خلال 12 شهرا فقط، قفز حجم سوق البناء للتأجير في أستراليا 35% محققا قيمة رأسمالية تتجاوز 30 مليار دولار، وفقا لتقرير نشره المجلس العقاري الأسترالي أغسطس الماضي.
قبل تلك الفترة، كان حجم هذه السوق عند 21 مليار دولار فقط، وكانت توفر 29 ألف وحدة سكنية، مقارنة بما يقرب من 30 ألف شقة في الوقت الحالي.
النموذج، الذي أعلنت وزارة الإسكان السعودية في وقت سابق أنها ستعمل مع NHC وشركات تطوير أخرى لإطلاق برنامج له من أجل زيادة المعروض، يقدر حجم سوقه عالميا بنحو 670 مليار دولار، وفقا لشركة "Addleshaw Goddard" البريطانية، التي تقدم استشارات لأكثر من 5000 جهة في أنحاء العالم.
يصف مختصون عقاريون تحدثوا لـ "الاقتصادية" هذا النموذج العقاري بأنه تحول اقتصادي وتنظيمي يُعيد تشكيل السوق السعودية نحو مزيد من الاتزان والمهنية واستدامة النمو.
من أين بدأت الحكاية؟
ظهر نظام "البناء للتأجير" كنموذج حديث عام 2008 إبان الأزمة المالية العالمية، استجابة لتغير ديناميات سوق الإسكان، لكنه بدأ يحقق زخما في أوائل العقد الثاني من هذا القرن الحالي. وفي عام 2012 أسست بريطانيا صندوقا خاصا باسم "صندوق البناء للتأجير".
وصل حجم سوق الإسكان القائمة على هذا النموذج في المملكة المتحدة إلى مستوى قياسي بلغ 5.2 مليار دولار العام الماضي، بزيادة 11% على أساس سنوي، ليستحوذ على 13% من حجم السوق العقارية.
أما في الولايات المتحدة، فتشير أحدث إحصاءات شركة الخدمات العقارية العالمية "Cushman and Wakefield" إلى أن حجم مبيعات هذه السوق سجل زيادة بنسبة 40% في عام 2023 مقارنة بعام 2019.
يؤكد حمود سعود السبيعي، مؤسس منصة "حصتك" للتملك الجزئي في العقار، أن مشاريع "البناء للتأجير في المملكة المتحدة "شكلت ركيزة في حل أزمة الإيجارات".
وقال لـ "الاقتصادية": "إن هذا النموذج ساعد على بناء مجمّعات سكنية ذات جودة عالية بأسعار مستقرة نسبيًا، ومكّن الحكومة من خفض متوسط الإيجارات بنسبة تتجاوز 12% في بعض المناطق".
كيف تؤثر المأسسة في الإيجارات؟
يتوقع السبيعي أن يُسهم هذا النموذج في زيادة المعروض الإيجاري من قبل المؤسسات، ويقلل الاعتماد على "السوق الفردية العشوائية" عبر الدفع نحو المهنية والاحترافية في إدارة الوحدات السكنية.
وإلى جانب رفع جودة الحياة للمستأجرين، يرى الخبير العقاري أن هذا النموذج يخفف حدة تقلبات الإيجارات، فضلا عن فتح أبواب لفرص استثمارية طويلة الأجل لشركات التطوير العقاري والصناديق الاستثمارية.
في السعودية، يهدف برنامج "بناء للتأجير" الذي أعلنت عنه وزارة الإسكان مع "NHC" إلى أن يكون هذا النموذج أداة جديدة لزيادة المعروض العقاري وتوسيع الخيارات أمام المواطنين والمستثمرين في بناء وحدات مخصّصة للإيجار، على مستوى الشركات الكبرى في القطاع العقاري السعودي.
السبيعي يصف هذا البرنامج، الذي يستهدف بناء آلاف الوحدات السكنية، بأنه "خطوة واثقة نحو تطوير سوق الإيجار السكني، وقفزة إستراتيجية طال انتظارها".
هل ينجح النموذج في السعودية؟
يؤكد السبيعي أن نجاح التوجه للبناء بغرض الإيجار يتطلب شراكات حقيقية مع القطاع الخاص من أجل أن يؤتي ثماره "بحيث يكون المطور جزءًا من الحل، لا مجرد منفذ".
ويرى أن نجاح هذا النموذج يستلزم أيضا دعما حكوميا يشمل توفير أراضٍ ميسّرة ومدعومة، خاصة في المدن ذات الطلب العالي، وحوافز تمويلية وتنظيمية لتشجيع المستثمرين على الدخول في النموذج.
وقال: "في أستراليا، قدمت الحكومة حوافز للمطورين لإنشاء وحدات للتأجير، ما أسهم في إعادة ضبط تسعير السوق وتحفيز المستثمرين على تبني نموذج العائد طويل الأجل بدلا من المضاربة قصيرة المدى".
يؤكد الخبير العقاري كذلك أهمية الدمج الرقمي الكامل مع منصات مثل "إيجار"، "بلدي"، و"سكني" لتعزيز الشفافية، وفتح المجال مستقبلاً لمنتجات هجينة بين الإيجار والتملك، مثل الإيجار المنتهي بالتمليك، أو التملك الجزئي عبر صناديق عقارية أو منصات مرخصة.
رضا المطرفي، مؤسس منصة ذكي العقارية، يرى بدوره أن البرنامج خطوة نوعية تعكس نضج السوق العقارية السعودية.
ولـ "الاقتصادية" قال: "إن وجود وحدات سكنية حكومية مخصصة للتأجير يخفف الضغط على الأسعار، ويخلق توازناً طالما انتظره المستأجر والمستثمر معاً على المدى القصير قد يحدّ من المبالغات في التأجير اليومي".
أما على المدى البعيد، فيتوقع أن يدفع السوق للتوجه نحو عقود سنوية أكثر استقراراً.
لكنه في الوقت ذاته يؤكد أن نجاح البرنامج مرهون بوضوح اللوائح، وحسن إدارة هذه الوحدات، بما يضمن استدامتها وخدمتها للمواطن بجودة عالية.
ويؤكد أن الأثر الإيجابي الأبرز هو تعزيز الثقة بسوق الإيجار، وتحويلها من حل مؤقت إلى خيار سكني حقيقي يوازي التملك.
هل يمكن أن يستخدم البرنامج كأداة مضاربة؟
بينما يسلط المستثمر الهندسي والخبير في المجال العقاري عمر صبور الضوء على إيجابيات التوجه، ومن بينها زيادة المعروض وخفض الأسعار وتحسين الجودة واستقرار العلاقة التعاقدية، فإنه يشدد على ضرورة وجود آلية لتحديد الفئات المستهدفة وضمان عدم تحول البرنامج إلى أداة للمضاربة العقارية.
لـ "الاقتصادية" قال: "إن نجاح هذه البرامج يعتمد على وضوح التشريعات، والشراكة مع القطاع الخاص، والرقابة على الجودة والأسعار".
يستشهد صبور بأهم التجارب العالمية، مثل ألمانيا، التي تعتمد على شركات تطوير عقاري لبناء وحدات للإيجار طويل الأجل، توفر استقرارا في الأسعار بفضل وفرة المعروض.
ويشير إلى إجراءات تتبناها الدول التي تطبق هذا النموذج، مثل ألمانيا تدعم حكومتها المطورين عبر إعفاءات ضريبية وتمويل منخفض الفائدة.
أما في سنغافورة، فنبني الدولة وحدات سكنية وتؤجرها بأسعار مدعومة، تضمن جودة البناء وتوزيعا عادلا حسب الحاجة، ما أسهم هذا في خفض نسبة الفقر السكني وتحقيق استقرار اجتماعي.
في فرنسا، توفر البلديات وحدات للإيجار بأسعار منخفضة للفئات المتوسطة والمحدودة الدخل، تُموّل جزئيًا من الضرائب وتدار بشفافية عالية، ضمن ما يعرف بالإسكان الاجتماعي "Logement Social"، بحسب صبور.

