مراكز بحث خليجية للأمن الاقتصادي

تناولت في مقال سابق موضوع السوق الخليجية المشتركة ومنظمة التجارة العالمية؛ وأتناول موضوعاً آخر وثيق الصلة بقيام تلك السوق الخليجية المشتركة وهو الأمن الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي, الذي يُعد قاسماً مشتركاً لهذه الدول ولمواطنيها والمقيمين فيها في آن واحد. ذلك أن هذه الدول تعيش طفرة اقتصادية غير مسبوقة، ولكن المحافظة على المستوى الاقتصادي والتقدم لمواطنها في المستقبل مسؤولية مشتركة؛ حيث يقع على عاتق المخططين الخليجيين أن يضعوا الاستراتيجيات المستقبلية التي تُحقق النمو المطرد للناتج الوطني لهذه الدول؛ مع الأخذ في الاعتبار أن حدوث أي ظاهرة اقتصادية في أية دولة من دول المجلس سيكون لها تأثير مباشر في اقتصادات باقي الدول الأعضاء فيه؛ نظراً لأن من مقتضيات السوق الخليجية المشتركة أن ترتبط اقتصادات تلك الدول ارتباطاً وثيقاً بحيث تشكل كتلة اقتصادية واحدة.
ولهذا فإنه يلزم وضع استراتيجية موحدة لحماية الأمن الاقتصادي؛ حيث تتضمن تحديداً للعلاقة بين الأمن بمفهومه العام، الذي يعني مكافحة الجرائم بجميع أنواعها وتعقب المجرمين وتقديمهم للمحاكمة وتنفيذ العقوبات الصادرة بحقهم بما يحقق فكرتي الردع العام والخاص, وبين الأمن الاقتصادي، ومدى تأثرهما بحالة الحرب التي يمكن أن تتعرض لها أي من هذه الدول وأثرها في استنزاف موارد الدولة التي تتعرض لتلك الحالة وآثارها في شقيقاتها من دول المجلس.
كما أن هذا يتطلب في المقام الثاني الاهتمام بإنشاء مراكز بحثية في دول مجلس التعاون الخليجي تختص بدراسة الظواهر الأمنية وأثرها في اقتصادات تلك الدول؛ حيث يكون من بين مهامها الرئيسة وضع التصورات والرؤى للتحديات الاقتصادية التي تواجه دول المنطقة، وإبرازها أمام صانعي القرار الاقتصادي الخليجي المشترك. ومن أهم المسائل التي يمكن أن تهتم بها تلك المراكز الاقتصادية البحثية كذلك دراسة موضوع التضخم وأثره في مستوى معيشة المواطن والمقيم وأمنه الاقتصادي، ووضع الحلول العملية لمواجهته في المديين القريب والبعيد. فإذا كان هناك ارتفاع عالمي للأسعار؛ فإن هناك خصوصية في دول مجلس التعاون تتمثل في أن هذه الدول تتبع سياسة اقتصادية لمعالجة ارتفاع الأسعار فيها ترتكز على زيادة الأجور والرواتب للموظفين والعاملين في الجهات الحكومية؛ ولكن هذا النهج، على الرغم مما يؤدي إليه من أثر ظاهري ومباشر في مواجهة ارتفاع الأسعار، إلا أنه لا يُقدم حلاً اقتصادياً جذرياً لظاهرة التضخم؛ ذلك أن التضخم يؤدي إلى إعادة توزيع الدخل الوطني من خلال تأثيره في توزيع الأنصبة النسبية للشرائح الاجتماعية المختلفة من هذا الدخل الوطني. فمستويات الأجور النقدية تتسم عادة بالتغير البطيء الذي لا يجاري حركة أسعار السلع التي يفضل المستهلك شراءها؛ ومن ثم يترتب على ذلك أن النصيب النسبي الحقيقي لأصحاب الأجور والمعاشات وغيرهم من أصحاب الدخول الثابتة يأخذ في التدهور مع اشتداد موجات التضخم؛ الأمر الذي ينتج عنه حدوث تآكل حقيقي في النصيب النسبي لأصحاب هذه الدخول. وفي مقابل ذلك يرتفع النصيب النسبي لشرائح اجتماعية أخرى في الدخل الوطني, وهي تلك الشرائح التي تتسم دخولها بطابع التغير المستمر في غمار الموجات التضخمية المتتابعة، والتي تأخذ شكل الأرباح الناتجة عن الاستثمار المباشر أو الاستثمار في الأسهم والسندات. ولهذا فإن دراسة ظاهرة التضخم في دول مجلس التعاون تهدف إلى التعرف على الأسباب الحقيقية لها ووضع استراتيجية موحدة لمعالجتها بما يحقق الأمن الاقتصادي الحقيقي للمواطنين؛ ويحقق المساواة بينهم أو ما يُطلق عليه فريق من الاقتصاديين "السلام الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع" في مواجهة تلك الظاهرة.
ومن أهم الجوانب التي يمكن أن تهتم بها تلك المراكز البحثية دراسة قنوات الاستثمار الأفضل على المدى البعيد في دول المجلس؛ ذلك أن عدداً كبيراً من مواطني هذه الدول قد اتجه في السنوات الأخيرة إلى الاستثمار في أسواق الأسهم مما ترتب عليه تحقيق مكاسب كبيرة للبعض منهم؛ على حين تعرض الكثير منهم لخسارة فادحة. واتجه فريق آخر من المستثمرين إلى الاستثمار في العقارات؛ اعتقاداً أنه لا يوجد من الأصول المالية التي توحي بالثقة والضمان الكافي أكثر مما يُهيئه الاستثمار في المباني والأراضي. إذ إنه في حال انعدام روح المخاطرة وعدم وضوح الرؤية التنموية طويلة الأجل، فإن المدخرين عادة ما يتجهون إلى اقتناء الأصول المضمونة لاستثمار أموالهم فيها. ومع اشتداد حدة الضغوط التضخمية, ومع التقلبات الحدية التي يتعرض لها الاستثمار في الأسواق المالية، يزداد الميل الحدي لدى الأفراد لتفضيل العقار على النقد السائل، نتيجة انخفاض القوة الشرائية للأرصدة النقدية؛ الذي يعني اتجاهاً واضحاً للتخلص من النقود، التي تعد أقل الأصول المتاحة جاذبية لعجزها عن مواكبة حركة التضخم، ومن ثم تصبح الأراضي والعقارات هي "المخزن المفضل للقيمة"، نظراً لأنه في ظل الظروف التضخمية هناك احتمال أكبر أن تتجه أثمان الأراضي والمباني إلى الارتفاع بمعدلات تفوق الزيادة التي تطرأ على هيكل أثمان السلع والخدمات بوجه عام. وبذلك تصبح آليات التضخم والمضاربات واحدة ومتداخلة كجزء من عملية ديناميكية واحدة يُغذي كل منها الآخر.
وهناك قضية أخرى مهمة في مجال الأمن الاقتصادي وهي قضية الاحتكار التي تعد من أبرز القضايا التي تعاني منها بعض القطاعات الاقتصادية في بعض دول الخليج العربية؛ حيث تسعى بعض الشركات الكبرى إلى احتكار أنواع معينة من السلع والخدمات الأساسية والتحكم في أسعارها، الأمر الذي ينعكس سلباً على الأمن الاقتصادي للمواطن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي