الرأي المناهض لاعتبار لجنة تسوية المنازعات المصرفية لجنة قضائية

عطفاً على مقالنا السابق الذي تناولت فيه الحجج التي أدلى بها أنصار الرأي المؤيد لاعتبار لجنة تسوية المنازعات المصرفية لجنة قضائية قراراتها ملزمة للخصوم، وفي المقابل أوضح فيما يلي الحُجج التي يستند إليها أنصار الرأي المعارض الذي ينكر عليها هذا الوصف القضائي، ويعدها مجرد لجنة إدارية تتولى عملية التسوية للمنازعات المصرفية، ولا تعد أحكامها أحكاماً قضائية ملزمة للخصوم، إذ إن سلطتها تقتصر على مجرد محاولة التوفيق بينهم دون إلزام لأحدهم بما تتوصل إليه، وتتوقف قوة وفاعلية قراراتها على رضاهم بها:
الحجة الأولى: أن هذه اللجنة ليست جهة بت وإصدار قرار ملزم للأطراف، وإنما جهة توفيق وتسوية بين أطراف النزاع. ومن المعلوم أن "تسوية" النزاع تختلف اختلافاً جذرياً عن "إصدار قرار ملزم للبت فيه"؛ فالأولى تتم برضا الأطراف، بعد التقريب بين وجهة نظر كل منهم، ولا تكتسب صفة الإلزامية إلا إذا اتفق الأطراف عليها؛ أما الثانية فتتم بصدور قرار حاسم للنزاع وملزم لأطرافه سواء رضي به الأطراف أم لم يرضوا.
الحجة الثانية: لا يُمكن اعتبار هذه اللجنة محكمة مختصة بالنظر والحكم في المنازعات المصرفية، إذ لا يجوز لها النظر في القضايا المرفوعة أمامها بمجرد عرضها عليها؛ وإنما يلزم أولاً صدور توجيه من المقام السامي بذلك؛ حيث تضمن الأمر السامي الصادر بإنشائها وتحديد اختصاصاتها، أمراً صريحاً للجنة برفع جميع ما يُقدم إليها من قضايا إلى ديوان رئاسة مجلس الوزراء قبل معالجتها من قبلها؛ ما يعني وجوب صدور موافقة مسبقة من مقام ديوان مجلس الوزراء على قيام اللجنة بالنظر في أية قضية تُعرض عليها؛ كما أن الأمر السامي المشار إليه ينص صراحة على إحالة النزاع إلى المحكمة المختصة إذا قرَّرت اللجنة عدم توصُّلها إلى تسوية مرضية؛ ما يعني أنها ليست محكمة مُختصة بإصدار أحكام نهائية.
الحجة الثالثة: أن الحكمة من تشكيل هذه اللجنة هي إيجاد وسيلة ابتدائية توفيقية لتسوية النزاعات التي تثار بين البنوك وعملائها، والدليل على ذلك أن الأمر السامي المذكور ينص على أن اللجنة إذا قررت عدم توصلها إلى تسوية مرضية للطرفين يُحال النزاع إلى المحكمة المختصة للبت فيه، ما يستفاد منه أنه لو أراد المنظم أن يجعل الاختصاص بتسوية النزاعات المصرفية والبت فيها، اختصاصاً قاصراً على هذه اللجنة وحدها لنص على ذلك بشكل واضح وصريح، ولما نص على إحالة النزاع إلى المحكمة المختصة في حال عدم توصل اللجنة إلى تسوية، ولكنه جعل صلاحية اللجنة المذكورة هي التسوية فقط؛ حيث يكون هناك أحد فرضين: الأول: أن تتوصل اللجنة إلى تسوية ودية للنزاع ويرضى بها الطرفان وهنا ينتهي الأمر، والثاني: أن تقرر اللجنة عدم التوصل إلى تسوية، ففي هذا الفرض يتم إحالة النزاع إلى المحكمة المختصة أصلا بنظره، وذلك حسب طبيعة النزاع مدنياً كان أو تجارياً.
الحجة الرابعة: حجة عملية مفادها أن قرارات هذه اللجنة إذا عُرضت على كل المحاكم العامة وديوان المظالم فيُكّيفها القضاء على أن قراراتها ليست إلا قرارات تسوية، ومن ثم فلا قول بعد قول القضاء العادي والإداري، والدليل على ذلك أن الدائرة التجارية الثانية في ديوان المظالم السعودي قد أصدرت أخيرا في كانون الأول (ديسمبر) عام 2008م حكماً قضائياً أكدت فيه أن هذه اللجنة ليست جهة قضائية أو شبه قضائية، وإنما هي لا تعدو أن تكون جهة إدارية بحتة، وأن الأمر الملكي القاضي بإحداث تلك اللجنة لم يمنحها الحق في فصل أي نزاع بين البنوك وعملائها، حيث كلفها فقط بدراسة هذه النزاعات، والسعي إلى تسوية ترضي الطرفين؛ كما أكدت أن قرارات هذه اللجنة لا تمنع أي جهة قضائية تجارية من نظر النزاع الذي سبق للجنة أن نظرت فيه، إلا في حالة توصل اللجنة بالفعل إلى تسوية مرضية للطرفين. وقد استند هذا الحكم الصادر في إحدى قضايا المستثمرين ضد بنك محلي، إلى عدة أسباب منها: أن أعضاء اللجنة ليسوا قضاة، ولا يُعينون وفق السلم الوظيفي الذي يُعين عليه القضاة، كما أنهم لا يخضعون ولا يتمتعون بحصانة القاضي، حيث إن أعضاء اللجنة يُعينون بقرار يصدر عن مجلس الوزراء، في حين يُعين القضاة بمرسوم ملكي. كما أن أعضاء اللجنة ـ وخلافا للقضاة ـ لا يترقون في سلمهم الوظيفي على درجات وظيفية، وتجري مساءلتهم كسائر الموظفين العاديين أمام هيئة الرقابة والتحقيق، في حين تجري مساءلة القضاة المسلكية، إما أمام مجلس القضاء الأعلى بالنسبة لقضاة المحكمة العامة أو الجزئية، وإما أمام لجنة تأديبية خاصة بالنسبة لقضاة ديوان المظالم، وبناء عليه فإن الاعتراض على قرارات تلك اللجنة ـ حسبما جاء بأسباب هذا الحكم الصادر عن الدائرة التجارية الثانية ـ لا يعدو أن يكون تظلماً من قرار إداري أمام الجهة الإدارية التي أصدرته، وهذا يؤكد كونها مجرد لجنة إدارية لا أكثر ولا أقل، كما أن هذا الحكم قد اعتبر أن موقع هذه اللجنة في التسلسل الهيكلي والإداري يجعلها تابعة لمؤسسة النقد العربي السعودي التابعة أصلاً لوزارة المالية، مشيراً إلى أن هاتين الجهتين من الجهات الإدارية بلا خلاف، حيث إن القاعدة أن التابع تابع، والأصل أنه لا يصح أن تكون هناك جهة إدارية تحتضن أو تتبع لها جهة قضائية، لما يؤدي إليه هذا الأمر من خرق لمبدأي فصل السلطات واستقلال القضاء، إلا إذا كانت هناك نصوص نظامية صريحة وقطعية تخول بعض اللجان بعض المهام القضائية.
ونتابع باقي الحجج ورأينا في الموضوع بعد الموازنة بين الرأيين في المقال اللاحق ـ إن شاء الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي