تفطير صائم وهدر الموارد

[email protected]

تتأخر قليلاً في العودة إلى بيتك، أو في الوصول لمنزل داعيك على إفطار رمضان، فإذا بفرق محبي الخير (وهم كثير) تحاصرك عند كل إشارة، وتلقي إليك بإفطار صائم، وحين تصل إلى وجهتك تكون جمعت في سيارتك أربع أو خمس وجبات إفطار على الأقل تمكن موزعوها من قذفها داخل سيارتك، واعتذرت عن قبول مثلها أو أكثر. بطبيعة الحال، مثل هذا الجو التعاوني الإيماني يزيد الإنسان فخراً أنه في بلاد كريمة، ومن شعب مضياف يحب الخير ويطلب الأجر. ولكن حين تتعدى المسألة الشعور النبيل نجد أن مليارات الريالات صرفت في شهر الخير، في السنوات القليلة الماضية، وكان من الممكن إعادة توجيهها لتخدم شريحة أكبر ويكون تأثيرها مستديماً، لتتحول من مجرد صدقة عابرة إلى صدقة جارية.
بطبيعة الحال ليس كل من نجده في الشارع أثناء أذان المغرب في رمضان هم من المحتاجين، ووجود آلاف المجتهدين الذين يوزعون وجبات إفطار تقدر قيمتها باليوم الواحد بالملايين في طول البلاد وعرضها يهدرون أموالاً في غير موضعها. وتجرهم عاطفة حب الخير غير "المعقلنة" إلى صرف موارد هائلة في قنوات كان من الممكن توفيرها بطرق أخرى تدوم أطول من يوم واحد كما هي الحال. حين نضع حديث تفطير الصائم في سياقه التاريخي يتبين أن المقصود في الحديث الشريف تفطير المحتاجين من الصائمين الذين يصوم كثير منهم صيام تطوع حين لا يجدون ما يأكلونه. ولهذا كان الحديث دافعاً للإحسان لهؤلاء وتطميعاً للموسرين من المسلمين على دفع صدقة الطعام لإخوانهم. وحالنا اليوم إسراف في الطعام والإطعام، مع أناس يحسنون على أنفسهم وعلى ضيوفهم لو خففوا من بذخ الوجبات الرمضانية.
ماذا لو وجهت هذه الملايين لبناء مؤسسات خيرية مستديمة، تخرج من ضمن برامجها وجبات تفطير صائم، ولكن أصولها الخيرية وأعمالها الأخرى تمتد بطول السنة، وتغطي نشاطات كثيرة. أليست الفائدة الخاصة والعامة ستكون أشمل وأبلغ؟ الفائدة الخاصة لدافع هذه الأموال، حيث تستمر عوائد هذه الأموال وخيراتها في العمل وتكون بإذن الله صدقة جارية. والفائدة العامة للمجتمع والوطن بشكل عام. ماذا يستفيد الوطن حين نهدر مئات الآلاف من وجبات الإفطار يومياً لمدة ثلاثين يوماً؟ أليس الأولى إعادة استثمارها على نحو يضمن الاستمرارية وتدفق الدعم المستديم، وبناء مؤسسات خيرية ترعى المحتاجين طوال العام؟
حين نجمع أموال تفطير الصائم ونبني بها مراكز رعاية وتعليم وتدريب خيري يكتسب فيها الشباب المحتاج صنعة تكف يده عن ذل السؤال، نكون بنينا مواطناً صالحاً يبني مع إخوانه في وطن يحتاج إلى هذه الكفاءات المهدرة. حينها تسهم أموال الصدقات، ليس فقط في توفير لقمة آنية، بل في توفير مؤسسات خيرية تسهم في نهضة الاقتصاد حين ترفع من معدلات الدخل للطبقة الفقيرة، وتوفر آلاف الأيدي العاملة الوطنية بأموال الصدقات. نكون - باختصار - وفرنا له الوجبات الثلاث مدى الحياة، وليس وجبة إفطار في رمضان فقط.
يجب أن نعيد التفكير في مصارف الصدقات. لا يقدم كثيراً للوطن ولا للمستقبل من يضيف مسجداً لآلاف المساجد الموجودة، أو يوفر حافلة يحج بها بعض المقيمين، أو ينشر كتاباً سبق نشره وتوزيعه عشرات المرات، أو يطبع ملصقات ومنشورات، أو ينثر الأطعمة في مغرب رمضان على من يحتاج ومن لا يحتاج، ويذهب أكثرها للنفايات. يجب أن تكون أموال الصدقات أكثر ديمومة وفاعلية، لتسهم في إنشاء وتمويل مصانع، ومدارس، ومراكز تدريب، ومستشفيات. أرى أننا سنستفيد كثيراً لو درسنا آلية الأعمال الخيرية في أوروبا وأمريكا، لنصل لأعمال خيرية تدوم أطول من عمر المحسنين، وتسهم في تقنين و"عقلنة" مصارف الصدقات لتصب في المصلحة العامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي