Author

من لقضايا الأمة المصيرية؟!

|
لم تمر أيام على مشاهدتي لمقطع على اليوتيوب ظهر فيه - كما يزعم العنوان - عملية حرق لمجموعة من السحرة وهم أحياء في دولة إفريقية، حتى استوقفني لقاء أجرته قناة ''العربية'' مع فضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان. ذهب جل وقت البرنامج والشيخ - حفظه الله - يدافع هو وأحد طلابه عن رأيه في جواز الذهاب للسحرة واستخدام السحر من أجل فك السحر وعلاج المسحور. والشيخ العبيكان مأجور في فتواه مرتين إن أصاب، ومرة إن أخطأ، وهذه القاعدة مطردة في جميع اجتهادات العلماء سواء العقائدية منها أو الفقهية، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقليل من يعرف قول ابن تيمية هذا. والشيخ العبيكان ليس بدعا من العلماء وحده ممن يدين الله في مسألة لا تجد قبولا عند الأمة. بل أكاد أجزم بأن معظم العلماء لهم آراء واختيارات لو صرحوا بها لتحامل عليهم الناس. وكتم العلماء إياها في صدورهم ليس خوفا من الناس، وإنما تعبدا لله. فهم يدينون الله بأن ذلك مما لا فائدة في إظهاره، وأن ضرره على العامة أكبر من نفعه، وأن ما وصلوا إليه في اختيارهم الفقهي هو من مواضع الاختلاف فلا يلزمهم إظهار رأيهم إن كان في إظهاره مفسدة ظاهرة. وموقف الشيخ العبيكان في هذه المسألة موقف عالم جريء يصرح بما يدين الله به ولا يخاف لومة لائم، ولكنه في اعتقادي أنه موقف في غير محله. فالسحرة قد نص الشارع الحكيم على كفرهم ''إنما نحن فتنة فلا تكفر'' ونص على إبادتهم بقتلهم قضاء من قبل ولي الأمر ''حد الساحر ضربة بالسيف''. وأما استدلال الشيخ العبيكان بجبريل عليه السلام فهو قياس مع الفارق ومنطق غير منضبط. فليس إخبار أمين الوحي وروح القدس وسيد الملائكة جبريل عليه السلام للرسول الكريم عن موقع السحر - من غير طلب منه - كالذهاب للسحرة الكفرة والمشعوذين الأنجاس! وليس المقام هنا مقام مناقشة هذا الرأي من الناحية الشرعية، بل المقام مقام التأسف والتحسر على ضياع جهد العلماء العاملين واستنزاف هيبتهم إما في مسائل هامشية أو في مسائل تضر الأمة ولا تنفعها لا في دينها ولا دنياها. إن مسألة تحمل العالم الأذى في إظهار رأيه في مسألة خالف فيها المشهور -والمشهور لا يعني أنه الراجح - هو نابع من تصور العالم لأهمية هذه المسألة. ولعل الشيخ العبيكان - حفظه الله - من خلال ممارسته للقضاء والفتوى قد رأى من المآسي والآلام عند الناس ما بنى عنده من القناعة بأن قضية السحر من المسائل العظام التي اُبتلي بها الناس، وأن علاجها في الذهاب إلى السحرة، فصرح بما يدين الله به في هذه المسألة. وقد عشت حينا من الزمن - بحكم عملي السابق - في بيئة اجتماعية - يغلب عليها الجهل - لا يكاد بيت يخلو فيها إلا وفيه من يزعم بأن فيه مسا من جان أو سحر أو عين - وغالبهم من النساء -. وقد انتشرت فيهم صناعة الشعوذة ومن امتهنوا مهنة الرقية. فلم يزدني ذلك إلا إيمانا جازما بأنهم في حاجة إلى توعية وإلى أطباء نفسيين وإلى قطع كل أسباب التعلق بالأوهام والخرافات وإلى من يفتيهم بأن السحر لا وجود له إلا في حالات نادرة يستحيل أو يصعب حدوثها وتكرارها وذلك لقطع الوساوس والتخيلات. ومما قاله ابن القيم في الأسباب النافعة في هذه المسألة ''وخامسها وأنجعها عدم التفكير فيها مطلقا'' أو نحوا من ذلك على ما أذكر، وهذا في حقيقته يحكي صميم التوكل على الله. وبما أن السحر ثابت في القرآن والسنة فإن الفتوى بقصره على ما ورد سدا للذريعة دون إنكاره إيمانا وتصديقا، قد يكون أنفع للأمة وأجدى لها من إجازة الذهاب للسحرة والمشعوذين وإقرارهم عليه. وبغض النظر عن صحة هذا الرأي أو عدمه فإن رأي الشيخ - حفظه الله - لا فائدة عملية منه. وما ذاك إلا لأنه رأي نظري لا يمكن تطبيقه لأن تحقيقه ممتنع. فالشارع الحكيم يأمرنا بإبلاغ ولي الأمر عن السحرة والمشعوذين لإقامة حكم الله فيهم لدرء شرهم ومفسدتهم فينتفي بذلك وجودهم. هناك قضايا مصيرية جوهرية للأمة تعاني بسببها الكثير ولا تزال معلقة في انتظار العالم المجدد الذي جمع الله له بين العلم وبين الفطنة والذكاء والحكمة مع حيادية في التفكير واستقلالية في الفهم، مصحوبة بجرأة في إظهار الرأي ومشروط ذلك كله بإدراك حقيقة المسألة وخلفياتها وتوابعها. والشرط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، فكم من عالم غير مدرك لمسألة حديثة وهو يفتي الناس بناء على تصوره، وكم من عالم مدرك لحقيقة مسألة حديثة لا يظهر علمه بها. وإدراك الشيء ليس كالعلم المجرد به أو معرفته. وفي عصرنا الآن وفي قضايا الأمة الحالية المعقدة والمتشابكة ربما لا تصح المقولة المشهورة ''الحكم على الشيء فرع من تصوره'' بل يجب أن تُعدل إلى ''أن الحكم على الشيء فرع من إدراك حقيقته''. فالعلم بالشيء ومعرفته قد تؤدي إلى التصور، ولكن الإدراك لا يحصل إلا بأن يعيش الإنسان التجربة بنفسه وتطحنه ويطحنها. وشاهد ذلك قوله عليه السلام رحم الله موسى ''ليس الخبر كالمعاينة''، وذلك في موقف موسى عليه السلام عندما أخبره الله جل شأنه بأن قومه قد عبدوا العجل فرجع إلى قومه غضبان أسفا، فلما رآهم ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه. ووجه الشاهد هنا أن إخبار الله جل شأنه لموسى بالخبر هو أوثق وآكد من رؤية موسى لقومه بأم عينه يعبدون العجل. ولكن الإخبار قد حقق لموسى عليه السلام المعرفة والعلم بعظم المصيبة، وأما الإدراك بهول الكارثة فقد تحقق برؤية قومه يعبدون العجل وبخوضه - عليه السلام - معترك المصيبة. إذن فالإدراك لا يتحقق بالإخبار والمعرفة فقط. وهذا هو جوهر معاناة الأمة اليوم مع بعض علمائها. فإدراك المسائل في العصر الحالي أعقد كثيرا من العلم بها ومعرفتها فقط. ومن أعظم قضايا الأمة الجوهرية التي عانت بسببها الكثير وخسرت من أجلها الكثير وما زالت تنزف دما ومالا وعقيدة وتدينا وإيمانا وعلما هو قضية تعاملها مع الاقتصاد الحديث والمعاملات المالية المتعلقة به والذي يصعب إدراك حقيقتها على كثير من المتخصصين فيها فكيف على من لا يقدر على تصورها أصلا. يا ليت فضيلة الشيخ العبيكان وهو يدافع عن مسألة الذهاب إلى السحرة – في قناة عربية مرئية - أدرك أن الأمة ليست في حاجة إلى من يدفع بها إلى أحضان السحرة والمشعوذين - ففيها ما يكفيها -. ولا إلى من يصادق على الوساوس والأوهام في رؤوس مرضاها ومجانينها. بل هي في حاجة إلى من ينتشلها من أكوام ركام الخرافات والأساطير من سحر وعين وشرك وروى منامية وأكاذيب عن الغرب وانتصارات إسلامية ملفقة. يا ليت الشيخ العبيكان - وقد رزقه الله هذه الجرأة - يصرف جهده وعلمه وجرأته إلى قضايا الأمة المصيرية ومن أهمها قضية اقتصادها. فالأمة الآن تعيش في فترة حرجة تمر فيها بمنعطف خطير في قضية اقتصادها. فإما الرجوع إلى شرع الله وإما الضياع لعقود قادمة في متاهات التناقضات التي تجمع بين الحرج والضيق من جهة وبين الحيل والتحليل من جهة أخرى. فبعد أن تأسست الفتوى على معطيات وتصورات قديمة أوقعت الأمة في حرج وضيق لعقود من الزمن، عادت الأمة فتناقضت وسلكت درب أصحاب السبت تهدم الدين وأصوله بالحيل وتدغدغ أحلام المسلمين بالأساطير والأكاذيب وتخرب دنياهم ودينهم وتجعل أموالهم نهبة للشرق والغرب باستغلال عواطف الناس الدينية واعتمادا على جهل الناس بشرع ربهم. جرأة العلماء الربانيين في الحق والصدح بما يدينون الله به في قضايا الأمة العظام وتحمل الأذى دونه هو من أهم الأسباب التي ينالون فيها درجة الإمامة في الدين، وهذا ما يسبب حسد الناس والأنداد لهم وليس في إجازة الذهاب للسحرة كما أشار الشيخ العبيكان في شكواه - خلال المقابلة - من حسد الناس. فما - حفظ الله - دينه في قضايا الأمة المصيرية إلا بأمثال ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز وابن عثيمين، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. الأمة في حاجة إلى علماء بجرأة الشيخ العبيكان في التصريح بما يدين الله به ولكن على أن ترقى همومهم إلى قضايا الأمة العظام التي في الدفاع عنها وفي إظهارها إظهار لدين الله وحفظ له من التغيير والتبديل وتفريج عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأغلال والأوزار التي فرضوها على أنفسهم ما كتبها الله عليهم، ولا أنزل بها من سلطان. إن مما يولد الحسرة في النفس بأن يستنزف العالم نفسه في قضايا هامشية لا تقدم الأمة بل قد تؤخرها. فيا ويح أمتي تشكو من علمائها ثلاثة: عالم جريء استنفد علمه وهيبته في أمور هامشية، وعالم جهبذ لم يتعد علمه صدره - في القضايا المصيرية الخلافية - بحجة عدم مخالفة الفتوى، وعالم فطن ذكي أفنى عمره في التنظير الفلسفي العام. وكذا حقت كلمة الله، فالإمامة في الدين منزلة شريفة عظيمة يمن الله بها على من يشاء من عباده فهو أعلم بهم سبحانه جل شأنه.
إنشرها