أسباب غسل الأموال ومعوقات مكافحتها في السعودية

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن حجم الأموال غير المشروعة التي تتعرض لعمليات غسل الأموال في العالم أصبح من الضخامة بحيث يتجاوز حجم التجارة الدولية للبترول، ويأتي في المرتبة التالية لحجم التجارة الدولية للأسلحة؛ ولهذا فقد اهتمت الدول والمنظمات والمؤسسات المالية والجهات الأمنية والعلمية وغيرها في الآونة الأخيرة بمكافحة جرائم غسل الأموال، لما لها من آثار اقتصادية واجتماعية وأمنية متعددة. وقد تناولت في مقالات سابقة توضيح تلك الآثار وآثارها، ولكنني أتساءل عن أسباب تلك الجرائم؛ والمعوقات التي تحد من فاعلية مكافحتها؛ وكيفية التغلب عليها.
وتشير بعض الدراسات التي أجريت في هذا المجال إلى أن من أهم أسباب انتشار عمليات غسل الأموال في مختلف الدول: التجارة غير المشروعة للمخدرات والمؤثرات العقلية؛ وظاهرة العولمة وما أدت إليه من سهولة انتقال الأفراد والبضائع والمنتجات عبر الحدود الدولية، وما فرضته على الدول من تقليل العقبات والقيود التي تعترض حركتها الدولية؛ وارتفاع معدل الضرائب فـي بعض الدول؛ وزيادة حجم التجارة الدولية بين رجال الأعمال؛ حيث يُمارس بعضهم أعمالاَ غير مشروعة؛ ونمو المعاملات بين البنوك المحلية والدولية؛ والتمسك بتطبيق مبدأ سرية الحسابات المصرفـية بطريقة مطلقة؛ وانتشار الفساد الإداري والمالي فـي العديد من الدول بشكل ملحوظ؛ والتقدم التقني فـي أنظمة التحويل المالي بين مختلف دول العالم المعاصر؛ وظهور ما يُعرف ببنوك الإنترنت ونظم الحسابات الرقمية؛ والتعقيدات الإدارية الناجمة عن القوانين المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية.
وقد أدركت العديد من الدول، ومنها السعودية، تلك الأسباب التي أدت إلى انتشار عمليات غسل الأموال فوضعت القوانين والأنظمة لمكافحتها واتخذت العديد من الإجراءات الوقائية من خلال النظم المالية وغيرها، ومع ذلك فإنني أرى أن هناك العديد من المعوقات التي تحد من فاعلية إجراءات مكافحة جرائم غسل الأموال في السعودية، أهمها:
1 ـ تباين الجزاءات المقررة لجرائم غسل الأموال في النظام السعودي عن تلك التي قررتها الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، سواء أكانت جزاءات سالبة للحرية أم جزاءات مؤثرة في الذمة المالية، وسواء أكانت جزاءات جنائية تكميلية مقررة على الشخص الطبيعي، أم مقررة على الأشخاص المعنوية.
2 ـ إن النظام السعودي يُقرر عقوبات تخييرية لجريمة غسل الأموال، وهذا من شأنه إعطاء القاضي ناظر القضية سلطة تقديرية في تقرير العقوبة، الأمر الذي يؤثر سلباً في فكرتي الردع الخاص والعام.
3 ـ عدم وجود تنظيم واضح وشامل للسرية المصرفية ولحالات الخروج عليها وضوابطه، اللهم إلا المادة الثامنة من نظام مكافحة غسل الأموال التي تنص على أنه: "استثناءً من الأحكام المتعلقة بالسرية المصرفية فإن على المؤسسات المالية وغير المالية تقديم الوثائق والسجلات والمعلومات للسلطة القضائية أو السلطة المختصة عند طلبها".
4 ـ تردد بعض قيادات العمل المصرفي في اتخاذ بعض إجراءات مكافحة جرائم غسل الأموال، وذلك لأسباب عدة منها تشجيع المودعين على القيام بعمليات الإيداع باعتبارها تمثل المصدر الرئيس الذي يعتمد عليه المصرف في ممارسة نشاطه.
5 ـ ارتباط القطاع المصرفي في السعودية بالعمل المصرفي على المستوى الدولي، حيث إن تورط بعض البنوك الأجنبية في عمليات غسل الأموال يصعب معه فصلها عن العمل المصرفي في الدولة.
6 ـ عدم وجود إحصاءات دقيقة وواقعية لحجم جرائم غسل الأموال ومصادرها من ناحية الدول والأنشطة التي يتم من خلالها غسل الأموال، وذلك للوقوف على حجم الظاهرة لوضع السياسات والآليات المناسبة للتعامل معها بالوقاية وبالعقاب.
7 ـ تعدد الأجهزة واللجان المختصة بمكافحة جرائم غسل الأموال، ما بين جهات أمنية ومالية ومصرفية، وتداخل اختصاصاتها، وعدم وضوح آليات التعاون والتنسيق بينها.
8 ـ عدم وجود محاكم متخصصة بالجرائم المالية والاقتصادية والأمنية مثل جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب؛ حيث إن المادة (26) من نظام مكافحة غسل الأموال تسند الاختصاص بجرائم غسل الأموال للمحاكم العامة.
9 ـ إن السياسة الجنائية المتبعة في السعودية لمواجهة جرائم غسل الأموال ترتكز بصفة أساسية من ناحية، على السياسة العقابية التي يُقررها نظام مكافحة غسل الأموال ولائحته التنفيذية؛ ومن ناحية أخرى، على ما تُقرره الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي وقعتها السعودية من سياسة وقائية ومنعية لمواجهة تلك الجرائم التي تتمثل فيما يتخذه النظام المالي من إجراءات فـي مواجهتها؛ بحيث يُمكن القول إن تلك السياسة الجنائية ستظل قاصرة ما لم يتم تنفيذ سياسة وقائية ومنعية متطورة فـي وسائلها، وأكثر شمولية من مجرد التدابير الاحترازية التي تستهدف مواجهة الخطورة الإجرامية التي تكشف عنها ظروف الجاني الشخصية، أو المرتبطة بارتكاب الجريمة.
10 ـ ظهور أساليب جديدة لغسل الأموال عن طريق الإنترنت أو باستخدام الهاتف الجوال، وتطور تلك الأساليب مع التقدم التقني؛ حيث يتم الغسل الإلكتروني في دقائق أو ثوان معدودة؛ فضلاً عن أن استخدام الإنترنت في القيام بتلك العمليات يعد أسهل وأيسر من التعامل مع البنوك؛ إذ بضغطة زر يقوم بها غاسل الأموال تفتح أمامه آفاق الدخول في حسابات وأنشطة مالية ومصرفية في أية جهة أو مؤسسة محلية أو أجنبية.
11 ـ تنوع مجالات ومصادر غسل الأموال بحيث لم تعد تقتصر على عمليات غسل أموال ناتجة عن الاتجار بالمخدرات؛ بل ظهرت مجالات جديدة لعمليات غسل الأموال مثل استخدام أقساط التأمين وسيلة للقيام بتلك العمليات وغيرها؛ الأمر الذي يخشى معه استخدام نشاط التأمين في القيام بهذه العمليات.
12 ـ نقص التدريب لدى بعض العاملين في المصارف والمؤسسات المالية والأمنية على الأساليب التي يتبعها غاسلو الأموال؛ حيث إن التدريب يكون عادة لفترات قصيرة ويغلب عليه الطابع النظري.
وسأتناول في مقال لاحق ـ إن شاء الله ـ توضيح كيفية التغلب على تلك المعوقات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي