هل سوء الظن مرض نفسي أم ذكاء اجتماعي؟

[email protected]

إذا أردنا تكريس الحوار والتفاهم ونبذ كل أشكال الكراهية والتعصب في المجتمع علينا نشر ثقافة التسامح، وتأصيلها كمنظور إنساني وأخلاقي، وتعميم قبول الرأي الآخر، لذلك فإن المصطلحين: ( حسن التعامل) و( التسامح ) في علاقتنا الإنسانية وصلا إلى سوء الظن من حسن الفطن!!
فهل تلوّث النسيج الاجتماعي وخربت النفوس حتى تكون لسوء الظن والشك بالآخرين دواع لا خيار عنه، أم أنه أصبح سلوكا فطريا عاديا، حيث يمكن قياس سوء الظن والخلاف في التعامل الإنساني في جميع نواحي الحياة؟ ففي المجتمع يقاس بمعدل عدد القضايا في المحاكم الشرعية، ودون تسامح بين الخصوم مع جهود لجان إصلاح ذات البين، وفي الحياة الأسرية يقاس بمعدل ارتفاع الطلاق والعنف الأسري، ودون تسامح مع واقع الأبناء، وفي الاقتصاد يقاس مع واقع سوق الأسهم، ارتفاعاً مرة وهبوطا مرة بعد مرةً، ودون رحمة أو تسامح مع صغار المساهمين والذين يمثلون ثلث المجتمع.
بصراحة الكتابة في الاقتصاد أو القانون أسهل بكثير من الدخول في عمق العلاقات الإنسانية، لأن تصرفات البشر تتطلب أولا إسقاط تعاليم الدين الحنيف كالقواعد الأساسية في التعامل ثم تتطلب تجربة وحنكة وصبرا، فكلما تعمق الإنسان في العلاقات الإنسانية، احتاج إلى دواء التسامح، هذه نصيحة والدي ومقالة بعنوان (أين المتسامحون) أرسلها لي للموعظة بعد عراك الرأي والرأي الآخر في الأسبوع الماضي.
يقول فيها يابني: كل عاقلٍ مُدرك لمعاني الإنسانية، يجدها في (التسامح) والتي من أجلها يبذل كل ما أوتي من فكرٍ ومالٍ وبذل، فمن أراد أن يعيش سعيداً وأن يخلد كريماً محموداً يتخلى في (تعامله) عن الإضرار بالناس، وإذا أراد التسامح يبتعد عن كل وسواس أو وشاية، لأن فيها خناس من الشيطان، وابتعد عن سوء الظن في أخيك المسلم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).
في علاقتنا الإنسانية، نحتاج القلوب التي تتناجى في تكوين الألفة وبذل المصالح، وألا نضيِّع مكتسبات الأمة وخيراتها في الخلافات المدمرة للمجهود وحرق الذات لغاية (ذاتية)، والتي لن تنفع من حولنا ولن يستفيد من فعلها، لذلك دعونا نرفع راياتنا البيضاء معلنين الصفح والعفو بسبب أو دون أسباب، ولنعتمد على الله، وسنجد بإذن الله قلوباً خيرةً تحفظ لنا ذلك المعروف وأرواحاً زكيةً خلوقة ُطهورة تحفُ من حولنا، وسنجد المحبة تحيطُ بنا أينما حللنا أو ارتحلنا، دعونا أن نكون من أصناف المحبين للخير والمعروف بين الناس ومن الكارهين للشر، ولنكن من طلاب المحبة والإخلاص ومن أصحاب الأيادي النقية المنتجة، دعونا نترك الدعاوى الباطلة والمضللة ولا نلتفت للعقول المتمردة، دعونا نتركهم ونترك عداوتهم لأنها ضلالة ولنعتمد على الله وعلى سنة المصطفى، وقد جاء في الحديث الشريف (اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك بشيءٍ إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي.
علينا أن نقفل باب العداوة والتطفل في حياة الآخرين، فلا نقيم لها محاكم تفتيش في صدورنا، ولا نطيع أوقات حياتنا الغالية في التربص بالآخرين للاقتصاص منهم، فكل دقيقة نصرفها في العداوات إنما هي كؤوسٌ من السم نحْتسيها، وقد نعجز نحنُ صنف البشر عن علاج من غضب الله عليه، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز (إنك لا تهدي مَن أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين) سورة القصص.
إن مجرد الحلم بالصفح له شأن عظيم، فالحلم والتأني يعليان شأنك ويبرزان مكانتك، وإن أجهروا خصومنا سيوف الجهل فعلينا أن نمد لهم ورود الخير والرحمة، فبها يُصلح الله سعينا وبهِ قد نُصلح من تعقدت عليه سبل الخير ولندع لمن ضاقت صدره، بتسامح، أن يصلح الله قلوبهم ويطهرها ولنستعن بصبر أيوب عليه السلام ولندع لهم بالصلاح وألا نجاريهم، فإن منطق الإنسانية هي أن نحوّل العداوة إلى صداقة خير وصفح وعطاء وبذل وابتسامةٌ وسلام، ولنحرص على الأصدقاء وألا يكثر عتابُنا على من أحببنا، فإذا بدرت من صديقٍ هفوة أو زلة أو غلطة فلندفع بالتي هي أحسن، فالمصالح ذاهبة أياً كانت وأما الصداقات الوفية لا تتعكر من (القذى)، ولنكثر ممن يحبُنا ولنحب من أحبنا ولنحافظ على من هو لنا أخ بحق الوداد، فكل العداوات لا تأتي بخير ولا نستخفف بأصغرها ولا نستهتر بعدو ولو كان واحداً ولو كان ضعيفاً أو مستضعفاً فإن البعوضة قد أدمت مقلة الأسد وإن فأراً صغيراً قد هدم سد مأرب.
إن أعمارنا أقصر مما نتخيل فإن تصرفنا بها في القصاص والاقتصاص والانتقام فقد ضيّعنا حياتنا بفوائدها الجمة، وقد نضيع نحن معها فلنترك ما يقوضه الشيطان من عداء في قلوبنا ولننصرف إلى مدارس الإيمان لتتغذى قلوبنا وأفكارنا وأجسامنا إيماناً راسخاً مبنياً على علمٍ بهِ معرفةً ودرايةً ودستور ديننا يوصينا بهذا.
إن صاحب الحب الصادق والحكمة البالغة والإجلال المبني على التسامح هو الذي يجلس على عروش القلوب فمن أراد أن يُكتب لهُ تاريخ جليل عليهِ (بالبر) و(الإحسان) مع الناس. إن الكرام من يكتبُ تاريخهُ بعمله وصبره فالحياة سمعة وتاريخ لمن صنع الجميل وأحسن التعامل، ولنعلم أننا نُحاسب على كل مثقال ذرةٍ خيرٍ أو مثقال ذرةٍ شر، فإن أيقنا بحق أقوالهِ جلال جلاله سنتجنب الحساسيات المفرطة مع بعضنا البعض، ولنوقن أن كل ما نقدمه من خير أن نعتبرهُ من أساس الواجبات المناطة بنا، هذا رسالة والدي لي أنقلها لكم وأسأل الله أن أكون أول المتعظين به، وكل عام وأنتم بخير ورمضان كريم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي