أسباب ظاهرة التسول وآثارها الاقتصادية (1)

من الملاحظ انتشار ظاهرة التسول وازديادها في شهر رمضان؛ حيث يستعمل بعض ممتهني هذا العمل ميل المسلمين إلى فعل الخير والإحسان إلى الفقراء والمساكين فيعمدون إلى استخدام الوسائل الاحتيالية كافة التي تمكنهم من تجميع أكبر قدر ممكن من الأموال. ولا شك أن لهذه الظاهرة آثارها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي سنوضحها ثم نقترح بعض الحلول التي تكفل مكافحتها.
ويُشير التقرير السنوي الإحصائي الصادر عن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إلى أن إجمالي عدد المتسولين في خمس سنوات (من عام 1415 هـ حتى عام 1419 هـ) قد بلغ (92.467) حالة تسول, وكشفت دراسة ميدانية أجراها مكتب مكافحة التسول في منطقة عسير خلال الأشهر الماضية في مدن ومحافظات وقرى المنطقة أن 70 في المائة من الأجانب، و30 في المائة منهم سعوديون. وتشير الإحصائيات الحديثة الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية إلى أن نسبة السعوديين من المتسولين تصل إلى 17 في المائة و38 في المائة، بينما تراوح نسبة غير السعوديين من هم بين 62 في المائة و83 في المائة. (صحيفة "عكاظ" في عددها الصادر يوم الأربعاء 14/09/1428هـ العدد: 2292).
وفي الحقيقة إن ظاهرة التسول ليست مقصورة على المجتمع السعودي, بل هي ظاهرة قائمة في المجتمعات كافة, ولكنها تختلف من مجتمع لآخر كما تختلف أسبابها, ومن أهم أسبابها: تفكك الأسرة وقسوتها وتمزق أوصالها, حيث يهرب الأطفال إلى الشارع ويجدون في التسول ضالتهم للحصول على المال بطريقة سهلة لتحقيق مطالبهم؛ ويُعد الفقر أحد أهم أسباب التسول, حيث تدفع الحاجة بعض الأطفال أو النساء أو الرجال إلى امتهان التسول وسيلة لتعويض الحرمان من المال. وتُعد القدوة السيئة من أسباب التسول كذلك, فتؤثر في بعض الأشخاص فتدفعهم إلى التسول, فمثلاً قد يجد الصبي أباه أو أمه يمتهنان التسول فيقلدهما خصوصاً مع علمه بالمردود المادي المرتفع الذي يجنياه من مهنتهما. ولرفقاء السوء دور مهم في انتشار الظاهرة بين الأطفال؛ فيجد الطفل في البيئة الاجتماعية المحيطة به في المنزل أو في الشارع أو المدرسة بعض الضالعين في التسول الذين يحاولون اجتذابه للتسول, بأن يظهروا له أنه الطريق السريع والسهل للحصول على المال ويحكي كل منهم تجربته الشخصية فتكون أقوى في الإقناع. وينتشر التسول عادة بين الشرائح الاجتماعية غير المتعلمة؛ إذ لا يُدرك المتسول تماماً مفهوم القيم الاجتماعية, بل إنه يضع أمامه هدفاً يتمثل في الحصول على المال بأية وسيلة لتعويض الحرمان الذي يُعانيه. كما أن ضعف الوازع الديني يجعل تصرفاته غير متوازنة ولا يوجد رادع له فيفعل أي عمل دون البحث عما إذا كان حلالاً أم حراماً.
وتُشير بعض الدراسات الاجتماعية التي أجريت على بعض فئات العمالة الوافدة إلى أنها تسعى ـ ولاسيما غير المتعلمين منهم ـ إلى الحصول على المال بأسرع الطرق وبأية وسيلة, دون النظر إلى قضية العيب أو مراعاة القيم الاجتماعية أو مبادئ الشريعة الإسلامية السامية, حتى إن بعضهم يستغل وجوده في الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ويسعى للتسول لجمع الأموال مستغلاً تسامح الحجاج والمعتمرين, وكثرة أعدادهم, وصعوبة اكتشاف شخصيته بينهم ليحقق الأموال ويعود بها إلى وطنه.
وتترتب عن التسول أضرار اقتصادية واجتماعية وأمنية؛ فعلى الرغم من أن هذه الظاهرة لا تزال مشكلة فردية, إلا أنها تُعتبر نتاج تلك المتغيرات التي واكبت النمو الاقتصادي الهائل الذي شهدته السعودية, وما نتج عنه من نمو حضاري وانفتاح على ثقافات العالم الخارجي واستقدام العمالة الأجنبية التي تحمل معها ثقافات وتقاليد وقيم مختلفة لا يجمع بينها سوى قاسم مشترك واحد هو أن هدفها جمع المال والعودة به إلى بلادها.
فمن الناحية الاقتصادية يترتب على التسول تجميع أموال ضخمة وتركيزها في يد فئة جاهلة غير واعية, يتم تهريب جزء كبير منها إلى خارج البلاد. ففي دراسة ميدانية متخصصة قدرت العام الماضي عدد المتسولين في المملكة بأكثر من 150 ألف متسول. وأن حجم الإنفاق السنوي على هؤلاء المتسولين أكثر من 700 مليون ريال، وحسب دراسات اقتصادية فإن تحويلات العمالة الرسمية، أي التي لديها إقامة وتعمل في المؤسسات، تقدر بنحو 20 مليار دولار وبذلك تُسهم ظاهرة التسول في نزيف الأموال وتهريبها إلى الخارج. وما يؤكد وجود أضرار اقتصادية محققة لظاهرة التسول هو أن كثيراً من المتسولين أصبحوا من أصحاب الملايين, وفي تحقيق أجرته إحدى الصحف السعودية ذكرت فيه أن أحد المتسولين في مدينة الرياض أكد أنه قد يحصل على أربعة آلاف ريال في كل يوم من أيام شهر رمضان, وقد تزيد هذه الحصيلة في العشر الأواخر منه؛ ما يعني أنه يحصل على مبلغ 120 ألف ريال في هذا الشهر, فإذا استمر على هذا النمط لمدة تسعة أشهر فقط من العام فإنه يُمكن أن يُحقق 1.080000 ريال, وبذلك يُصبح من أصحاب الملايين خلال مدة قصيرة جداً لا تصل إلى عام , دون أي مجهود. كما أن انتشار ظاهرة التسول يمكن أن يُشيع لدى بعض الشرائح الاجتماعية نزوات الحصول على المال بأية طريقة, ما يُشجع على الكسل وعدم الرغبة في العمل المنتج, فضلاً عن ذلك فإن انتشار ظاهرة التسول يؤدي إلى تشويه الوجه الحضاري للبلاد وخاصة الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة, إذ يُعطي انطباعاً ظاهرياً بوجود حالات فقر وبؤس في البلاد على الرغم من وجود أموال الزكاة والتبرعات الضخمة التي يقدمها مواطنو هذه البلاد الطيبة.
وفي مقال لاحق سنُوضح كيفية التصدي لظاهرة التسول وعلاجها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي