهه بسبب ما شرحته آنفا فنعود مرة أخرى إلى المربع الأول للأزمة المالية العالمية إلا أن تتدخل مؤسسة النقد عندنا بسياسة دعم قوية وحازمة ومشروطة للبنوك وتظهر قدرا كبيرا من الشفافية. أيضاً قد يتأثر البعض عندنا ممن استثمر بودائع في الإمارات تسمى «ودائع إسلامية». فهذه ستكون مرتبطة بالعقار في دبي وستخسر من قيمها دون أن يتدخل البنك المودع فيه لأنه ليس ضامنا لها، على عكس الودائع التقليدية في البنوك الإماراتية التي هي مضمونة طالما أن البنك لم ينهار وهذا ما لن تسمح به أبو ظبي. وأما السيناريو البعيد الاحتمال فهو أن تعجز أبو ظبي - لا سمح الله- عن إنقاذ نظامها البنكي فتُجبر على كسر الربط وتخفيض قيمة الدرهم وهذا موضوع آخر لا مكان له في هذه العجالة ولكنه قد يؤكد احتماليات سبب من أسباب انسحاب الإمارات من الوحدة النقدية التي تحدثت فيها قبل ستة أشهر لقناة تلفزيونية. خاتمة الكلام أن دبي نجحت في جعل أرضها أسطورة الخليج كما نجحت أمريكا في تجاوز أزمة 2001 وكلاهما قد خرجا من التفكير التقليدي القديم للاقتصاد وفهما لعبة المال الدولية الحديثة وأدركا ديناميكية الاقتصاد الحديث فاستخدماه بذكاء وحنكة لمصلحة شعبيهما ووطنيهما بصرف النظر عن المختلف معهما في الرأي الذين لم تنلهم حصة من الربح بل الخسارة. لن يضر دبي إعلان إفلاسها فهي وإن كانت قد قصرت أن تجعل من دبي معجزة فهي قد بنت بهذا الإفلاس أسطورة لم تكن لتتحقق إلا بهذا. هذه تأملات سريعة كتبتها في سويعات على عجالة من أمري لاستدراك الخبر وقد تجاوزت فيها أمورا عن عمد أو نسيان أو جهل. والأيام المقبلة بالتأكيد ستكشف عن موقف أبو ظبي كممثلة دولية عن اتحاد الإمارات، وأما دبي قد تكشف عن بقية خططها وقد تعمل على تأخيرها، فقد ظهر أن دبي ليست على مستوى عال من الشفافية لعذر منطقي اقتصادي، فالشفافية في حقها لم تكن في صالح الإمارة. وهذا يقودنا إلى سؤال هو: هل الشفافية في وضع مثل هذا في بلادنا من المصلحة العامة للبلاد أم لا؟ هذا موضوع فيه خلاف ليس هذا مكانه. دكتوراه في الاقتصاد المالي الدولي أستاذ الاقتصاد في جامعة الأمير سلطان
إنشرها