مستقبل الجامعات السعودية: ما بعد صدمة التصنيف

شهدت الساحة المجتمعية في الآونة الأخيرة تفاعلاً منقطع النظير مع نتائج التصنيف الإسباني لمستوى الجامعات السعودية وأعقبته الإشارة إلى تصنيفات أخرى مثل التصنيف الصيني، وتصنيف دول الشرق الأوسط، حيث تراجعت الجامعات السعودية إلى مراكز متأخرة من قائمة الجامعات المتضمنة في تلك التصنيفات. وعلى الرغم من الأثر الإيجابي لصدمة التصنيف التي أثارت الحوار المجتمعي حول مستوى الجامعات السعودية، وخلقت مناخاً صحياً اتسم بالمكاشفة والشفافية والمصارحة لقضايا التعليم العالي والتحديات التي يواجهها إلا أن هذا الحوار تحول في بعض الأحيان إلى مواجهات جدلية، تارة يتم فيها كيل الاتهامات جزافاً دون التحقق من معايير التصنيف وأهدافه. وتارة أخرى يتم التنصل من المسؤوليات بما لا ينسجم مع المصلحة الوطنية على وجه العموم، ولا يخدم الإصلاح المستقبلي لجامعاتنا على وجه الخصوص.
إن صدمة التصنيف التي أصابت جميع شرائح المجتمع بالذهول والاستغراب أحياناً، وبالامتعاض وعدم الارتياح أحياناً أخرى، ينبغي أن تستثمر بأسلوب علمي منطقي، يبدأ بالاعتراف الصريح أن جامعاتنا تعاني من بعض المشكلات والقضايا المفصلية التي تحول في المقام الأول دون تحقيقها بشكل أكثر كفاءة وفاعلية لمتطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل فضلاً عن تحقيقها مراتب متقدمة في العديد من التصنيفات العالمية لمستوى الجامعات، ثم الشروع في مواجهة تلك المشكلات والقضايا بما يسهم في الارتقاء بالسمعة العلمية والأكاديمية للجامعات السعودية.
وبعيداً عن نتائج التصنيف الذي يحسن اعتباره في تقديري شرارة الانطلاقة لمستقبل التطوير الجامعي فإنني أطرح تصوراً مستقبلياً لأبرز قضايا وأولويات هذا التطوير على النحو التالي:
أولاً: الاستيعاب: تمثل قضية الاستيعاب والقبول في الجامعات، أبرز القضايا الحالية التي تؤرق جميع شرائح المجتمع بشكل موسمي، لاسيما مع تزايد الطلب المجتمعي على الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي. وفي تقديري أن الجامعات لم توفق في التعامل مع هذه القضية، حيث عمدت إلى التوسع في القبول لاسيما في التخصصات النظرية بعيداً عن ميول الطلاب ورغباتهم. وأسهم هذا الأمر، في تسرب أعداد كبيرة من الطلاب نظراً لالتحاقهم بتخصصات لا يرغبون فيها، أو تخرجهم في معظم الأحوال بتقديرات متدنية وفي تخصصات لا تتواءم مع سوق العمل. وتحت هاجس الضغط المجتمعي المتزايد على القبول، قامت الجامعات بإنشاء كليات المجتمع، إلا أن معظم هذه الكليات تفتقر إلى المتطلبات التنظيمية والمادية والبشرية التي تحقق أهدافها. وهذه الكليات بوضعها الحالي تمثل في معظمها عبئاً على نظام التعليم الجامعي نتيجة التسرع في فتح هذه الكليات قبل استيفاء الحد الأدنى من المتطلبات التي تسهم في إنجاح هذه التجربة، بل إن معظم عمداء هذه الكليات يفتقرون إلى الكفايات الأساسية لإدارة هذا النوع من التعليم، حتى أن بعضهم يفاخر أن بعض طلاب كليته من ذوي المعدلات المرتفعة، يعكس فلسفة القبول لهذا النوع من التعليم، أو أن بعضهم يرغب في تحويل كلية المجتمع التي يديرها إلى كلية ذات أربع سنوات بما يخالف الأهداف التعليمية لهذا النوع من التعليم.
ومما سبق آمل ألا يفهم أنني من غير المؤيدين لتبني نظام كليات المجتمع، بل العكس هو الصحيح فإنني أعتقد جازماً أن إنشاء العدد المناسب من كليات المجتمع لتغطية أنحاء المملكة كافة هو الحل الأمثل لمواجهة قضية الاستيعاب والقبول وفق معياري الكفاءة والفاعلية، لكن المهم هو توافر المتطلبات التنظيمية والبشرية والمادية لإنجاح هذه التجربة.
وقد بادرت أخيرا الجهات المسؤولة عن التعليم العالي لمواجهة قضية الاستيعاب والقبول بالتوسع المتسارع في فتح الجامعات الإقليمية بشكل يدعو إلى الخشية والحذر من أن تكون هذه الجامعات إضافة عددية أو كمية تركز على المظهر دون الجوهر. وكان الأولى أن يتم التوسع بشكل تدريجي يضمن الحد الأدنى من عوامل الكفاية الإنتاجية والمادية لإنجاح هذه الصروح الأكاديمية.
ثانياً: الجودة: برزت "الجودة" كأحد القضايا الأساسية في تطوير الجامعات على وجه الخصوص، وجميع مؤسسات التعليم العالي على وجه العموم. ومع وجود بعض المبادرات في الجامعات السعودية لتطبيق مبادئ الجودة ومفاهيمها، إلا أننا نلمح تباطؤاً في إخراج هذا المشروع بشكل أولي إلى حيز الوجود. ومرد هذا التباطؤ يعود إلى مجموعة من الأسباب لعل من أبرزها على المستوى الجمعي، استمرار الجهات المسؤولة عن التعليم العالي بالإبقاء على الهيئة الوطنية للاعتماد الأكاديمي تحت إشرافها بأسلوب غير مباشر. وكان الأولى أن تحظى باستقلالية تامة تسمح لها استقطاب أفضل الكفاءات لإدارتها وتسيير شؤونها في إطار معايير الكفاءة والمهنية المتخصصة في مجال الاعتماد الأكاديمي، أما على مستوى كل جامعة على حدة، فإن قضية الجودة لا تمثل على ما يبدو أولوية قصوى لدى العديد من القيادات الجامعية المنغمسة إلى حدٍ كبير في الممارسات الإجرائية والتنفيذية على حساب الاهتمام بجوانب التطوير المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي للجامعات، إضافة إلى تدني ثقافة الجودة على وجه العموم في البيئة الأكاديمية والإدارية لمعظم الجامعات السعودية.
ثالثاً: التميز والإبداع والابتكار: يعتبر التميز والإبداع والابتكار في الجامعات بوابة الولوج إلى عصر المنافسة والعولمة الاقتصادية وأحد الصفات الأساسية الملازمة للتعليم الجامعي والتي تميزه عن غيره من أنماط التعليم ومستوياته، بل إن الافتقار إلى هذه السمة يجعل التفريق بين الجامعات وبين أي مؤسسة تعليمية في مراحل دون المستوى الجامعي أمراً صعباً مع تقديرنا التام لتلك المراحل واعتقادنا أنها الأساس في تنمية وغرس بذور التميز والإبداع والابتكار.
ويتطلب التميز والإبداع والابتكار في الجامعات بيئة علمية تعليمية محفزة ومبدعة تتوفر فيها الحرية الأكاديمية لأعضاء هيئة التدريس والطلاب على حد السواء، وقيادات جامعية تحويلية ذات رؤية استراتيجية عالية على مستوى الجامعة وعمادة الكليات ورئاسة الأقسام، وفي الوقت نفسه يتوافر لها نظام جامعي فاعل يتيح القدر الكافي من الصلاحيات والاستقلالية في الجوانب الأكاديمية والإدارية والمالية والتنظيمية في إطار مبدأ المساءلة والمحاسبة.
ويحضرني في هذا المقام، انتخابات الرئاسة لجامعة أريزونا التي كنت أدرس فيها مرحلة الماجستير إبان إبتعاثي، حيث أدلى الرئيس المنتخب لهذه الجامعة في أول تصريح له بأن من أولى أولوياته أنه سيعمل على استقطاب العلماء والباحثين والقيادات الأكاديمية والمبدعين من الطلاب ويسعى إلى توفير وتحسين الإمكانات كافة وتذليل العقبات للارتقاء بالسمعة العلمية والأكاديمية والاجتماعية للجامعة وتمكينها من تحقيق مراتب متقدمة في التصنيف الأمريكي للجامعات.
رابعاً: الجامعات المنتجة: إن مفهوم الجامعة المنتجة في أبسط معانيه يعني تحقيق أعلى درجات التمويل الذاتي من خلال تحقيق الشراكة المجتمعية وتعزيز المواءمة والاستجابة الواعية لمتطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل. ولعل أحد أبرز الاتجاهات الحديثة لتحقيق مفهوم الجامعة المنتجة وتطبيقه في جامعاتنا بأسلوب علمي يكمن في الاستثمار الأمثل لرأس المال الفكري وتوفير البيئة الإدارية والتنظيمية القادرة على توظيفه وتعظيم عوائده ولعل وجود معاهد البحوث والاستشارات وإنشاء عمادات لأعضاء هيئة التدريس تمثلان خطوة أساسية في الاتجاه الصحيح، إلا أن الحاجة ماسة إلى مزيد من التطوير والإصلاح لتعظيم الفائدة من رأس المال الفكري للجامعات وبالتالي الارتقاء نحو مفهوم الجامعة المنتجة.
وأخيراً.. إن صدمة التصنيف لا ينبغي أن تكون مدعاة لتثبيط الهمم أو فرصة لجلد الذات والتنكر لما تحقق من إنجازات، لكن في الوقت نفسه ينبغي أن تكون فرصة ذهبية سانحة للاعتراف بالقصور أو التقصير وعقد العزم والاستعداد للمراجعة والتقويم والإصلاح الدؤوب بما يسهم في تحقيق مستقبل

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي