الهيمنة الأيديولوجية الإسماعيلية كانت وراء تجنيد الغزالي

أنهينا المقال السابق، الذي افتتحنا به المرحلة الرابعة من كفاح العقل العربي الإسلامي ضد خصوم الإسلام، بالتلميح إلى أن ما يفسر - في نظرنا - تخصيص الغزالي بلقب ''حجة الإسلام'' هو ''نضاله'' المستميت ضد ''الباطنية التعليمية''. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: لماذا ''الباطنية التعليمية'' أي الإسماعيلية بالذات؟
في هذا المقال جملة من عناصر الجواب:
من المفارقات التي تلفت النظر في تاريخ الحركة الإسماعيلية، والتي كان لها دون شك أثر بالغ في تطورها ومصيرها، أن هذه الحركة نجحت سياسيا حيث فشلت فكريا، بينما حققت نجاحا فكريا حيث توالى فشلها السياسي. لقد نجحت الحركة الإسماعيلية في تأسيس دولتها عام 296 هـ بإفريقية (= تونس) في مجتمع قبلي صحراوي وشبه صحراوي (= سجلماسة - القيروان) سبق للإسلام أن ''مسح الطاولة'' فيه مسحا، مجتمع تبنى الإسلام كما نشره ''السلف'' الفاتحون، أي كما كان يتحدد داخل المجال التداولي الأصلي للخطاب القرآني بمكة والمدينة. كان من الطبيعي إذن أن يتجنب الدعاة الإسماعيليون في نشاطهم الفكري الديني بإفريقية والمغرب التركيز على ''التأويل الباطني''، ويركزوا في المقابل على الجانب السياسي التنظيمي باستثمار سخط السكان على الولاة، والاعتماد على التحالفات القبلية. ويبدو أن الفكرة الشيعية الأساسية التي بنوا عليها دعوتهم هي فكرة ''المهدي'' مع ما يرتبط بها من توجيه الأتباع إلى التعلق بذرية النبي (ص). وإذا أضفنا إلى ذلك أن السلطة العباسية لم تكن مباشرة على هذه المنطقة، إذ قامت هناك دولة الأغالبة، وهي دولة صغيرة وضعيفة، عرفنا أن نجاح الدعاة الإسماعيليين سيكون نجاحا سياسيا بالدرجة الأولى، وأن الدولة الإسماعيلية التي ستجسم هذا النجاح لن تختلف في وضعيتها الاجتماعية والسياسية والقانونية عن وضعية الدول الأخرى التي شهدتها المنطقة، وبالتالي فإن الأيديولوجية الإسماعيلية، بوصفها أيديولوجية فلسفية متميزة ستكون غائبة تماما.
ذلك ما حدث بالفعل، ليس فقط في ''إفريقية'' مهد الدولة الإسماعيلية (العبيدية الفاطمية) بل إنه نفس ما حدث أيضا في مصر قاعدة حكمها ومركز حضارتها لمدة تزيد على قرنين من الزمن. إنها لم تستطع أن تحول انتصارها السياسي إلى انتصار أيديولوجي، لا في القيروان ولا في القاهرة. ذلك أنه رغم ''مدارس الدعوة'' التي أنشأها عبيد الله المهدي مؤسس الدولة في عاصمته ''المهدية'' بتونس، والتي انتقل بها حفيده المنصور إلى ''المنصورية'' بتونس كذلك، ورغم ''مدارس الحكمة'' التي أنشاها الخلفاء الفاطميون في مصر، وبكيفية خاصة في القاهرة قاعدة خلافتهم منذ الخليفة المعز لدين الله (=منذ سنة 362 هـ) إلى أن سقطت دولتهم على يد صلاح الدين الأيوبي (سنة 567 هـ) وعودة الخلافة العباسية إليها… رغم هذه المدارس التي كانت ترعاها الدولة وتحرص على جعلها مراكز إشعاع فكري وتكوين أيديولوجي، فإن الفلسفة الإسماعيلية في إفريقية ومصر لم تستطع أن تتجاوز حلقات كبار الدعاة، الذين كانت مناقشاتهم في العقيدة والمذهب على المستوى الفلسفي، تكاد لا تتعدى جدران مدارس الحكمة و''دار العلم'' المخصصة لهم داخل قصر الخلافة.
وهكذا ظلت الساحة الثقافية في مصر والمغرب العربي تحت النفوذ السني الضمني أو الصريح. وبمجرد سقوط الدولة الفاطمية زال كل أثر شيعي من الساحة المصرية، السياسية والفكرية. أما في بلدان المغرب العربي فلقد كان الولاء للدولة الفاطمية، بعد رحيلها إلى مصر سنة 362هـ، ولاء سياسيا لا غير، وفي معظم الأحوال كان ولاء اسميا فقط. ومعلوم أن الحضور الفاطمي في المغرب العربي قد انتهى، حتى في صورته الاسمية تلك، في العقود الأولى من القرن الخامس الهجري، أي قبل سقوط الدولة الفاطمية بما يقرب من قرن ونصف. كان ذلك في إفريقية ومصر حيث نجحت الحركة الإسماعيلية في تشييد دولتها.. وأخفقت في نشر فلسفتها وتعميم أيديولوجيتها. أما في المشرق، وبكيفية خاصة في الأقاليم الإيرانية فلقد كان الأمر على النقيض من ذلك تماما. لقد أخفقت الحركة الإسماعيلية هناك فعلا في تسلم السلطة السياسية، بل لقد هادنت السلطة القائمة في كثير من الأحيان، ولكنها نجحت، بالمقابل في فرض حضورها على الساحة الثقافية فهيمنت على عدة مراكز علمية في الري وأصفهان وخراسان. وكما أن متطلبات الحفاظ على السيطرة السياسية في مصر وإفريقية قد جعلت الدعاة الإسماعيليين يركزون نشاطهم هناك في الميدان السياسي وفي حدود ''الظاهر'' مهتمين أكثر بضمان ولاء الناس للدولة لا للأيديولوجيا، فإن متطلبات الهيمنة الثقافية والحفاظ عليها قد جعلت الدعاة في إيران ينصرفون عن العمل السياسي المباشر إلى العمل الفكري مركزين بالتالي على نشر الفلسفة التي تؤسس أيديولوجيتهم السياسية الدينية. ومن دون شك فلقد كانت المعطيات المحلية، التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية، التي كانت تتحدد بها الوضعية العامة في إيران، هي التي فرضت على الحركة الإسماعيلية هناك هذا الاتجاه. ويهمنا أن نبرز هنا من بين عناصر تلك الوضعية ما يلي :
فمن جهة، كانت إيران الكبرى كلها، قبل الإسلام وبعده، مسرحا للعديد من الحركات الدينية والفلسفية مما جعل الولاء السياسي هناك مشروطا، إلى حد كبير بوجود ولاء فكري سابق. ومن جهة أخرى كانت إيران بمختلف أقاليمها تحت رقابة الدولة العباسية التي كانت تخشى على نفسها من أية حركة معارضة تتجذر هناك وبالخصوص الحركة الإسماعيلية ذاتها. من أجل هذا وذاك اضطر الدعاة الإسماعيليون إلى التركيز على العمل الفكري بدل المغامرة بتنظيمات سياسية ستتعرض للمتابعة والملاحقة لا محالة. وهكذا اتجهوا بكيفية خاصة إلى الأوساط المثقفة والمراكز العلمية ولم يترددوا في الانخراط في حاشية الأمراء المحليين ليتمكنوا من تسخير السلطة ورجالها (السنيين، أو الشيعيين المعتدلين) في نشر الفلسفة التي تؤسس أيديولوجيتهم، أعني الفلسفة الدينية الهرمسية كما كانوا يعرضونها ويوظفونها. هكذا تم الترويج، وعلى نطاق واسع، لـ ''فلسفة'' تضم أمشاجا من الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية الحرانية والعلوم السرية الهرمسية، إضافة إلى عناصر من الفكر الإيراني الزرادشتي القديم، مما كرس النظام المعرفي العرفاني في إيران كلها وجعله يؤسس هناك ''الثقافة الباطنية'' بمختلف فروعها.
وهكذا فبالإضافة إلى رسائل إخوان الصفا التي كانت المرجع الفلسفي الأول للحركة الإسماعيلية كلها نبغ في فارس (إيران الكبرى) ''فلاسفة'' إسماعيليون كبار تمكنوا من التأثير في بعض رؤساء ''الدول المستقلة'' هناك واستمالتهم العديد من أعيانها وأكابرها. وتطورت الحركة هناك إلى أن قامت ''النزعة النزارية'' التي أسسها الحسن الصباح (المتوفى سنة 518هـ) والتي انتشرت في خراسان وفارس والشام''.
وهكذا يبدو واضحا أنه في الوقت الذي كانت قد تبلورت في بغداد مدرسة منطقية مشائية، مع متى والفارابي (أوائل القرن الرابع الهجري) كانت قد تبلورت في خراسان وفارس مدرسة فلسفية مضادة، هرمسية الأصول، تزعمها أول الأمر فلاسفة إسماعيليون دعاة، ثم آل أمرها إلى فلاسفة آخرين غير ملتزمين مع الحركة الإسماعيلية. وكما انتهت رئاسة مدرسة المنطقيين في بغداد إلى أبي سليمان المنطقي معاصر ابن سينا يمكن القول إن مدرسة خراسان، المنافسة لها قد انتهت رئاستها إلى هذا الأخير، أعني ''الشيخ الرئيس'' ابن سينا، الذي يخبرنا بنفسه أن أباه وأخاه كانا ''ممن أجاب داعي المصريين'' أي الفاطميين، وأن جماعة من الدعاة الإسماعيليين كانوا يترددون على بيت والده وأنه كان يسمع منهم كلاما في ''النفس والعقل''، وأنهم قد دعوه إلى اعتناق مذهبهم، غير أن نفسه كما يقول لم تكن تميل إلى ذلك. ومع ذلك، فقد بقي شيعيا اثنا عشريا وقد شغل منصب وزير لأحد الأمراء البويهيين.
وفي عهد الدولة السلجوقية تجند وزيرها الكبير نظام الملك لمحاربة خط الهيمنة الفكرية التي حققتها الإسماعيلية في إيران وباتت تهدد عاصمة الخلافة بغداد فقام بإنشاء عدد من المدارس – عرفت بالمدارس النظامية - وذلك لمواجهة المدارس الإسماعيلية ونشر الفكر السني الأشعري، وقد استعمل فيها عددا من العلماء والفقهاء السنة كان أبرزهم أبو حامد الغزالي، الذي واجه مذهبهم الباطني التعليمي بالمنطق الأرسطي (القياس الصوري) الذي أطلق عليه أسماء عربية إسلامية مثل ''مدارك العقول''، و''القسطاس المستقيم''، و''معيار العلم'' (ثلاثة كتب).
وبعد، كنا قد أشرنا في خاتمة المقال السابق إلى أن الدور الذي قام به حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، في الدفاع عن الدولة السلجوقية السنية في بغداد على عهد الوزير نظام الملك يمكن أن نختزله في عنوان كتابه ''فضائح الباطنية'' ... والآن نضيف أن هدفه من كتابه ''تهافت الفلاسفة'' لم يكن بيان ''تهافت الفلسفة'' على الإطلاق، بل فلسفة ابن سينا التي كانت قد لبست المذهب الشيعي، فلبسه الشيخ الرئيس هو الآخر وهو يعرف أنه تشرب أصول الإسماعيلية، وهو شاب، في منزل والده وبين أهله وذويه فأسست وعيه الفلسفي منذ كان شابا.على أن الغزالي الذي انتقد فلسفة ابن سينا انتقادا جدليا حادا، كان من الناحية التاريخية أول متكلم أشعري مزج الكلام بالفلسفة'' فأسس بذلك ''طريقة المتأخرين'' في علم الكلام، حسب تعبير ابن خلدون. وأما ''حال'' الغزالي مع الفلسفة فقد عبر عنها ابن العربي المتكلم الأشعري الأندلسي، الذي التقى الغزالي وسمع منه، وقد قال فيه قولته المشهورة: ''شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع''. وقد صاغ ابن تيمية الفكرة نفسها بعبارة أخرى فقال: ''شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما استطاع''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي