ابن رشد .. القاضي والأستاذ والشارح

استهل ابن رشد كتابه «تهافت التهافت» بقوله بعد الحمد لله: وبعد «فإن الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت لأبي حامد في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان».
«مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت»: عبارة تستحق منا أن نتوقف عندها قليلا؛ فعبارة ابن رشد تتميز بكونها مركزة إلى حد «التوتر» لكونها تحتوي على «فائض من المعنى». إن المقصـود بـ «الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت»، ليس ردود الغزالي على ابن سينـا وحدها، بل أيضا أطروحات ابن سينا نفسها كما عرضها الغزالي، شارحا ومعترضا ومجيبا عن الاعتراض على لسان ابن سينا. إن ابن رشد لا ينتصر لابن سينا على الغزالي، بل يقف موقف القاضي الخبير النـزيه: يعطي الحق للغزالي إذا كان الحق معه، ويقف مع ابن سينا إذا كان الصواب في جهته. ويقف ضدهـما معا إذا كانا خارج الصواب. والصواب عنده في هذا المجال هو ما يسميه «البرهان», وهو أيضا «العلم». ومن هنا عبارته: «مراتب الأقاويل … في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان».
درس أرسطو أنواع الأقاويل، أو كما نقول اليوم: «أصناف الخطاب»، من زاوية درجة الصدق واليقين، فميز فيها بين خمسة أصناف رتبها كما يلي:
1) الأقاويل البرهانية (أو القياس البرهاني), وهي التي تفيد العلم اليقيني: «وهو العلم الذي لا يـمكن أصلا أن يكون خلافُه، ولا يمكن أن يرجع الإنسان عنه ولا أن يعتقد فيه أنه يمكن أن يرجع عنه»، مثل قولنا: «الكل أكبر من الجزء».
2) الأقاويل الجدلية, وهي التي يعتمد فيها المرء على المشهور من الآراء والأفكار، إما لنصرة وجهة النظر التي يدافع عنها وإبطال وجهة نظر خصمـه، وإما لتعزيز رأي أو دعوى وتقديمها في صورة المعرفة اليقينية دون أن تكون كذلك، و»عبارات المتكلمين» و»المحامين» من هذا الصنف.
3) الأقاويل السفسطائية، والهدف منها التغليط والتضليل وتقديم الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل.
4) الأقاويل الخَطبية (البلاغية) التي تستعمل من أجل إقناع الإنسان «في أي شيء كان، وأن يميل ذهنه إلى أن يسكن إلى ما يقال له ويصدق به تصديقا ما، إما أضعف وإما أقوى».
5) الأقاويل الشعرية, وهي التي تعتمد التخييل والتصوير بهدف حمل المخاطب على أن يرى في الشيء «إما جمالا أو قبحا أو جلالة أو هوانا أو غير ذلك مما يشاكل هذه».
وعندما يصف ابن رشد «الأقاويل المثبتة» في كتاب الغزالي بـ «قصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان»، فمعنى ذلك أن أكثرها من النوع الجدلي والخطابي والسفسطائي، أي أنها ليست تنتمي إلى «العلم»، وبالتالي فهي، بلغتنا المعاصرة: إيديولوجيا بمعنى «الرأي الذي يقول به الخصم» في مواجهة خصمه؛ هذا الصنف من الأقاويل ليس هدفه بنا المعرفة، بل إقناع المخاطب بوجهة نظر لا تنتمي إلى العلم، بل تنتمي إلى المذهب والتمذهب.
يقف ابن رشد إذن موقف القاضي الذي يزن أقوال الخصوم بميزان الحق الذي يتوفر لديه، وهو «العلم» كما كان في عصره، وبالذات علم أرسطو، أعني منظومته الفلسفية. واعتماد أرسطو هنا مرجعية في الحكم بين المتخاصمين مبرر من أوجه ثلاثة:
- فمن جهة، هو «مرجع الغزالي» نفسه باعتبار أنه يريد كما صرح هو نفسه في المقدمة الأولى من كتابه «تهافت الفلاسفة» : «إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول … وهو رسطاليس». وهنا يقف ابن رشد ليس موقف القاضي بين الغزالي وأرسطو فحسب، بل أيضا موقف الأستاذ المصحح لما ينسبه الغزالي لأرسطو، الشارح لمصطلحاته، والمفسر لمقاصده، والناقد لأقاويل الأشعرية وغيرهم من الفرق التي يستنجد بها الغزالي.
- ومن جهة أخرى كان أرسطو هو مرجع ابن سينا أيضا، وقد رأيناه يصرح بأنه يعرض في كتابه «الشفاء»، الذي يستهدفه الغزالي بالذات، «ما صح» عنده من العلوم التي أودعها أرسطو كتبه. وهنا يقف ابن رشد الموقف نفسه: موقف القاضي فيفصل بين ما هو لأرسطو حقا وما هو من وضع ابن سينا والفارابي؛ وموقف الأستاذ المصحح لما فهمه ابن سينا من نص أرسطو أو لما لا علاقة له به؛ والشارح للمسائل التي فيها شكوك وإشكالات.
- ومن جهة ثالثة كان أرسطو، زمن ابن رشد وإلى ما بعده بعدة قرون، يمثل قمة العلم والفلسفة. ولم يكن من الممكن لأوروبا النهضة أن تتجاوز أرسطو العالِم إلا مع جاليلو، ولا أرسطو الفيلسوف إلا مع ديكارت، أي إلا بعد أن استعادت أرسطو بواسطة ابن رشد. في أوروبا النهضة كان أرسطو هو المرجع في العلم والفلسفة، وكان ابن رشد هو المرجع في شرح أرسطو. وكما قيل: «أرسطو فـسَّـر الكون، وابن رشد فـسَّـر أرسطو».
من هنا صعوبة كتاب «تهافت التهافت». إن ابن رشد يتعامل فيه مـع أطراف متعددة: الغزالي وهو مساجل عتيد عنيد؛ ابن سينا وهو صاحب توظيف خاص للمشائية في مشروع مزدوج: فلسفة مشرقية ذات منزع إشراقي قومي فارسي، وفلسفة كلامية شيعية في مقابل علم الكلام الأشعري؛ ثم الموسوعة العلمية الفلسفية الأرسطية، وهي منظومة من المصطلحات والأفكار والتصورات المترابطة المتكاملة، يستقي كل جزء فيها معناه من الكل: فـإذا لم يفهم داخل الكل تعرَّض معناه للتحريف والتشويه! وبعد ذلك وقبله، هناك العقيدة الإسلامية التي باسمها يحاكم الغزالي الفلاسفة. والتي يعرفها ابن رشد معرفة العالم المختص.

كيف يتعامل ابن رشد مع هذه الأطراف؟

سنكتفي هنا بإبراز ما ينتمي إلى السياق الذي نتحرك فيه، أعني: غياب الهاجس الإيديولوجي لدى ابن رشد. لم يكن فيلسوف قرطبة ينتمي لفرقة من الفرق الكلامية، ولا كان يطمح إلى تأسيس مذهب. وبعبارة أخرى أوضـح: لم يكن يعمل بأية بصورة من الصور من أجل «استتباع العوام طلبا للرئاسة»، حسب تعبير الغزالي، وهو المعنى الذي نعطيه هنا لـ «الإيديولوجيا» فعلا، كان ابن رشد يعيش في بلاط الموحدين طبيبا ومستشارا علميا، ولكنه لم يكن خادما لهم تابعا، ولا كان متملقا، ولا راغبا في الوظائف والسلطة؛ فهو من هذه الناحية لم يتأثر بمذهب الدولة، بل بالعكس كان له تأثير واضح منذ شبابه في السياسة الثقافية للموحدين ما جعل «مذهبهم» مفتوحا لا هو بالأشعري الخالص ولا بالظاهري الخالص ولا بـ «السني» المتشدد.
كان ابن رشد إذن منقطعا للعلم، العلم الذي لا يبغي صاحبه من ورائه تحقيق أي شيء آخر، غير المعرفة التي تطمئن النفس فيها إلى غلبة الحق والصواب، مرجعيتها الوحيدة العقل وأحكامه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ابن رشد يفصل بكل وضوح بين الدين من جهة، والفلسفة (بما فيها العلم في ذلك الوقت) من جهة أخرى.
- الدين له أصول ومقاصد، والفلسفة كذلك لها أصول ومقاصد: أصول الدين موضوع إيمان، فلا يجوز للعقل الجدال فيها، لأنها تتعلق بموضوعات غيبية تقع خارج ميدان العقل، خارج البديهة والحس. أما مقاصده، فهي حمل الناس على الفضيلة بواسطة العمل وفق ما يقرره كشريعة. وما تعطيه الشريعة من معرفة حول ظواهر الكون، هو إما من أجل تنبيه العقل إلى إمكانية توظيف قواه في إنتاج معرفة استدلالية تزكي المعرفة الإيمانية التي تعطيها تلك الأصـول، وإما من أجل توجيهه نحو إعمال العقل في تطبيق الشريعة حسب الظروف، لتوجيه الإنسان في كل وقت نحو الخير والفضيلة وبالتالي السعادة.
- والفلسفة لها هي الأخرى أصول خاصة بها، يضعها العقل ويسلم بها أو يبرهن عليها، يستقيها من الحس والتجربة وبديهة العقل. هدفها بناء معرفة صحيحة بالكون بجميع ظواهره وأسبابه. وهي تعنى أيضا بسلوك الإنسان الفردي والجماعي، هدفها هي الأخرى توجيهه نحو الخير والفضيلة والسعادة.
- وبما أن الناس ليسوا كلهم على درجة واحدة على مستوى التعلم والدراسة - والمتعلمون في ذلك الوقت فئة قليلة - وبما أن المتعلمين هم، في كل وقت، مستويات ودرجات، فقد صنف ابن رشد الناس من حيث ما ينبغي أن تكون عليه علاقتهم بالدين والفلسفة إلى ثلاثة أصناف:
- الجمهور غير المتعلم، وهم الأغلبية و»فرضهم»، أي نصيبهم وما يجب لهم، هو ما يقرره ظاهر الدين من تصورات عن الكون في مجال المعرفة، ومـن أوامر ونواه في مجال العمل. والدين قد خاطب الناس بما يفهمون وضرب لهم الأمثال مما هو معهود عندهم ومشاهد، ذلك لأن أغلب معارفهم مقصورة على ما أدركوه بالحس وما خبروه في حياتهم اليومية. ومن هنا كانت طريقـة الشرع في مخاطبة الجمهور بيانية خطبية وأحيانا جدلية مع التنبيه إلى الطريقة البرهانية، وذلك، كما يقول ابن رشد، أيسر طريق وأحسن مسلك لحملهم على الاقتناع وحثهم على الفضيلة.
- وفي مقابل الجمهور هناك العلماء «الراسخون في العلم» - أو الخاصة - وهم، في المتن الرشدي، الفلاسفة العلماء على مذهب أرسطو، وفرضهم التقيد بالشرع على صعيد العمل كبقية الناس، ولكن إذا لاحظوا نوعا من عدم المطابقة بين ما يقرره ظاهر النصوص على صعيد المعرفة وبين ما تقرر لديهم بالبرهان (بالبحث النظري العلمي)، ففرضهم تأويل ظاهر النص الشرعي بما يجعله يتوافق مع ما تقرره المعرفة العلمية الفلسفية؛ ولكن دون المس بأصول الدين ومبادئه، فهذه لا تؤول: تماما مثلما أن الأصول والمبادئ في كل علم تؤخذ بدون برهان كمسلمات أو بديهيات، كما في الهندسة، أو يبرهن على بعضها في علم آخر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي