ورشة عمل اكتساب السلوكيات الرفيعة

الحج يدربنا على أن نكون مسالمين.. ففي الحج تربية سلمية مثالية على الكيفية التي ينبغي أن يعيش الإنسان بها حياته في أمن وأمان، وسلم وسلام مع مَن حوله من الكائنات. موسم الحج يعد أنموذجا لحياة السلام التي يجب أن تعيشها البشرية مهما كثُرت أعدادها وتباينت اتجاهاتها، فانظر إلى تحريم حمل السلاح في الحج، حيث جُعل البيت مثابة للناس وأمنا، وحرِّم صيد البر كله على المُحرم.. حتى حصى الرمي لزم أن يكون صغيرا في حجمه يُرمى بأصابع اليد دون شحذٍ وقوة ومبالغة، حتى في الأقوال حرِّم الجدال مخافة أن يستفحل الأمر ويجر إلى الأذى والخصومة والشجار. كل هذه الأمور تعين المرء أن يكون مسالما هادئا حليما حكيما، وهذه الأمور مهمة جدا خاصة لأولئك الناس الذين لم يسلم أحد من صعوبة معايشتهم حتى أولادهم.. يثور ويغضب ويضرب ويؤذي، فإذا جاء الحج تغير تماما.. وشعر بروعة الحياة في سكينة ومسالمة لكل إنسان آخر. وأذكر أني رأيت من الحجاج من يأتي غاضبا أول يوم بسبب الحرّ والزحام والمواصلات، ثم يعتذر ويهدأ ويكون أفضل الحجاج.
أول ما يعلمنا الحج قوله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) البقرة 197. وجاء الحديث النبوي ليؤكد أن هذه السلوكيات هي طريق المغفرة: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). الحج يدربنا على قطع كل دواعي الشهوة، ويعلمنا العفة وغضّ البصر، ويدربنا على قطع كل أبواب الفسوق مثل الغيبة والنميمة والكذب وسوء الظن وغير ذلك، ويدربنا على ترك الجدال والمخاصمة التي تؤدي إلى الغضب في غير فائدة شرعية، وبعد أن يدربك الحج على التخلية من كل هذه الآفات، فهو يفتح لك طريق التحلي وتزكية نفسك (وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله) “البقرة 197”، يطلب منك التوقف عن كل خطأ، ويطلب منك العمل في كل شيء طيب.
الحج يعلمنا إلزام النفس بممارسة النظام والانضباط في الحياة والتعود على ذلك، ففي الحج قيود وحدود والتزام وهيئات، لا يجوز للحاج الإخلال بها، تعوّده حب النظام والمحافظة عليه، وتربّيه على الانضباط بامتثال الأمر وترك النهي والذهاب والانصراف والبداية والنهاية في أوقات محددة، فالوقوف بعرفة له وقت، والإفاضة منها كذلك، والمبيت بمزدلفة له وقت، والدفع منها كذلك، ورمي الجمار له وقت. إن السبب في عدم تحقيق كثير من الناس لأهدافهم وكثير من الموظفين لأعمالهم هو رفضهم للانضباط والالتزام، فليتهم يأخذون هذه المنفعة من الحج. الحج يعلمنا الرقابة الذاتية واستشعار المسؤولية وتحمل تبعة الخطأ عند أداء المناسك، فالمسلم يفرض على نفسه رقابة سلوكية صارمة، ويحاسب نفسه أشد الحساب على كل مخالفة تصدر منه، فإذا ما ارتكب محظورا من محظورات الإحرام، تحرك ضميره ودعاه إلى أن يكفّر عن هذا المحظور بإراقة دم أو صدقة أو صيام، وليس هناك سلطة خارجية وراء ذلك.
الحج يعلمنا أن كل خطوة محسوبة وعليها أجر، فنتدرب على أن كل خطوة نخطوها وسلوك وتصرف نأتي به يجب أن يكون قيمة مضافة في حياتنا وشيئا مفيدا وليس عبثا وضياعا للوقت.
الحج يربينا على التواضع، فلا يتميز أحد عن أحد، ولا ينقص مِن قدرك أن تلبس مثل آلاف الحجاج الآخرين، وأن تسير بينهم وتطوف وتسعى معهم وينطبق عليك ما ينطبق عليهم حين تزول الفوارق المادية من لغة ودم ومال، وقد كان من خطبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع: “يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى” خرّجه أحمد وهو صحيح.
حين تبدو النفوس صافية حانية متآلفة لا يقل صفاؤها عن صفاء ثياب الإحرام، نتعلم معاني ومظاهر المساواة الإنسانية، الكل عند الله تعالى سواء، وهذا الشعور يفتقده الكثير من الناس ذكورا وإناثا، حيث يشعر كل منهم أن له ميزة خاصة ومكانة أفضل من الآخرين، والواقع أنه لا يملك فعلا أي مميزات حقيقية في موازين الدنيا أو موازين الآخرة. الحج يدربنا على إنكار الذات والفردية، وأن نندمج مع إخواننا الحجيج في اللباس والأكل والهتاف والتنقل والعمل، فيبتعد عنا العجب والغرور.
الحج يعلمنا أهمية الصبر والتعامل بلين وهدوء ومعالجة المصاعب والمشكلات بالتروي والحلم، لا تخلو مواكب الحجاج من صعوبات وشدائد نفسية وبدنية وزحام ومشقة، لذا فهي تحتاج إلى الصبر والرفق واللين، وجميع أحوال وعبادات الحج تحتاج إلى صبر.. الصبر بأنواعه: صبر عن المعصية بترك محظورات الإحرام، صبر على الطاعة والتعب في سبيل امتثال أوامر الله بأداء النسك وإتمامه، صبر على أقدار الله التي تطرأ له كتحمّل النصب والإعياء والزحام والأذى من الناس أثناء تأدية النسك.
الحج يدربنا على خدمة الآخرين والتعاون معهم ويعودنا على البذل والسخاء. كان السلف يعلمون حق رفيق السفر، وكان كل واحد منهم يريد أن يخدم أخاه ويقوم بأعماله، لا يمنعه من ذلك نسبٌ ولا شرفٌ ولا مكانة عالية. كان ابن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم، وكان إذا أراد الحج من بلده “مرو” جمع أصحابه وقال “من يريد منكم الحج؟”، فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها في صندوق ويغلقه، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطيب الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من هدايا، ثم يرجع بهم إلى بلده، فإذا وصلوا صنع لهم طعاما، ثم جمعهم عليه، ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فردّ إلى كل واحد نفقته!
الحج يعلمنا أن الوقت أثمن ما نملك، فكل لحظة في الحج بالنسبة للحاج، وكل لحظة في أيام العشر لكل مسلم هي أثمن اللحظات، إما أن يستغلها ويجني الكثير من النتائج أو يتوقف وتقاعس، وهي درس تطبيقي لكل من يشعر بالملل لأنه لا يعرف ماذا يفعل. هذه أفضل الأزمان تمر عليك سريعة فإذا أتقنت استثماراها كانت لك فاتحة لتكون دائما ممن يحسنون إدارة وقتهم والانتفاع به.
الحج يعلمك معاني الأخوة الحقة، والروابط الحقيقية العميقة المؤثرة في حياتنا، وهذا عنوان المنفعة القادمة.

المزيد من مقالات الرأي