استبداد الطبقة المتوسطـة

ليس هناك أدنى خطأ في عنوان المقال، فأنا كأحد أفراد المجتمع المنتمي إلى الطبقة المتوسطة أقر وأعترف أني ''مستبد'' لدرجة تجعلني أشعر بمزيج من الألم والندم من ممارساتي اليومية الخاطئة مع البيئةEnvironment ، وما أسببه من تدهور وتلوث بيئي واستنزاف لمواردها الطبيعية.
ولنبدأ القصة من أولها:
منذ أكثر من نصف قرن مضى وتحديداً ما قبل فترة الحرب العالمية الثانية كان هناك تمييز واضح للدول على الخريطة الجيوسياسية بين دول أوروبية غنية، ودول أخرى فقيرة تقع تحت نير الاستعمار الأوروبي في قارات العالم الثالث، إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وكان من أبرز مخرجات هذه الحرب سلباً و/أو إيجاباً أن تم في أوروبا والولايات المتحدة إعادة للتركيبة الاجتماعية والديموغرافية وتنامي الطبقة المتوسطة بها على حساب الطبقة الغنية، وفي المقابل ظهرت الطبقة المتوسطة في باقي الدول المستعمرة كقوة مؤثرة ذات أغلبية كان لها دور فاعل في إذكاء روح الوطنية وعمليات التحرير والاستقلال.
ويشير الوضع الراهن إلى أن الطبقة المتوسطة تشكل ما بين نصف إلى ثلثي الإجمالي العام من السكان في غالبية دول العالم بغض النظر على مستوى دخلها العام سواء كان مرتفعاً أو متوسطاً أو ما دون ذلك، وهي تسهم بصورة واضحة في زيادة فاعلية التنمية الاقتصادية، وحفظ التوازن الاجتماعي، تحقيق الاستقرار السياسي إضافة إلى تأكيد الهوية الثقافية، وعلى الرغم من هذه الأدوار التنموية الفاعلة للطبقة المتوسطة إلا أن المتتبع لمسيرة هذه الفئة وسلوكها يمكن أن يرصد مجموعة من المظاهر الاستبدادية Tyranny phenomena التي تعد سبباً لتفاقم مشكلات الموارد والأزمات البيئية المؤثرة في التنمية تتطلب الضرورة التحليل والمراجعة، ومن أبرز هذه المظاهر الاستبدادية:
الظاهرة الأولى: زيادة الطلب على السلع الاستهلاكية – غير الزراعية نتيجة ارتفاع الدخول وزيادة القدرة الشرائية والرغبة في التميز، وأصبح من الطبيعي أن يضم سكن المنتمي للطبقة المتوسطة الثلاجة والمكيف والمكنسة وجميعها أجهزة كهربائية تستخدم في عمليات تبريد الغازات الكلوروفلوركربونية CIFCs دون أن يدري مستخدمها أنها من أخطر الغازات الدفيئة البشرية المنشأ والمسؤولة عن الاحتباس الحراري واستنفاد طبقة الأوزون وما يعانيه العالم حالياً من تغيرات مناخية في الكرة الأرضية.
وفي هذا السياق, يجدر التنويه بأن هذه الغازات (مستجدة) على النظام البيئي ولم تكن موجودة أساساً في الغلاف الجوي في فترة ما قبل الثلاثينيات من القرن الماضي . ويقدر تركيز هذه الغازات الدفيئة في الوضع الراهن بنحو 1.5 جزء في المليار مع معدل تزايد قد يصل إلى 0.2 في المائة سنوياً، إضافة إلى أن من خاصية الغازات الكلوروفلوركربونية القدرة على البقاء في الغلاف الجوي دون تحلل ولمدة قد تصل إلى 150 عاماً، وهنا مكمن الخطر.
الظاهرة الثانية: ازدياد أعداد مالكي المركبات بطريقة مطردة خلال العقود الأخيرة حيث تضاعفت من أقل من 200 مليون مركبة في الخمسينيات من القرن الماضي إلى نحو 620 مليون مركبة مع بداية القرن الحالي، وتحظى دول أمريكا الشمالية وأوروبا بالحصة الأكبر من هذه المركبات وبنسبة 36 في المائة، 32 في المائة مع التوالي تليها دول آسيا وبنسبة في حدود 20 في المائة وتتوزع الحصة الباقية على الدول الإفريقية والدول الواقعة في أمريكا الجنوبية وأوقيانيا. والملاحظ أن غالبية مالكي المركبات على المستوى العالمي أو القاري من الطبقة المتوسطة وساعد على ذلك مجموعة من العوامل تتمثل في التسهيلات المقدمة من شركات إنتاج السيارات من خلال عمليات الائتمان أو التقسيط، التوسع الحضري Urbanization في المدن حتى في الدول الزراعية، تباعد المسافات بين المسافات بين المناطق السكنية من جهة ومواقع العمل ومراكز التنمية من جهة أخرى، والتطور التقني السريع للمركبات بجميع أنواعها، إضافة إلى زيادة الدخول. وكما هو معلوم للجميع, فإن عوادم المركبات السيارة تحتوي على عديد من الملوثات الضارة بالبيئة تنتج من عمليات التفاعل الكيميائي الذي يحدث في غرفة احتراق الوقود في المحركات، وتسهم هذه الملوثات بصورة مباشرة في زيادة نسب تركيز الغازات الصوبية المعروفة في الغلاف الجوي وبحصص متباينة تراوح بين 10 و40 في المائة، وتعمل كسحابة لرفع الحرارة وتآكل طبقة الأوزون نذكر منها غاز ثاني أكسيد الكربون Co2 والذي يقدر نسبة تركيزه مع بداية القرن الحالي 370 جزء/ المليون مقارنة بـ (280) جزء من المليون منذُ نصف قرن مضى، وهو الغاز المسؤول (الأول) في تزايد ظاهرة الاحتباس الحراري، وغازات أكاسيد النتروين N2O والذي لا يزيد نسبة تركيزه عن 330 جزء/ المليار، ومع ذلك فهو من الغازات التي تتميز بالقدرة على البقاء في الجو لفترات طويلة قبل التحلل، إضافة إلى ما يتم انبعاثه من المحركات من ملوثات هيدروكربونية وبعض المواد الأخرى كالميثان والإيثلين وغيرها والتي تزيد المعاناة البيئية للأرض.
الظاهرة الثالثة: التعامل الخاطئ مع النفايات خاصة النفايات المنزلية وعدم إدراك خطورتها على البيئة خاصة إذا ما تم الأخذ في الحسبان أن حجم هذه النوعية من النفايات على المستوى العالمي يتجاوز ثلاثة مليارات طن سنوياً محسوبة على أساس 2/1 كيلوجرام للفرد يومياً، وأن الطبقة المتوسطة تسهم بنحو ثلثي هذه الكمية دون وضع الأساليب المناسبة للتخلص منها أو تدويرها للاستفادة منها كمنتج صناعي ذي قيمة اقتصادية.. ومن نافلة القول الإشارة إلى ما لهذه النفايات من آثار كارثية في البيئة ومواردها الطبيعية وصحة الإنسان في هذه البيئة بما تحمله من سميات وغازات متحللة يصعب التخلص منها كالميثان.
وفي الختام لا بد أن نشير إلى أن استبداد الطبقة المتوسطة في تعاملها مع البيئة لا إراديا ناتج من عدم وجود وعي كاف لديها عن مفهوم البيئة ودورها في التنمية المستدامة لمصلحة الأجيال الحالية والمقبلة أيضاً، ولكن حجر الزاوية في هذه المسألة يقع على عاتق الطبقة الغنية المسيطرة اقتصادياً التي تمتلك القدرات المؤسسية والوسائل المادية التي من خلالها تحفز الطبقات المتوسطة على تفعيل هذا الاستبداد بما تقدمه لها من إغراءات وتسهيلات؛ خاصة في ظل عجز الطبقات الفقيرة غير القادرة مادياً على امتلاك عناصر تدمير البيئة وتدهورها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي