التضخم وآثاره الاقتصادية في الاستثمار العقاري

يُلاحظ في الآونة الأخير أن هناك ارتفاعاً كبيراً في أسعار السلع والخدمات، ما يشير إلى وجود ما يعرف لدى الاقتصاديين بالتضخم، ويُقصد به وجود فائض من النقود بدرجة تفوق ما هو متاح من سلع وخدمات، أي زيادة المعروض من النقود على كمية السلع المعروضة في الأسواق، ما يترتب عليه انخفاض القوة الشرائية للنقود. وقد نشرت صحيفة "الاقتصادية" في عددها رقم5107 الصادر في 23/9/1428هـ أن معدل التضخم في السعودية سجل أعلى مستوياته في سبعة أعوام بعد أن ارتفع إلى 4.4 في المائة في آب (أغسطس) الماضي، وهي نسبة تقترب من معدل النمو الاقتصادي، كما أشار تقرير مصلحة الإحصاءات العامة إلى أن ارتفاع معدلات التضخم في السعودية تزامن مع ارتفاع الإيجارات بنسبة 9.8 في المائة نتيجة لتنامي الطلب على العقارات، وأسهم ربط العملة بالدولار الأمريكي الضعيف في تفاقم تكاليف واردات السعودية من المواد الغذائية، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 59 في المائة.
ومن الملاحظ كذلك أن هناك ارتفاعاً ملحوظاً أيضاً في أسعار العقارات (المباني والأراضي المعدة للبناء) الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة تتعلق بتحديد الآثار السلبية للتضخم، ومدى العلاقة الطردية بين أسعار السلع بصفة عامة وأسعار العقارات بصفة خاصة. فهل يترتب بالضرورة على ارتفاع أسعار السلع الغذائية وغيرها من السلع ارتفاع أسعار العقارات باعتبارها سلعة، أم أن العقارات تُعد سلعة من نوع خاص، ومن ثم فليس من الضروري أن يترتب على ارتفاع أسعار السلع والخدمات نتيجة للتضخم أن ترتفع أسعار العقارات.
الواقع أن للتضخم آثارا اقتصادية سلبية عديدة منها أنه يؤدي إلى عدم العدالة الاجتماعية لصالح الشرائح ذات الدخول المتغيرة، على حساب الشرائح ذات الدخول المنخفضة والثابتة؛ أي أنه يؤدي إلى إعادة توزيع الدخل الوطني للدولة، فيؤثر في توزيع الأنصبة النسبية للشرائح الاجتماعية المختلفة من الدخل الوطني. حيث تتسم مستويات الأجور النقدية بالتغير البطيء الذي لا يُجاري حركة أسعار المستهلك، ما يترتب عليه أن النصيب النسبي الحقيقي للعاملين في الدولة والشرائح ذات الدخل المحدود والثابت يأخذ في التدهور مع اشتداد موجات التضخم، فينتج عن ذلك حدوث تآكل حقيقي في النصيب النسبي للعاملين من الدخل الوطني. وفي مقابل ذلك يرتفع النصيب النسبي للشرائح التي تتسم دخولها بطابع التغير المستمر في غمار الموجات التضخمية المتتابعة، والتي تأخذ شكل الأرباح وغيرها من الدخول غير الثابتة أو ما يُعرف بعوائد أصحاب حقوق التملك.
ومن أهم الآثار الاقتصادية للتضخم كذلك أنه يؤثر في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ولكن بدرجات متفاوتة، من ذلك مثلاً تأثيره في الاستثمار في القطاع العقاري. ومن الملاحظ أن السعودية شهدت في السنوات القليلة الماضية طفرة من المضاربات في سوق العقارات تمثلت في عمليات شراء وبيع الأراضي والعقارات؛ فانتشرت عمليات تقسيم الأراضي والمساهمات العقارية بصورة غير مسبوقة، ما ترتب عليه ارتفاع أسعار المباني والعقارات في المدن، وزيادة الإقبال على الاستثمار العقاري نتيجة لزيادة معدل النمو السكاني، ونتيجة ارتفاع معدلات الدخول النقدية لبعض الشرائح الاجتماعية، وبسبب عودة جزء كبير من الرساميل الوطنية المهاجرة وتوجيهها للاستثمار في القطاع العقاري باعتباره من مجالات الاستثمار الآمن بعيداً عن التقلبات الاقتصادية، خاصة بعد الانهيار الذي شهدته السوق المالية. وساعد على ذلك أن هناك ثقافة سائدة مفادها أن العقار لا يموت بل يمرض فقط، أو أن أراضي البناء والعقارات مثل الذهب، فالمستثمر العقاري يرجح دائماً احتمال الربح أكثر من احتمال الخسارة، فضلاً عن أن اقتناء أراض للبناء وعقارات يُعد من أهم الأوعية الادخارية في الدول التي لدى مواطنيها مدخرات يريدون استثمارها، فليس هناك الكثير من الأصول التي توحي بالثقة والضمان الكافي أكثر مما يهيأه الاستثمار في العقارات، في حال انعدام روح المخاطرة وعدم وضوح الرؤية التنموية طويلة الأجل لدى أصحاب الرساميل.
ومن الملاحظ أيضاً أنه في ظل الارتفاع الجامح والمستمر لأسعار الأراضي والعقارات يختلط أثر المضاربة مع أثر التضخم البحت بطريقة يصعب الفصل بينها، أي أنه يصعب الفصل بدقة بين الأثر الذي ترتب على التضخم فيما يتعلق بزيادة أسعار العقارات والأثر المترتب على المضاربة في حد ذاتها بعيداً عن عامل التضخم.
ومع ذلك فإننا نرى أنه على الرغم من وجود عوامل وأسباب خاصة تحكم ارتفاع أسعار العقارات؛ إلا أن الارتفاع العام للأسعار كان وسيكون له تأثير مباشر في ارتفاع أسعار العقارات، ذلك أن ارتفاع الأسعار يترتب عليه ارتفاع الإيجارات، سواء أكانت إيجارات المساكن أم إيجارات المحال التجارية أم غيرها، ما يدفع بعض المستثمرين إلى توجيه استثماراتهم نحو الاستثمار العقاري واضعين في اعتبارهم أن هذا النوع من الاستثمار يحقق لهم ميزتين: الأولى: العائد المادي المتمثل في القيمة الإيجازية، والثانية: الارتفاع في قيمة العقار بطريقة قد تكون أسرع من الأرباح التي تحققها بعض المشاريع الاستثمارية.
ولهذا فإنه يترتب على ازدياد حدة الضغوط التضخمية ازدياد الميل الحدي لدى المستثمرين أصحاب الرساميل الصغيرة والمتوسطة إلى تفضيل العقار على النقد السائل، نتيجة انخفاض القوة الشرائية للأرصدة النقدية والذي يعني اتجاهاً واضحاً للتخلص من النقود، والتي تعد أقل الأصول المتاحة جاذبية لعجزها عن مواكبة حركة التضخم، ومن ثم تصبح العقارات بمثابة المخزن المفضل للقيمة أو الوعاء الاستثماري الأكثر أماناً، وذلك لأنه في ظل الظروف التضخمية هناك احتمال أكبر أن تتجه أثمان الأراضي والمباني إلى الارتفاع بمعدلات تفوق الزيادة التي تطرأ على هيكل أثمان السلع والخدمات بوجه عام.

المزيد من الرأي