كيف تسابقُ بلا ساقـَيْن؟

.. في الأسبوع الاحتفالي لمرورِ أربعين عاماً على نزول أوّلِ إنسانٍ على القمر، وكان هذا الإنسانُ هو الأمريكي «نيل أرمسترونج»، وقف الرئيسُ الأمريكيُّ «أوباما» أمام علماء «ناسا»، أكبرُ وكالةٍ فضائيةٍ على الكوكب، وكان الجميعُ يعتقد أنه سيتكلم عن الموضوع المناسب: إما عن غزوِ الفضاءِ، أو التعليق على ما انفجرَ في الإعلام الأمريكي ثم العالمي، انطلاقاً من قناةِ «فوكس» الأمريكية حول موضوع «خدعة القمرِ الكبرى»، التي راحت تُزْجِي الأدلـَّةَ بأنَّ النزولَ على القمرِ كان خُرافةً عظمى سوّقتها «ناسا» على العالم. على أن الرجلَ الرئيسَ فاجأ الجميعَ بموضوعٍ آخر..
تكلمَ الرئيسُ عمّا يؤرقهُ حقاً، وهو عن تطوير وسائل التعليم في مادَتَي الرياضياتِ والعلوم.. وإن كان رئيسُ أمريكا الدولة الرائدة تقنيةً في العالم يكاد يبكي حسرةً على ضياع الجيل المدرسي الأمريكي لسوء التحصيل في أهم مادتين تقوم عليهما التقنية الحديثة، فكيف ببقيةِ العالم الثالث.. فكيف بنا؟
حذّر الرئيسُ الأمريكي شعبَه من التهديدِ الأكبر الذي تتلقاه أمَّته، وهو التهديدُ التقني الذي تفرضه عمالقة التقنية من دول آسيا الوسطى والقصيّة، التهديدُ الآتي من الهند والذي أكَلَ فرصَ أعمال المهندسين والمبرمجين والتقنيين في الولايات المتحدة عن طريق توكيل الأعمال للشباب الهندي البازغ الموهبةِ والعلم في هندسةِ البرمجيّات، والتهديدُ الآتي من كوريا، ومن الصين.. لذا وضعتْ الأمةُ الأمريكية هدفاً استراتيجيا دفاعياً علمياً، وهو أن تحقق أكبر معدّلاتِ للتخرج من الشباب الأمريكي في مادتي العلوم والرياضيات أكثر من أي دولةٍ أخرى قبل حلول عام 2020م.
والسببُ المباشر والواضحُ في ذلك أن مادتي الرياضيات والعلوم تلعبان دوراً أساسياً في إنماءِ العالم اليوم. الابتكارُ والإبداعُ والتجديدُ هي الدافع للتطور في أي بلدٍ في العالم، ومن ضمن هذه البلدان.. بلادنا.
وطرأ الموضوعُ على ذهني وأنا أقرأ في هذه الجريدةِ الاتفاقَ الذي وقعته وزارةُ التربيةِ والتعليم مع الصينيين لتنفيذ بناء عشرات المدارس في المملكة بعقدٍ يصل إلى ملياري ريال.. جيدٌ أن تُقام مدارس عصريةٌ فنحن فعلا بأمسِّ الحاجةِ إليها، ولكن الإنشاءاتِ البنائية لا تغذّي عقلاً وحدِها، بل يجب أن يتطور التعليمُ ليواكب موجةَ العصرِ في المعلوماتِ والتقنية، والصينُ ذاتُها أكبر مثال.. فالتخرجُ في الجامعاتِ والمدارس العليا في الصين في علوم التقنية وبالذات الرياضيات وعلوم البرمجة والهندسة كما يقول الآباءُ هناك لأبنائِهم بأنه أقدَسُ من توصياتِ كونفوشيوس ذاته.
وهنا يجب أن يكون تحدينا الأكبر في وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي، إعداد فئاتٍ كبرى للتخصص والتخرج في هذين العلمين اللذين يعتبران علمين رئيسين الآن في العالم، ولن يتأتّى لنا ذلك بالأماني ولا بالتصريحات، بل بالعملِ الحقيقي الجادّ ضمن خطةٍ استراتيجيةٍ لتطوير طرق ووسائل التعليم كافة، والأهم تطوير القائمين على التعليم، وتطوير المؤسسات التدريبية الخاصة بتدريب المعلمين في المراحلِ المدرسية المختلفة. يجب أن نعترف بأن هناك ضعفا لدينا في هذا الموضوع المهم، ويعاني طلابُنا وطالباتُنا قصورا في هاتين المادتين، والقصورُ هنا ليس ذهنياـ فلا ينقص طلائِعنا ذكاءٌ ولا هِمّةٌ جادة في الدراسة مثلهم مثل أجيال الشعوبِ الأخرى، ولكن المسألة التي يجب أن نصارح أنفسنا فيها هو مدى غناء عقل اليافعين عندنا من هذين العلمين فما زال التعليمُ في هاتين المادتين بالمدارس يقوم على الطرق التقليديةِ والصفيّةِ الكلاسيكية، والعالمُ الآن يعتمد على المعاملِ والتجاربِ والبحوث، والتقييم الفردي بالفروض الشخصية الابتكارية للتلاميذ كما في اليابان وماليزيا ومعظم دول الغرب.
إذن لتكُن أمامنا مهمةٌ تعليميةٌ إرسالية، وهي إعدادُ أجيالٍ متمكنةٍ وعلى المستوى العالمي في العلوم والرياضيات.. لنعدّ أجيالاً يوفون طلبَ السوق في المهام التقنية المفتوحة والدائمة التوسع، القادرين على العمل في الداخل، والتنافسي في الخارج.
وربما احتجنا، وأراه من منظوري احتياجاً قطعياً على مستوى الأمة، أن يُبادَر بتأسيسِ مركز خاصّ، ومستقلّ عن أي جهةٍ تنظيميةٍ تنفيذيةٍ أخرى، للرياضيات والعلوم، يُختار له من أفضل العقول المبدعةِ في هذين التخصّصين لإعدادِ الدراساتِ والقيام بالبحوثِ التي تُقدَّم للجهاتِ التعليميةِ التنفيذية، وهي المدارسُ والمعاهدُ والجامعات، حول تطوير المناهج، وتطوير الطلبة، والتعامل الخاص والناجع مع أصحاب العقول المتفوقة فطرياً وموهبةً في هذين المجالين.. وستكون للمركزِ فوائدُ منظورةٌ مباشرة، وغير مباشرة في تطوير أكثر من مرفقٍ من مرافق البلاد فوق التطوير الأصلي للمناهج والطرق والوسائل التعلمية، كالمرافقِ الصناعية، والتطويرية في أكثر من مجالٍ هندسي وحيوي.
الرياضياتُ والعلومُ هما ساقا من يريد أن يسابق في مضمارِ التفوق الدولي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي