Author

ثقافة "الجمعيات الشعبية" لمواجهة "القروض الشخصية"

|
أسعدني التفاعل الكبير من قراء موقع "الاقتصادية" الإلكتروني، وهو ما جعلني أصل إلى قناعة كبيرة وأكيدة، أن تناول الكاتب لهموم الناس، ليس أمراً سهلاً أبداً، فالكاتب يجب أن يقدم طرحاً جديداً ورؤية وحلولاً للمشكلة، قبل أن يطرحها. لكن مهلاً، أنا لا أحاول هنا أن ألفت الأنظار وجذب الانتباه، بأن مقالاتي لقيت صدى واسعاً، فما حاولته في ثلاث حلقات سابقة، هو تناول أحد أكثر الملفات المعقدة بين البنوك والمواطنين، وهو القروض الشخصية. حاولت في الحلقتين الأولى والثانية، أن أقدم قراءة منطقية بعيدة عن لغة العاطفة، فأنت حينما تكون صاحب رأي وفكر وطرح، ينبغي أن تكون "محايداً"، حتى يمكنك أن تكسب احترام الطرفين صاحبي المشكلة. والواقع أن الأجزاء الثلاثة التي قدمتها، كان لها صدى طيباً، خصوصاً من العاملين في القطاع المصرفي، إذ أكد لي صديق، وهو صاحب منصب رفيع المستوى، أننا كنا نرقب كل يوم أربعاء من كل أسبوع، الجزء الثاني ثم الجزء الثالث، خصوصاً أني كنت أختم نهاية كل مقال بعبارة "وللحديث بقية"! قال لي هذا الصديق، كنا نتساءل ما موضوع الجزء المقبل، خصوصاً أنك كنت تتناول نقداً مبنياً على خلفية اقتصادية، بعيدة عن العاطفة، كنت قاسياً لكثير من المرات، وكنت "منطقياً" مرات عدة! قال لي الصديق أيضاً، أغلب الظن أنك كنت تريد تفاعلاً من أطراف القضية، بأن يدلوا بدلوهم، فسألته، ولماذا لم يرد بنكك على المقال، فأجاب: سيكون ذلك رأياً رسمياً من جانبنا نحن فقط، في حين أن المشكلة يجب أن تحل بجهد جماعي وليس منفرداً. بالنسبة للمواطن، كانت الردود متباينة، فهناك من قدم لي الشكر على تناول قضية القروض المصرفية بمنهجية واضحة وعقلانية متأنية، وهناك من أيد طرحي بأننا بحاجة إلى ثقافة مالية، خصوصاً أن ثقافة الاستهلاك، أصبحت طاغية على الادخار وكيفية التعامل مع المصروفات والنفقات. وتساءل أحدهم في تعليقه، يا دكتور عبد الله أنت تتحدث في واد ضخم جداً، كيف نستطيع الادخار نحن الصغار، فمن يتعامل مع المصارف ينبغي أن يقبل بمبداً "الفائدة" أولاً، ثم يكون من أصحاب الرواتب العليا! أنا أقول إن الحل بسيط جداً ومتداول بين أيدينا ونمارسه جميعاً، في غانا يسمونه "سوسو"، وفي الهند يسمونه "صندوق تشيت"، ونطلق نحن عليه، "جمعية".. إنها جمعيات تناوب الادخارات والائتمان التي تمثل أحد الإبداعات المجتمعية للادخار الشعبي، ولتمويل الأفراد بشكل تكافلي دونما الحاجة إلى قروض البنوك أو اللجوء إلى الاستدانة. فكرة هذه الجمعيات تقوم على أن عددا صغيرا من الأفراد يؤلفون مجموعة ويختارون شخصا من بينهم لرئاسة الجمعية يقوم بصفة دورية (كل شهر في العادة) بتحصيل مبلغ معين من كل عضو، ثم يعطي إجمالي المبلغ المحصل من جميع الأعضاء بالتناوب إلى كل عضو. وبالتالي فإن المبالغ التي يدفعها كل عضو على مدار الجمعية يتسلمها مرة واحدة بما يوفر له مبلغا يمكنه من تمويل ما يحتاج إليه دون وجود فائدة عليه، ومن ثم فالمقرضون هم المدخرون وبدون فائدة، وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية ومنها بوليفيا تدفع الجمعيات أو كما يسمونها هناك "باساناكو" لرئيسها عمولة، لكنه في مقابل ذلك يتحمل المسؤولية في حالات عجز العضو عن السداد. وانتشر هذا النوع من الجمعيات بين معظم شرائح المجتمع من طلاب، موظفين، تجار، وربات البيوت..)! حسناً كان الحل بأيدينا، فالجمعيات جاءت مع تزايد حاجات الناس لتغطية مشترياتهم من السلع المعمرة وغيرها، وكذلك انخفاض مستوى المعيشة والتضخم بما حال دون تراكم المدخرات الفردية. إضافة إلى سهولة نمط الائتمان عن طريق الجمعيات وبساطته وعدم ارتفاع تكلفته وخلوه من المشاكل الحقيقية مقارنة بالتعامل مع البنوك أو الاستدانة. وفي اعتقادي أن هذه الجمعيات تعمق قيمة اعتماد الأفراد على بعضهم بعضا بما يساعد على تعزيز قيمة التكافل المجتمعي وتشعر الناس بالأمان الاقتصادي. ومع أنه لا يوجد تقدير لحجم الأموال المدارة في هذه الجمعيات في المجتمع بسبب عدم إخضاع هذه الظاهرة للدراسة العلمية، غير أن البعض يصل بها إلى ملايين الدولارات نظرا إلى أن حجم بعض الجمعيات يصل إلى 1500 دولار. وبحسب علمي، فإن "الجمعيات الشعبية"، انتقلت عدواها إلى التجار، وأصحاب المهن الواحدة، حيث ساعدتهم في توفير السيولة المالية اللازمة لتجارتهم دون الحاجة إلى اللجوء لقروض البنوك وتعقيداتها. في اعتقادي أن ظاهرة الجمعيات أو "الادخار الشعبي"، ظاهرة إيجابية "تستحق التأمل والتحليل"، وهي أيضاً "إبداع إنساني" في شكل فطري، لمواجهة قسوة الحياة ومتطلباتها بعيدا عن تعقيدات البنوك وحرمة التعامل مع بعضها. وهي أيضاً "صورة من صور القرض الحسن"، وهي بديل واقعي عن الاقتراض من البنوك، ومن استدانة الأفراد من بعضهم بعضا". وحينما كنت أتحدث إلى بعض الأصدقاء عن هذه الظاهرة، اقترح البعض أن أطرح تطوير هذه الجمعيات بعدة طرق منها: توسيع قاعدة الأفراد المشاركين فيها، وإخضاعها لتشريع يحمي هذا العمل وينظمه، وكذلك وضع الأسس التي تكفل عدم وقوع الخلافات أو المشاكل التي قد تنشأ من جرّاء عجز بعض الأفراد عن دفع الأقساط المستحقة عليهم أو في حال فقدان المال لسبب قاهر كسرقة أو ما شابه، إضافة إلى إمكانية تطوير الجمعيات عن طريق الاستعانة بالتكنولوجيا والنظم الحديثة، كتصميم برامج حاسوبية خاصة بتنظيم عمل الجمعيات، والتعرف على تجارب الآخرين، ومحاولة تلافي المشاكل التي قد تنجم عنها. وأنا أرد على هذه الاقتراح بـ (الرفض) فقوة وفاعلية هذه الظاهرة، تكمن في بساطتها وشعبيتها، ويجب أن تستمر هذه الظاهرة كما هي، فسر نجاحها يكمن بشكل أساسي في بساطتها وعدم تأطيرها في مؤسسة ما تفرض قيودها الطبيعية على المعاملات بما أنها مؤسسة". وأعتقد جازماً أن أي توجه في رأينا لتطويرها، عبر إيجاد كيان مؤسسي لها، أو إدخال أية إجراءات إضافية عليها، سينقلنا إلى آلية أخرى لا شك أنها تختلف عن هذه الظاهرة البسيطة والناجحة". لكن بطبيعة الحال، لن تكون الجمعيات بديلا للمصارف خصوصاً في قضايا القروض الموجهة للاستثمار، والاعتمادات المستندية وتغطية الشيكات وغير ذلك من الأمور، فهي تفيد فقط الطبقات المتوسطة" وتنحصر إيجابيتها في تحقيق أهداف استهلاكية، ولتغطية مشتريات أو ديون، فهي ولدت لتسد حاجات محدودة وهي تقوم بذلك على أكمل وجه، ولذلك لا أرى بأسا في استمرار هذه الظاهرة على شكلها البسيط". [email protected]
إنشرها