الاقتصاد العالمي 2015

Author

بأي سرعة قد تنمو الصين؟

|
في السنوات الـ35 التي مرت منذ بدأ تحول الصين إلى اقتصاد السوق، سجلت البلاد نموا سنويا بمعدل 9.8 في المائة في المتوسط ــ وهو ارتفاع غير عادي وغير مسبوق. ولكن هناك دلائل تشير إلى أن المعجزة الصينية تقترب من نهايتها ــ أو تشير على الأقل إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في البلاد. كان معدل نمو الصين في هبوط منذ الربع الأول من عام 2010. وفي الربع الثالث من عام 2014، كان النمو هزيلا نسبيا بمعدل 7.3 في المائة. ومع اقتراب عام 2014 من نهايته، فمن المرجح أن يستمر النمو الاقتصادي في الصين في مواجهة رياح معاكسة شديدة، على الأقل مقارنة بالعقود السابقة. وعندما يعكف صانعو السياسات في البلاد على إعداد الخطة الخمسية الثالثة عشرة، فمن المنتظر أن يواجهوا مسألة جوهرية، ما السرعة التي من المتوقع أن تنمو بها الصين؟ في تحديد هدف الناتج المحلي الإجمالي لأي بلد، فلا بد أولا من فهم معدل النمو المحتمل لاقتصادها، الوتيرة القصوى للتوسع، التي يمكن تحقيقها، على افتراض أن كل الظروف مواتية داخلياً وخارجيا، من دون تعريض استقرار واستدامة النمو في المستقبل للخطر. يقول آدم سميث في كتابه "استكشاف في طبيعة وأسباب ثروات الأمم"، إن النمو الاقتصادي يعتمد على تحسين إنتاجية العمل، وهو ما يأتي اليوم إما نتيجة للإبداع التكنولوجي أو التطوير الصناعي (إعادة توزيع القدرة الإنتاجية إلى قطاعات جديدة ذات قيمة مضافة أعلى). ولكن البلدان المتقدمة التي بلغت أقصى حدود الإبداع ليست في وضع موات. فهي لكي تستفيد من التكنولوجيا الجديدة، لا بد أن تخلقها. أما البلدان النامية فهي على النقيض من ذلك تتمتع "بميزة القادم المتأخر"، لأنها قادرة على تحقيق التقدم التكنولوجي من خلال التقليد، والاستيراد، والتكامل، والترخيص. ونتيجة لهذا، فإن التكاليف والمجازفات التي تخوضها أقل. فعلى مدى السنوات الـ 50 الماضية، كانت الاقتصادات المتقدمة تنمو بمعدل 3 في المائة سنويا في المتوسط، في حين حققت بعض البلدان النامية معدلات نمو سنوية بلغت 7 في المائة أو أعلى لفترات بلغت 20 عاما أو أطول. ولكي نحسب حجم ميزة القادم المتأخر التي حصلت عليها الصين بعد 35 عاما من النمو غير المسبوق، فعلينا أن ننظر في الفجوة بين مستويات تطورها التكنولوجي والصناعي ونظيراتها في الدول ذات الدخل المرتفع. وأفضل وسيلة لرؤية هذه الفجوة هي المقارنة بين نصيب الفرد لديها في الدخل معدلاً وفقاً لتعادل القيمة الشرائية وبين نصيب الفرد في الدخل في البلدان المتقدمة. وكلما كانت الفجوة في نصيب الفرد في الدخل أكبر، كانت ميزة القادم المتأخر أكبر وازدادت احتمالات النمو. في عام 2008، كان نصيب الفرد في الدخل في الصين أعلى قليلا من 20 في المائة من نظيره في الولايات المتحدة. وهذه الفجوة تعادل تقريباً الفجوة بين الولايات المتحدة واليابان في عام 1951، والتي سجلت بعدها اليابان نموا بمعدل سنوي بلغ في المتوسط 9.2 في المائة على مدى الأعوام الـ20 التالية، أو الفجوة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في عام 1977، التي بعدها سجلت كوريا الجنوبية نموا بمعدل سنوي بلغ في المتوسط 7.6 في المائة طيلة عقدين من الزمان. وكانت الفجوة لدى سنغافورة في عام 1967 وتايوان في عام 1975 مماثلة ــ وأعقبتها معدلات نمو مماثلة. وبالقياس، فإن الصين في السنوات الـ20 التالية لعام 2008، لا بد أن يكون معدل نموها المحتمل 8 في المائة تقريبا. غير أن النمو المحتمل مجرد جزء من القصة. ذلك أن تحقيقه يعتمد على الظروف الداخلية والبيئة الدولية. ولكي تتمكن الصين من استغلال ميزة القادم المتأخر، فيتعين عليها أن تعمل على تعميق الإصلاحات وإدارة التشوهات المتبقية في اقتصادها. ومن ناحية أخرى، يتعين على الحكومة أن تلعب دورا استباقيا في التغلب على إخفاقات السوق ــ مثل العوامل الخارجية والمشاكل المرتبطة بالتنسيق ــ والتي تصاحب الإبداع التكنولوجي والتحديث الصناعي بكل تأكيد. والصين لديها القدرة على الحفاظ على النمو القوي من خلال الاعتماد على الطلب المحلي ــ وليس فقط الاستهلاك الأسري. ولا تفتقر الصين إلى فرص الاستثمار، فضلا عن مجال كبير للتحديث الصناعي ووفرة من إمكانات تحسين البنية الأساسية الحضرية، والإسكان العام، وإدارة البيئة. وعلاوة على ذلك، تتسم موارد الاستثمار في الصين بالوفرة. ومجموع ديون الحكومة المركزية والحكومات المحلية لا يتجاوز 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي ــ وهو مستوى منخفض بالمعايير الدولية. وفي الوقت نفسه تقترب المدخرات الخاصة في الصين من 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، كما بلغت احتياطياتها من النقد الأجنبي أربعة تريليونات دولار أمريكي. وحتى في ظل ظروف خارجية غير مواتية نسبيا، فإن الصين قادرة على الاعتماد على الاستثمار لخلق فرص العمل في الأمد القريب؛ ومع نمو عدد الوظائف ينمو الاستهلاك أيضا. ولكن السيناريو الخارجي أكثر قتامة. فبرغم تدخل السلطات في البلدان المتقدمة بقوة في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، بإطلاق تدابير تحفيزية مالية ونقدية كبيرة، فإن عديدا من أوجه القصور البنيوية لديها تظل بلا حل. حتى الآن، لم يُسفِر "اقتصاد آبي" عن نتائج ملموسة، ويسير البنك المركزي الأوروبي على خطى أمريكا واليابان، فيواصل التيسير الكَمي في محاولة لدعم الطلب. ويشهد تشغيل العمالة في الولايات المتحدة بعض النمو، ولكن معدل المشاركة في قوة العمل يظل متواضعا، ولم يحقق الاقتصاد بعد معدل النمو بنسبة 6 في المائة إلى 7 في المائة، الذي يسجل عادة في فترات الارتداد بعد الركود. ومن المرجح أن يستمر تباطؤ الأداء في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وهو ما من شأنه أن يثبط نمو صادرات الصين. ومن المرجح نتيجة لهذا أن يهبط النمو الصيني إلى ما دون مستوى النمو السنوي المحتمل (8 في المائة). وفيما يخطط صناع السياسات للسنوات الخمس المقبلة، فيتعين عليهم أن يحددوا أهداف النمو الصيني بمعدل 7 في المائة إلى 7.5 في المائة، وتعديلها ضمن هذا النطاق وفقا لما يمليه المناخ الدولي. ومن الممكن أن تساعد أهداف النمو هذه على تثبيت استقرار تشغيل العمالة، والحد من المخاطر المالية، وتحقيق هدف البلاد المتمثل في مضاعفة دخلها بحلول عام 2020.
إنشرها
Author

مستقبل الغاز في خريطة الطاقة العالمية

|
تشهد خريطة صناعة الغاز العالمية تغييراً جوهريا. مع ارتفاع وتيرة الاكتشافات الجديدة وتزايد مصادر الطلب على الغاز من المحتمل جدا أن تبرز تسعيرة عالمية للغاز أكثر تنافسية. إن الاكتشافات الجديدة والنمو السريع في إنتاج الغاز الصخري وغيره من المصادر غير التقليدية يبشران بتحولات كبيرة في أسواق الطاقة العالمية، حيث إن عمر الاحتياطي المثبت للغاز العالمي قد تجاوز الآن 250 عاما من الطلب العالمي الحالي مدعوما بمصادر الغاز غير التقليدية مثل الغاز الصخري. لذلك، حتى مع الارتفاع الحاد في الطلب الآسيوي على الغاز، فإن حجم الإمدادات ينذر بتزايد المنافسة بين مصدري الغاز، التي قد تعمل على تضييق الفروقات بين أسعار الغاز الإقليمية وربما تتعرض أسعار عقود الغاز الطبيعي المسال إلى ضغوط تنازلية. المحرك الرئيس لتوقعات أسواق الغاز العالمية في المستقبل هو قدرة الصين على الاستفادة من الطاقات الإنتاجية الإضافية وبأسعار تسمح لها بإحلال الغاز محل الفحم في محطات توليد الطاقة، في هذا الصدد، سيكون لروسيا ودول بحر قزوين الأخرى ميزة استراتيجية، حيث إن انخفاض تكاليف الإنتاج سيمكنها من المنافسة القوية في الأسواق الآسيوية. بلغ إنتاج الغاز العالمي 3.37 تريليون متر مكعب في عام 2013 أي ما يعادل نحو 60 في المائة فقط من إنتاج النفط المكافئ وأقل من 30 في المائة من حيث القيمة. الشيء نفسه ينطبق على حجم التبادل التجاري العالمي للغاز، حيث بلغ 18.7 مليون برميل نفط مكافئ في اليوم، هذا يمثل فقط ثلث حجم التبادل التجاري للنفط، ما يمنح الغاز دورا ثانويا في المشهد العالمي للطاقة مقارنة بالنفط. لكن هذه الصورة على وشك أن تتغير جذريا مع التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية المهمة التي ستطرأ على المشهد العالمي للطاقة وهذه بدورها ستلعب دورا رئيسا في عملية التحول التي ستشهدها أسواق الغاز على مدى العقود القليلة المقبلة. في الولايات المتحدة، تشير التقديرات الأخيرة لإدارة معلومات الطاقة إلى أن الاحتياطيات المثبتة من الغاز بلغت نحو عشرة تريليونات متر مكعب، إضافة إلى نحو 21 تريليون متر مكعب من مصادر الصخر الزيتي غير المطورة. بلغ مجموع الموافقات على مشاريع الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة حتى الآن 116 مليار متر مكعب، ما سيدفع الولايات المتحدة إلى موقع الزعامة العالمية في صادرات الغاز المسال بحلول عام 2020. خارج الولايات المتحدة، من المتوقع إضافة 300 مليار متر مكعب من الطاقات الإنتاجية الجديدة للغاز الطبيعي المسال بحلول عام 2020، أستراليا، كندا وروسيا تمثل نحو 80 في المائة من هذه الزيادة. إيران تمتلك نحو 20 في المائة من الاحتياطي العالمي للغاز، لكن إنتاجها يمثل فقط 5 في المائة من الإنتاج العالمي وصادراتها لا تكاد تذكر. بعد رفع العقوبات المفروضة عليها، إعادة تأهيل الاقتصاد الإيراني من المتوقع أن يشمل التوسع في الممر الجنوبي للغاز إلى تركيا وجنوب أوروبا وكذلك الهند. الاكتشافات الكبيرة الجديدة في موزامبيق، شرق البحر الأبيض المتوسط، أذربيجان، بابوا غينيا الجديدة وفنزويلا ستساهم هي الأخرى في زيادة حدة المنافسة بين منتجي الغاز. لكن، العائق الرئيسي لنمو إنتاج الغاز هو قطاع النقل بسبب طول الوقت اللازم للتنفيذ والتكاليف الرأسمالية لكل من خطوط الأنابيب العابرة للقارات ومشاريع الغاز الطبيعي المسال، مع ذلك من المقرر أن تضيف الخطط الحالية طاقات نقل كبيرة. في عام 2013، بلغ إجمالي شحنات الغاز العالمية عبر خطوط الأنابيب 710 مليارات متر مكعب، ساهمت صادرات روسيا ومنطقة بحر قزوين بنحو 35 في المائة، النرويج وهولندا 23 في المائة وأمريكا الشمالية 18 في المائة. توسعات طاقات التصدير المقترحة على المدى القصير في أوروبا تقتصر على الحقول البحرية النائية في النرويج في انتظار التوسع في استغلال الغاز الصخري في دول مثل بولندا وتطوير الاكتشافات الجديدة في شرق البحر الأبيض المتوسط، في حين أن ارتفاع الطلب في الولايات المتحدة وكندا سيحد من نمو صادرات خطوط الأنابيب في أمريكا الشمالية. في المقابل، تتوقع وكالة الطاقة الدولية بناء خطوط أنابيب جديدة من روسيا وبحر قزوين بطاقة 240 مليار متر مكعب، تتجه شرقا وغربا من المقرر الانتهاء منها في عام 2020. ما سيضاعف صادرات الغاز الأوروبية / الآسيوية (أوراسيا) على الأقل إلى 500 مليار متر مكعب وإعطاء المنتجين في المنطقة حصة 50 في المائة من ألف مليار متر مكعب المتوقعة لخطوط نقل الغاز في 2020. وبالتالي، حتى من دون إضافة الصادرات الإيرانية والأذربيجانية إلى تركيا، جنوب أوروبا والهند، هناك احتمالية أن تصل طاقات خطوط نقل الغاز إلى 1500 مليار متر مكعب بحلول عام 2030، 65 في المائة منها ستكون لأوراسيا. في حين، بلغت شحنات الغاز الطبيعي المسال 325 مليار متر مكعب في عام 2013، أي نحو 32 في المائة من حصة تجارة الغاز العالمية، لكن مرافق التسييل الجديدة سوف تضاعف تجارة الغاز المسال العالمية تقريبا ثلاثة أضعاف بحلول عام 2020 إلى نحو 925 مليار متر مكعب. قطر تهيمن حاليا على نحو 32 في المائة من تجارة الغاز المسال العالمية، لكن الطاقات الإنتاجية الإضافية في الولايات المتحدة الأمريكية، أستراليا وكندا يمكن أن تضيف وحدها 400 مليار متر مكعب بحلول عام 2020، في حين من المتوقع أن تصل الطاقات العالمية إلى ألف مليار متر مكعب، أي ثلاث مرات من مستوى عام 2013. إن احتمال مضاعفة طاقات تصدير الغاز عن طريق خطوط الأنابيب والغاز الطبيعي المسال إلى ألفي مليار متر مكعب بحلول عام 2020، سيرفع حصة تجارة الغاز العالمية إلى 50 في المائة من الإنتاج العالمي للغاز القابل للتسويق الذي من المتوقع أن يصل إلى أربعة آلاف مليار متر مكعب بحلول هذا التاريخ، حسب وكالة الطاقة الدولية. ارتفاع إمدادات الغاز بهذا الحجم على مدى ست سنوات فقط يثير تساؤلات واضحة بشأن أسعار الغاز في المستقبل في ضوء الاتجاهات المستقبلية للطلب العالمي على الغاز، ولكون روسيا، الولايات المتحدة، أستراليا وكندا تمثل نحو 60 في المائة من نمو الإمدادات، هناك احتمالية عالية جدا أن يصبح الغاز مصدر تنافس جيوسياسي. من ناحية الطلب، إن من نافلة القول أن الغاز الطبيعي سيصبح في العقود القادمة مصدرا متزايد الأهمية للوقود مع توسع الاستخدامات التقليدية ليشمل تطبيقات جديدة في مجال توليد الطاقة والنقل. إن وفرة احتياطيات الغاز العالمية الرخيصة نسبيا والمتنوعة من الناحية الاستراتيجية والملائمة كوقود نظيف نسبيا جعلت منه مصدرا حيويا للطاقة، حيث يتحول العالم تدريجيا من الاعتماد على الفحم إلى وقود أحفوري أكثر نظافة. مع ذلك، فإن السرعة التي يتم فيها هذا التحول تعتمد على ثلاثة عوامل رئيسة هي: معدل إحلال الغاز محل الفحم في قطاع توليد الطاقة، ولا سيما في الاقتصاديات الصناعية الرئيسة مثل الصين والهند، إمكانية التوصل إلى عقود طويلة الآجل لإمدادات الغاز قادرة على المنافسة مع أنواع الوقود الأخرى، وثالثا إمكانية تحقيق اختراقات كبيرة في مجال النقل. على الرغم من أن استخدام الفحم كمصدر وقود رئيس لتوليد الطاقة قد تضاءل في السنوات الأخيرة في الدول المتقدمة بسبب الأهداف المقررة لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، إلا أن هذا الاتجاه عكسي في الاقتصادات النامية الرئيسة، بما في ذلك الصين والهند، ما يعني أن محطات الفحم لا تزال تلبي أكثر من 40 في المائة من الطلب العالمي على الكهرباء.
إنشرها
Author

أوروبا في حرب

|
عندما غزا أوكرانيا في عام 2014، فَرَض الرئيس الروسي فلاديمير بوتن تحدياً جوهرياً للقيم والمبادئ التي تأسس عليها الاتحاد الأوروبي، والنظام القائم على القواعد الذي حافظ على السلام في أوروبا منذ عام 1945. ويبدو أن زعماء أوروبا ومواطنيها لا يدركون بشكل كامل حجم هذا التحدي، ناهيك عن كيفية التعامل معه. إن نظام بوتن يقوم على الحكم بالقوة، وهو ما تجلى في أعمال القمع في الداخل والعدوان في الخارج. ولكنه كان قادراً على اكتساب ميزة تكتيكية، على الأقل في الأمد القريب، على دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التي أظهرت عزماً أكيداً على تجنب المواجهة العسكرية المباشرة. ففي انتهاك لالتزاماتها بموجب المعاهدات، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وأنشأت جيوباً انفصالية في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا. وفي الصيف الماضي، عندما بدا الأمر وكأن الحكومة الأوكرانية ربما تكسب الحرب في دونباس، أمر بوتن بشن عملية غزو بالاستعانة بقوات مسلحة روسية نظامية. وبدأت الاستعدادات لموجة ثانية من التحركات العسكرية في شهر تشرين الثاني(نوفمبر)، عندما زَوَّد بوتن الانفصاليين بدفعة جديدة من المركبات المدرعة والأفراد. ومن المحزن أن الغرب لم يزود أوكرانيا المحاصرة إلا بواجهة من الدعم الزائف. وكان الأمر المزعج بالقدر نفسه إحجام القادة الدوليين عن التعهد بأي التزامات مالية جديدة لأوكرانيا، رغم الضغوط المتزايدة على احتياطياتها من النقد الأجنبي وشبح الانهيار المالي الكامل. ونتيجة لهذا، ربما أصبح مجرد التهديد بالعمل العسكري كافياً للتسبب في انهيار اقتصاد أوكرانيا. ويبدو أن بوتن يعرض فرصة التوصل إلى صفقة كبرى، حيث تساعد روسيا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية ــ على سبيل المثال، من خلال الامتناع عن توريد صواريخ س300 لسورية (وبالتالي الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة الجوية) ــ في مقابل موافقة الولايات المتحدة على السماح لروسيا بالسيطرة على "جوارها القريب" المزعوم. وإذا قبل الرئيس الأمريكي باراك أوباما مثل هذه الصفقة، فإن بنية العلاقات الدولية برمتها سوف تتغير بشكل خطير لصالح استخدام القوة. وهو خطأ مأساوي وسوف تكون عواقبه الجيوسياسية بعيدة المدى. إن انهيار أوكرانيا سوف يشكل خسارة هائلة لحلف شمال الأطلسي وبشكل غير مباشر للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ذلك أن روسيا المنتصرة قد تشكل تهديداً قوياً لدول البلطيق، التي تضم عدداً كبيراً من السكان من أصل روسي. وبدلاً من دعم أوكرانيا، فإن حلف شمال الأطلسي سوف يضطر للدفاع عن نفسه على أرضه، وهو ما من شأنه أن يعرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لخطر كانا حريصين كل الحرص على تجنبه: المواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا. والخطر الذي يهدد تماسك الاتحاد الأوروبي سياسياً أعظم حتى من التهديد العسكري. فقد تسببت أزمة اليورو في تحويل الاتحاد المتزايد التقارب بين دول متساوية ذات سيادة، ومستعدة عن طيب خاطِر للتضحية بجزء من استقلالها من أجل الصالح العام، إلى جمعية من البلدان الدائنة والمدينة، حيث تناضل البلدان المدينة في محاولة لتلبية شروط البلدان الدائنة. وهذا الاتحاد الأوروبي الجديد لم يعد متساوياً ولا طوعيا، بل إنه بات في نظر عديد من الشباب في البلدان المدينة أشبه بكيان أجنبي قمعي ظالم. والواقع أن نحو 30 في المائة من أعضاء البرلمان الأوروبي المنتخب حديثاً استندوا إلى برامج انتخابية مناهضة لأوروبا. وهذا الضعف الداخلي هو الذي سمح لروسيا بقيادة بوتن ــ التي هي في حد ذاتها لا تتمتع بأي قدر من الجاذبية ــ بالظهور كمنافس قوي للاتحاد الأوروبي. وقد ذهب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إلى حد الاستشهاد بالرئيس بوتن بوصفه قدوة له ــ وهو ليس بالتقارب الشاذ في حقيقة الأمر. ويبدو أن زعماء أوروبا ومواطنيها لا يدركون أن هجوم روسيا على أوكرانيا يشكل اعتداءً غير مباشر على الاتحاد الأوروبي ومبادئه في الحكم. ولابد أن يكون من الواضح أنه من غير اللائق لدولة ما أو مجموعة من الدول في حالة حرب أن تلاحق التقشف المالي كما يفعل الاتحاد الأوروبي حتى الآن. بل ينبغي له أن يضع كل الموارد المتاحة تحت تصرف المجهود الحربي، حتى إن ترتب على ذلك ارتفاع العجز في الميزانية. الحق أن أوروبا محظوظة لأن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تصرفت كمواطنة أوروبية حقيقية في التعامل مع التهديد الذي تفرضه روسيا. وباعتبارها في مقدمة المدافعين عن فرض العقوبات على روسيا، كانت ميركل أكثر استعداداً لتحدي الرأي العام الألماني ومصالح الشركات الألمانية بشأن هذه القضية أكثر من أي قضية غيرها. ولكن ألمانيا أيضاً كانت المدافع الرئيس عن التقشف المالي، وينبغي لميركل أن تنتبه إلى التناقض بين الموقفين. إن العقوبات المفروضة على روسيا ضرورية، ولكنها ليست بلا تبعات. ذلك أن الاقتصادات الأوروبية، بما في ذلك اقتصاد ألمانيا، تعاني لأن التأثير المثبط الذي تخلفه العقوبات يؤدي إلى تفاقم قوى الركود والانكماش التي أصبحت وطأتها ملموسة بالفعل. وعلى النقيض من هذا، فإن مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد العدوان الروسي من شأنه أن يخلف تأثيراً تحفيزياً على أوكرانيا وأوروبا. إن بلدان الاتحاد الأوروبي في حالة حرب ــ ويتعين عليها أن تبدأ التصرف وفقاً لذلك. وهذا يعني تعديل التزامها بالتقشف المالي وإدراك حقيقة مفادها بأن مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها أفضل من الاستغراق في الأمل في أنها لن تضطر إلى الدفاع عن الاتحاد الأوروبي ذاته. إن أوكرانيا تحتاج إلى ضخ أموال نقدية فورية، ولنقل بقيمة 20 مليار دولار، مع الوعد بمنحها مزيد من المال إذا استلزم الأمر، من أجل تفادي الانهيار المالي. وبوسع صندوق النقد الدولي أن يقدم هذه الأموال، كما فعل في وقت سابق، مع وعد من الاتحاد الأوروبي بتقديم مساهمة مماثلة لمساهمة صندوق النقد الدولي. وسوف تظل النفقات الفعلية تحت سيطرة صندوق النقد الدولي وخاضعة لتنفيذ إصلاحات بنيوية بعيدة المدى. وفي أوكرانيا، هناك عامل واحد آخر يعمل لمصلحة الاتحاد الأوروبي: ذلك أن القيادة الجديدة للبلاد عازمة على تصحيح فساد وسوء إدارة وانتهاكات الحكومات السابقة. والواقع أنها أنشأت بالفعل استراتيجية مفصلة لخفض استهلاك المنازل للغاز بأكثر من النصف، بهدف تشتيت الاحتكار الفاسد للغاز من قِبَل شركة نافتوجاز وإنهاء اعتماد أوكرانيا على روسيا في مجال الطاقة. إن "أوكرانيا الجديدة" مؤيدة لأوروبا بحزم، وعلى استعداد للدفاع عن أوروبا من خلال الدفاع عن نفسها. ولكن أعداءها ــ ليس روسيا بوتن فحسب، بل أيضاً جهازها البيروقراطي وطغمتها المالية ــ يتسمون بالشراسة الشديدة، ولا يمكنها أن تلحق بهم الهزيمة وحدها. إن دعم أوكرانيا الجديدة في عام 2015 وما بعده هو الاستثمار الأكثر جدوى وفعالية الذي يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يقوم به الآن. بل إن هذا الاستثمار قد يساعد الاتحاد الأوروبي في استعادة روح الوحدة والرخاء المشترك التي أدت إلى إنشائه. باختصار، بإنقاذ أوكرانيا يستطيع الاتحاد الأوروبي أن ينقذ نفسه أيضا.
إنشرها
Author

الاستقرار والازدهار في الاتحاد النقدي الأوروبي

|
من الأفكار الخاطئة الشائعة أن منطقة اليورو اتحاد نقدي من دون اتحاد سياسي. ولكن هذا يعكس سوء فهم عميق لمعنى الاتحاد النقدي. إن الاتحاد النقدي لم يصبح في حكم الممكن إلا بسبب التكامل الجوهري الذي تحقق بالفعل بين بلدان الاتحاد الأوروبي ــ وتقاسم عُملة موحدة من شأنه أن يزيد التكامل عمقا. وإذا أثبت اتحاد النقد الأوروبي أن قدرته على الصمود أكبر مما تصور كثيرون، فإن السبب الوحيد وراء هذا هو أن أولئك الذين تشككوا في قدرته أساءوا الحكم على هذا البعد السياسي. فقد استهانوا بالروابط بين أعضائه، وإلى أي مدى استثمروا فيه مواردهم جماعيا، واستعدادهم للعمل معا على حل المشكلات المشتركة. ولكن من الواضح رغم ذلك أن اتحادنا النقدي لا يزال غير مكتمل. وكان هذا هو التشخيص الذي عرضته قبل عامين “لجنة الرؤساء الأربعة” (رئيس المجلس الأوروبي بالتعاون الوثيق مع رؤساء المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي ومجموعة اليورو). ورغم إحراز قدر ملموس من التقدم في بعض المجالات، فإن الأعمال غير المنجزة تظل قائمة في مجالات أخرى. ولكن ماذا يعني “استكمال” الاتحاد النقدي؟ إنه يعني في المقام الأول توفير الظروف الكفيلة بجعل البلدان أكثر استقرارا وازدهارا مما كانت لتصبح عليه لو لم تلتحق بعضويته. ولا بد أن تكون حالها داخله أفضل من حالها خارجه. في اتحادات سياسية أخرى، يتم الحفاظ على التماسك من خلال هوية مشتركة قوية، ولكن في كثير من الأحيان أيضاً يتأتى ذلك من خلال التحويلات المالية الدائمة بين المناطق الأكثر ثراء والأكثر فقرا التي تعمل على مساواة الدخول. وفي منطقة اليورو، لا تُعَد مثل هذه التحويلات الأحادية الاتجاه بين البلدان متوقعة (فالتحويلات موجودة كجزء من سياسة التماسك في الاتحاد الأوروبي، ولكنها محدودة في الحجم ومصممة في المقام الأول لدعم عملية “اللحاق بالركب” في البلدان أو المناطق ذات الدخل المنخفض). وهذا يعني أننا في احتياج إلى توجه مختلف لضمان تحسن أحوال كل دولة بشكل دائم داخل منطقة اليورو. ويعني هذا أمرين رئيسيين. فأولا، يتعين علينا أن نعمل على تهيئة الظروف لكل البلدان لكي تزدهر بشكل مستقل. ولا بد أن يكون كل الأعضاء قادرين على استغلال المزايا النسبية داخل السوق الموحدة، واجتذاب رأس المال، وتوليد فرص العمل. وينبغي لكل الأعضاء أيضاً أن يتحلوا بالقدر الكافي من المرونة للاستجابة السريعة للصدمات القصيرة الأجل. وتتحقق هذه الغاية من خلال الإصلاح البنيوي الذي يحفز المنافسة، ويحد من الروتين غير الضروري، ويجعل سوق العمالة أكثر قدرة على التكيف. حتى وقتنا هذا، يظل تنفيذ هذه الإصلاحات أو عدم تنفيذها يمثل حقاً وطنياً إلى حد كبير. ولكنها في اتحاد مثل اتحادنا تعد مصلحة مشتركة واضحة. ذلك أن بلدان منطقة اليورو تعتمد على بعضها البعض لتحقيق النمو. وعلى نحو أكثر جوهرية، إذا أدى الافتقار إلى الإصلاحات البنيوية إلى التباعد الدائم داخل الاتحاد النقدي، فإن هذا من شأنه أن يعيد شبح الخروج ــ الذي قد يعانيه جميع الأعضاء في نهاية المطاف. وفي منطقة اليورو، يتوقف الاستقرار والازدهار في أي مكان على ازدهار البلدان في كل مكان. لذا، فإن الحجة قوية لمصلحة تقاسم مزيد من السيادة في المنطقة ــ لبناء اتحاد اقتصادي حقيقي. وهذا يعني ما هو أكثر من مجرد زيادة ودعم الإجراءات القائمة. فهو يعني أيضاً الحكم المشترك: التحول من التنسيق إلى اتخاذ القرار المشترك، ومن القواعد إلى المؤسسات. وتتلخص النتيجة الثانية لغياب التحويلات المالية في احتياج البلدان إلى زيادة الاستثمار في آليات أخرى لتقاسم التكاليف المترتبة على الصدمات. وحتى في ظل اقتصادات أكثر مرونة، فإن التكيف الداخلي سيظل دوماً أبطأ مما كان ليصبح إذا كان لكل دولة سعر صرف خاص بها. وبالتالي فإن تقاسم المخاطر يشكل ضرورة أساسية لمنع الركود من ترك ندبات دائمة وتعزيز التباعد الاقتصادي. ومن أهم أجزاء هذا الحل تحسين عملية تقاسم المخاطر من خلال تعميق التكامل المالي. والواقع أننا كلما قلت رغبتنا في تقاسم المخاطر على المستوى العام كلما زاد احتياجنا إلى تقاسم المخاطر على المستوى الخاص. ولا بد أن يكون الاتحاد المصرفي لمنطقة اليورو عاملاً محفزاً في تشجيع عملية تعميق تكامل القطاع المصرفي. ولكن تقاسم المخاطر يدور أيضاً حول تعميق سوق رأس المال، خاصة بالنسبة للأسهم، وهو ما يجعلنا في احتياج أيضاً إلى إحراز تقدم سريع على مسار اتحاد أسواق رأس المال. كما ينبغي لنا أن نعترف بالدور الحيوي الذي تلعبه السياسات المالية في الاتحاد النقدي. فالسياسة النقدية الموحدة التي تركز على استقرار الأسعار في منطقة اليورو من غير الممكن أن تتفاعل مع الصدمات التي لا تؤثر إلا في دولة واحدة أو منطقة واحدة. ولهذا فمن الأهمية بمكان من أجل تجنب فترات الركود المحلية المطولة أن تتمكن السياسات المالية الوطنية من أداء الدور المثبت للاستقرار. ولكي يتسنى للحكومات السماح بمثبتات الاستقرار المالية بالعمل ينبغي لها أن تتمكن من الاقتراض بتكاليف معقولة في أوقات الأزمات الاقتصادية. والإطار المالي القوي شرط لا غنى عنه لتحقيق هذه الغاية، فهو يحمي البلدان من العدوى. ولكن تجربة الأزمة تشير إلى أنه في أوقات التوترات الحادة في السوق، قد لا توفر حتى الأوضاع المالية الأولية السليمة الحماية المطلقة من التأثيرات غير المباشرة. وهو سبب آخر لاحتياجنا إلى اتحاد اقتصادي: فالأسواق ستكون أقل عُرضة للتفاعل سلباً مع ارتفاع العجز بشكل مؤقت إذا كانت أكثر ثقة بتوقعات النمو في المستقبل. ومن خلال إلزام الحكومات بالإصلاحات البنيوية، يوفر الاتحاد النقدي المصداقية الكافية لتعزيز الثقة بقدرة البلدان على الخروج من الديون عبر النمو. في نهاية المطاف، من غير الممكن أن يكون التقارب الاقتصادي مجرد معيار لدخول الاتحاد النقدي، أو شرطاً يمكن تلبيته بعض الوقت. بل لا بد أن يكون شرطاً دائماً. ولهذا السبب، فإن استكمال الوحدة النقدية يلزمنا في نهاية المطاف بتعميق اتحادنا السياسي: من خلال إرساء الحقوق والالتزامات المرتبطة به في إطار نظام مؤسسي متجدد.
إنشرها
Author

انخفاض سعر النفط .. الأسباب والنتائج

|
ليس ثمة شك في أن انخفاض سعر النفط على مدى الأسابيع القليلة الماضية قد أربك كثيرا من المتابعين للمتغيرات الاقتصادية في بلادنا، وليس ثمة شك في أن التراجع الحاد في سوق الأسهم قد فاقم هذا الإرباك وطرح أسئلة عديدة عن الأسباب والنتائج لذلك الانخفاض، ولعل السرعة التي هوت بها تلك الأسعار قد أوجدت إحساسا لدى الكثير أن الأسعار لم تكن مبنية على أسس راسخة متينة، أما السؤال الآخر الذي تم طرحه فهو عن الأسباب التي دعت “أوبك” إلى أبقاء سقف الإنتاج كما هو دون تخفيض مع أنه كان من اليسير علي “أوبك” أن تخفض الإنتاج وتعيد السعر إلى سابق عهده، أما السؤال الأخير فكان يتعلق بمستقبل الاقتصاد واتجاهاته والأثر الذي يمكن أن يتركه انخفاض سعر النفط في سوقنا المالي . ولا شك أن الإجابة عن بعض هذه الأسئلة المهمة والجوهرية قد تمت مناقشتها من قبل أقلام رصينة غطت كثيرا من الجوانب إلا أنني ما زلت أرى أن في اليم متسعاً لدلو جديد يُلقى مع الدلاء واجتهاد آخر يضاف إلى ما سبقه من اجتهادات ولا سيما أن الآراء طالما تشعبت عند تحليل الظواهر الاقتصادية ونتائجها. ولعلي أبدأ الإجابة عن السؤال الأول عن أسباب انخفاض أسعار النفط بالإقرار أولا أن هذا الانخفاض أمر طبيعي يتسق مع طبيعة السوق التي منذ عرفها الإنسان لا تستقر على حال فهي في صعود يعقبه نزول أو هبوط يتبعه ارتفاع ولا شك أن كل من درس الاقتصاد يعرف الدورات الاقتصادية ويعرف أنها خليط من قمم صاعدة وقيعان هابطة، وكل من تابع سوق النفط يذكر أن متوسط سعر النفط قد بلغ في عام 1980 نحو 37 دولارا - أو ما يعادل 100 دولار بأسعارنا اليوم إذا ما أخذنا التضخم بعين الاعتبار –وكيف تراجع حتى بلغ متوسط سعر النفط 14 دولارا في عام 1986- وهو ما يعادل 30 دولارا بأسعار اليوم - ثم عاود الصعود ليصل ذروته في عام 1990 ثم تراجع ليصل القاع في عام 1998 ثم عاود الصعود في عام 2003 ليستمر في رحلة صعوده حتى عام 2014 وهو الآن يبدأ رحلة هبوط لا يعلم مداها إلا الله . وبناء على ما تقدم يجدر بنا أن ندرك أن ما يحدث في سوق النفط ليس بدعا وليس ظاهرة جديدة بل ظاهرة تكررت وستظل تتكرر.أما أسباب انخفاض السعر في هذه الفترة فيعود إلى عاملين متداخلين، العامل الأول هو الزيادة في إنتاج النفط في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أدى إلى تقليل كميات النفط المستورد والاعتماد على النفط المستخرج من أمريكا وهو ما يوضحه الجدول المرفق والمأخوذ عن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية –مع رجاء الملاحظة هنا أني غير مهتم لمصدر هذا النفط سواء كان صخريا أو رمليا أو من الحقول التقليدية طالما انه ينتج في أمريكا - أما العامل الثاني فهو ارتفاع سعر صرف الدولار. أن هذين العاملين أديا إلى التراجع في أسعار النفط عالميا فكيف تم ذلك؟ في الواقع أن شراء الولايات المتحدة للنفط من السوق الأمريكي يعني أن كميات كبيرة من الدولار أو ما يسمي البترودولار أصبحت تنفق داخل الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما أدى إلى نقص المعروض من الدولار خارج أمريكا وبالتالي ارتفع سعر صرف الدولار أما الأمر الثاني فهو أن زيادة انتاج النفط في أمريكا ساهمت في دفع عجلة الاقتصاد الأمريكي وهذا ساهم بدوره في مزيد من دعم الدولار وارتفاع قيمته. ولأن النفط في السوق العالمي يتم بيعه بالدولار فإن سعر صرف الدولار يعتبر عاملا مهما في تحديد الكمية المطلوبة بالنسبة للدول المستهلكة ولتوضيح هذه النقطة دعونا نفترض أنه في عام 2012 كان سعر برميل النفط هو 100 دولار وأن سعر صرف الدولار بالنسبة للين الياباني كان 90 ين للدولار في هذه الحالة إذا أراد المواطن الياباني شراء برميل من النفط فإنه سيدفع 9000 ين للبرميل والآن لنفترض أن سعر البرميل بقي ثابتا عند سعر 100 دولار حتى عام 2014 ولكن سعر صرف الدولار ارتفع إلى 120 ين كما هو الوضع حاليا هذا ببساطة يعني أن المواطن الياباني مضطر لأن يدفع 12000 ين للبرميل بدلا من 9000 علما بأن سعر البرميل بالدولار لم يتغير وما زال عند مستوى 100 دولار للبرميل. إن سعر النفط بالواقع ارتفع بالنسبة للمواطن الياباني وليس أمامه خيار إلا أن ينصاع لقوانين الاقتصاد ويقلل الكمية المطلوبة من النفط نتيجة لارتفاع السعر. إن ما وضحناه سابقا بالنسبة للمواطن الياباني ينطبق أيضا عليى المواطن التركي والمصري والهندي والأوروبي ... إلخ على السواء وكل مواطنو هذه الدول مضطرون لتخفيض الكميات المطلوبة من النفط ليس بسبب ارتفاع سعر النفط ولكن بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار. ولا شك أن تراجع الكميات المطلوبة من الدول المختلفة يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي على النفط وهو ما يقود إلى زيادة المعروض ومن ثم يدفع أسعار النفط إلى الانخفاض وهو ما حدث فعلا وانخفض النفط من سعر 100 دولار للبرميل إلى 60 دولارا للبرميل. وإذا كانت النقطة السابقة قد أخذت حقها من الوضوح في ذهن القارئ فإني سأنتقل إلى السؤال الثاني. والسؤال الثاني يقول لماذا علينا أن نبيع نفطنا رخيصا ولماذا لا نقلل من المعروض من خلال تخفيض الإنتاج ونبقي نفطنا في مكامنه حتى يعاود السعر ارتفاعه من جديد ثم نبيعه، وهنا أعود لأقول إن هذا الطرح منطقي ومشروع ولكن ما النتائج التي ستترتب عليه؟ إن تخفيض إنتاج الدول المنتجة سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار من جديد بعد امتصاص الكميات المعروضة في السوق وسيعيد السعر بالضرورة إلى مستوى 100 دولار نتيجة لنقص المعروض ولكن الولايات المتحدة التي لا تعاني مشكلة سعر الصرف سوف تستمر في استيراد ما ينقصها من النفط بسعر 100 دولار وتغطي الباقي من سوقها المحلي الذي سيستمر في الإنتاج وسيستمر الاقتصاد الأمريكي في النمو وسيرتفع سعر الصرف من جديد وستكون الدول المستهلكة الأخرى بين حجري رحى حجر ارتفاع الأسعار وحجر ارتفاع سعر الصرف وستعاني الدول المستهلكة جحيما لا يطاق من ارتفاع سعر المنتجات وسيخرج كثير من الصناعات من السوق نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج وسيقل الطلب على النفط من جديد وتنخفض أسعاره ونعاود نحن تخفيض الإنتاج في محاولة لرفع الأسعار من جديد وهكذا نستمر في الدوران في الحلقة المفرغة نفسها. أما البديل الآخر فيحتم علينا أن نترك السوق يحدد سعر التوازن الجديد من خلال انخفاض الأسعار بسبب دخول بعض المنتجين الجدد إلى الحد الذي سيضطر بعض أولئك المنتجين للخروج من السوق ويعاود السعر الارتفاع ثم الاستقرار من جديد عند مستوى توازن جديد فرضته التغيرات التي أحدثها دخول المنتجين الجدد ويكون هذا السعر لصالح المنتج والمستهلك وهو ما نعتقد أنه سيكون عند مستوى بين60 الى70 دولارا للبرميل الذي يمكن أن يكون سعر التوازن الجديد الذي سوف يستمر لفترة ليست بالقصيرة وهكذا نرى أن ترك الأسعار لعوامل العرض والطلب هو البديل المنطقي وليس التدخل لتصحيح مسار السوق. وعند هذا الحد يمكن الانتقال إلى إجابة السؤال الثالث حول الآثار التي تترتب على اقتصادنا وسوقنا المالي من جراء انخفاض سعر النفط وهنا لا بد أن نتذكر أن سعر صرف الدولار بالنسبة للريال ثابت وأن أي ارتفاع في سعر الدولار سينعكس على الريال ويرفع من قوته الشرائية وهكذا نرى أن انخفاض سعر النفط سيعوضه ارتفاع سعر صرف الريال المثبت بالنسبة للدولار. ولتوضيح النقطة السابقة دعنا نفترض أننا ندفع شهريا للشركة التي تبني قطار الرياض 100 مليون يورو وهذا المبلغ كان يساوي عند مستوى 100 دولار لسعر البرميل 550 مليون ريال فإن المبلغ نفسه عند مستوى سعر 70 دولارا للبرميل قد يصبح 450 مليون ريال نتيجة لارتفاع قيمة الريال، وهكذا نجد أن ارتفاع سعر صرف الدولار قد خفف من وطأة انخفاض سعر النفط. ولا شك أن أحدا سيقول إن ذلك التعويض ليس كافيا ونقول له هنا إنه لا بد من إدراك مسألتين أن هذا التعويض قد يزيد على المدى الطويل وأنه لا بد أن يتأقلم مع الحقائق الجديدة التي أوجدها المنتجون الجدد في سوق النفط.. وفي الختام يمكن أن نلقي نظرة خاطفة على أثر ذلك كله في سوقنا المالي ونقول باختصار إن الأثر سوف يختلف من قطاع إلى آخر فالقطاعات التي تعتمد على الاستيراد مثل قطاع التجزئة سوف يتحسن أداؤها نتيجة لارتفاع قيمة الريال وانخفاض تكاليف الإنتاج، وسيحدث العكس بالنسبة للشركات التي تعتمد على التصدير في حين تبقى الشركات التي تعتمد على السوق المحلي مستقرة إلى حد كبير، أما فيما يتعلق بقطاع المصارف فسيعتمد أداؤه على توجهات سعر الفائدة ومدي براعة المصارف في الاستثمار في السوق الأمريكية الواعدة.
إنشرها
Author

تحديات الحاضر .. فرص المستقبل

|
تشكل صناعة البتروكيماويات أهمية خاصة بالنسبة للاقتصاد الوطني كونها تمثل حجر الزاوية في استراتيجية التنمية الصناعية في المملكة. ووفرت حكومة المملكة متطلبات إقامة صناعات بتروكيماوية ذات تنافسية عالمية في مقدمتها توفير الغاز الطبيعي وسوائله بأسعار تنافسية. وأتاحت وفرة الغاز في مرحلة الانطلاق صياغة شراكة مع كبريات الشركات العالمية تم من خلالها مبادلة جزء من الميزة النسبية التي تملكها المملكة في مجال الطاقة مقابل الاستفادة من قدرات الشركات العالمية في مجال تقنيات الإنتاج والتسويق والإدارة وتأهيل الموارد البشرية. كما أتاح توافر الغاز تعزيز تنافسية الصناعة من خلال توظيف اقتصاديات الحجم لبناء وحدات إنتاجية تعد الأكبر عالميا. وإزاء محدودية حجم السوق المحلي تبنت الصناعة استراتيجية “التصنيع للتصدير”التي جسد نجاحها القفزات الكبيرة في حجم وقيمة صادرات المملكة من البتروكيماويات التي ارتفعت خلال الفترة من 2000 إلى 2013 بما يزيد على ثمانية أضعاف من 16 مليار ريال في عام 2000 إلى 125.6 مليار ريال في عام 2013. ومنذ عام 1983 الذي شهد بداية انطلاقة هذه الصناعة، حينما تم تصدير أول شحنة من “الميثانول” المنتج في شركة الرازي “إحدى شركات سابك” إلى اليابان، تميزت مسيرة هذه الصناعة بالنمو السريع والمطرد وبانضمام لاعبين جدد إلى نادي منتجي البتروكيماويات في المملكة. وخلال العقد الماضي مثلا ارتفعت الطاقات الإنتاجية للبتروكيماويات في المملكة بنحو ثلاثة أضعاف من 36.1 مليون طن في عام 2003 إلى 91.5 مليون طن في نهاية عام 2013 مسجلة معدل نمو سنوي تراكمي مقداره 9.7 في المائة، وهو ثاني أعلى معدل نمو على مستوى العالم. وانعكس هذا النمو على قيمة مبيعات البتروكيماويات التي بلغت في عام 2013 نحو 251 مليار ريال بارتفاع نسبته 39 في المائة عن مستوى 2010. وكما أسلفنا، فإن وفرة الغاز الطبيعي وسوائله وأسعاره التنافسية كانت ركيزة الميزة التنافسية للصناعة، وكان لنوع وحجم إمدادات الغاز الدور الأبرز في تحديد معدلات النمو ودرجة التنوع في منتجات الصناعة. ففي المرحلة التي امتدت خلال الأعوام من 1981 إلى 1994 تم تغذية الصناعة بالغاز المصاحب الغني بالإيثان، ما أسفر عن تصدر مشتقات “الأثيلين” لإنتاج الصناعة لجهة الحجم والقيمة. وفي عام 1994 دخلت الصناعة مرحلة النمو الثانية التي تميزت باستخدام مزيج من سوائل الغاز الطبيعي والنفثا كمدخلات للإنتاج. وكان وراء هذا التحول الطلب الكبير على الغاز من قبل الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة المصحوب بشح في إمدادات غاز الإيثان، اللقيم الأثمن والأوسع استخداما في الصناعة. وأسفر هذا التحول عن تقليص نسبي في تنافسية الصناعة لجهة تكاليف الإنتاج، مع أنها بقيت في أسفل منحنى التكاليف مقارنة بالصناعة العالمية. في المقابل لم يخل هذا التحول من إيجابيات كونه أتاح للصناعة تنويع قاعدة منتجاتها وإنتاج منتجات ذات قيمة مضافة أعلى، التي بدورها تسهم في إيجاد صناعات تحويلية جديدة في المملكة. جدير بالإشارة إلى أن عدد منتجات الصناعة ارتفع من 25 في عام 1993 إلى 87 في نهاية عام 2013 وسيتم إضافة 57 منتجا جديدا ليصل إجمالي منتجاتها إلى 144 بحلول 2020. هذه المسيرة لم تخل من جملة من التحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي، التي تشكل في ذات الوقت فرصا واعدة للمستقبل. وتعد إمدادات الغاز الطبيعي المخصصة للصناعة لجهة الحجم والأسعار المستقبلية في مقدمة التحديات محليا. في المقابل يتيح الاستثمار في تطوير تقنيات واعدة مثل تقنية تحويل “الميثانول” إلى أولفينات وتقنية التحويل المباشر للنفط إلى لقائم فرصا للصناعة لتأمين احتياجاتها من خامات التغذية! خارجيا، أذنت ثورة الغاز الصخري في الولايات بنهاية عصر كانت تعد فيه المملكة مركز إنتاج البتروكيماويات الأقل كلفة عالميا، الأمر الذي سينتج عنه مستقبلا تنافسا أكثر حدة في الأسواق العالمية. وما يزيد من حدة المنافسة توجهات الأسواق التقليدية للصادرات السعودية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، حيث تشهد الصين مثلا توسعات ضخمة من المتوقع أن تحقق لها اكتفاء ذاتيا تقدر نسبته ما بين 70-85 في المائة من حجم وارداتها من 30 منتجا كيماويا خلال السنوات من 2015 إلى 2020. في المقابل تبرز إفريقيا التي يتجاوز عدد سكانها المليار شخص والتي تحقق معدلات نمو عالية كسوق واعدة لتعويض تراجع محتمل للطلب على المنتجات السعودية في أسواقها الآسيوية التقليدية. هذه التحديات تستدعي تبني الصناعة مبادرات للتميز في الأداء في كامل منظومة الإنتاج، والتسويق، والإمداد، والتوريد، والخدمات، والاستثمار في التطوير المستمر للموارد البشرية وبناء القدرات الابتكارية المحلية. وتقدر بعض المراجع العائد على رأس المال المستثمر من تطبيق تلك المبادرات بنحو 10 في المائة. خلاصة القول: أن صناعة البتروكيماويات صناعة عالمية يرتبط أداؤها لجهة المبيعات والأرباح بحالة الاقتصاد العالمي. والتراجع الحالي في أسعار البتروكيماويات يشكل أحد التحديات المرحلية التي تجعل توجهات الصناعة نحو تنويع قاعدة منتجاتها وتطوير الصناعات التحويلية محليا خيارا إستراتيجيا لتحصينها من جهة وتعظيم عوائدها الاقتصادية والاجتماعية. ويرجح جدوى هذا الخيار ضخامة حجم واردات المملكة من الكيماويات التي بلغت عام 2013 نحو5.1 مليون طن بقيمة 29.6 مليار ريال، الأمر الذي يشكل فرصة لإحلال الواردات في المرحلة الأولى تليها التوجه نحو تصدير المنتجات المصنعة أو نصف المصنعة في المرحلة اللاحقة. وهذا التوجه يسير بخطوات متسارعة تتمثل في زيادة مساهمة الصناعات النهائية التي شكلت في عام 2005 نحو 2 في المائة من إجمالي الطاقات الإنتاجية للصناعة و5 في المائة من عائداتها، سترتفع بحلول عام 2015 إلى 5 في المائة من إجمالي الطاقات الإنتاجية و8 في المائة من عائدات الصناعة.
إنشرها
Author

انتهاء عهد التيسير الكمي في الولايات المتحدة

|
يعد الحفاظ على مستويات التوظف مرتفعة واستمرار استقرار المستوى العام للأسعار أهم أهداف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ويفترض من الناحية النظرية أنه في سبيل تحقيق هذه الأهداف يعمد إلى خفض معدلات الفائدة إلى مستويات متدنية لتمكين النظام المصرفي والمالي من إقراض قطاع الأعمال الخاص والمستهلكين بمعدلات فائدة منخفضة، وقد لجأ الاحتياطي الفيدرالي بالفعل في بداية الأزمة الحالية إلى تخفيض معدلات الفائدة إلى الصفر تقريبا،ونتيجة لضعف استجابة الاقتصاد لهذه التخفيضات بدأ الاحتياطي الفيدرالي في التفكير في بدائل أخرى غير تقليدية لتعزيز الانتعاش الاقتصادي والخروج من الأزمة، وكان على رأسها التيسير الكميQuantitative Easing، أو ما يطلق عليه أحيانا ببرنامج شراء السندات.تجدر الإشارة إلى أن التيسير الكمي ليس فكرة جديدة، كما برامج التيسير الكمي لم يقتصر استخدامها على الولايات المتحدة، وإنما استخدمها البنك المركزي الأوروبي، والبنك المركزي البريطاني، والبنك المركزي الياباني في آن واحد، غير أنها لم تمارس على هذا النطاق في العالم كما هو الحال في الوقت الحالي. في الرابع من سبتمبر 2008 بلغ إجمالي أصول النظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي906 مليارات دولار، منها نحو 700 مليار دولار أوراق مالية. في الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) الماضي بلغ إجمالي أصول الاحتياطي الفيدرالي نحو 4502 مليار دولار، منها 4243مليار دولار أوراق مالية، أي أنه خلال هذه الفترة تضاعفت أصول الاحتياطي الفيدرالي نحو خمسة أضعاف، حيث تسببت برامج التيسير الكمي في إضافة نحو 3.7 تريلون دولار من الأوراق المالية إلى ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما يعكس أكبر عملية توسع نقدي تمت في تاريخ الولايات المتحدة حتى الآن، والتي تمت في إطار ما يسمى بعمليات الشراء واسع النطاق للأصولLarge-Scale Asset Purchases. أما عن آلية شراء هذه السندات فهي أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بشرائها من سوق السندات وليس من الحكومة أو الجهة المصدرة، لأن الهدف الأساسي من عمليات الشراء هو التأثير على الأسعار السوقية هذه السندات، وعندما تتغير أسعار السندات تتغير معدلات العائد عليها في الاتجاه المعاكس، على سبيل المثال قد يستهدف الاحتياطي الفيدرالي رفع سعر السندات المغطاة بالرهونات العقاريةMBS، وهو ما يؤدي إلى خفض معدلات العائد عليها وبالتالي انخفاض معدلات الفائدة على الرهون العقارية فيزداد الطلب على القروض العقارية لشراء المساكن، وينشط بالتالي الطلب في هذا القطاع الحيوي، وهذا هو الهدف النهائي من عمليات الشراء. يطلق على هذه القناة من قنوات التأثير النقدي “قناة توازن المحافظ المالية” التي تفترض أن الأصول التي تشكل المحافظ الاستثمارية المختلفة ليست بديلة لبعضها البعض بصورة كاملة. فعندما يقوم الاحتياطي الفيدرالي بشراء السندات المغطاة بالرهونات العقارية فإن المستثمرين يقومون بإعادة التوازن في محافظهم من خلال شراء سندات أخرى بدلا من تلك التي باعوها للاحتياطي الفيدرالي، فترتفع أسعارها هي الأخرى وتنخفض العوائد عليها، وهو ما يحسن الأداء الاقتصادي على المستوى الكلي. بدأت السياسة النقدية التوسعية الأمريكية في كانون الأول (ديسمبر) 2008 لأغراض مالية، أي بهدف إنقاذ المؤسسات المالية من السقوط، بصفة خاصة الكبرى منها وقد أطلق على هذه الموجة التيسير الكمي1،وذلك عندما أعلن الاحتياطي الفيدرالي بعد انهيار ليمان برازرز عن بدء عمليات الشراء واسع النطاق للأصول بقيمة 600 مليار دولار من السندات المغطاة بالرهون العقارية، بهدف مساندة مؤسسات التمويل العقاري الرئيسة في الدولة؛ فاني ماي وفريدي ماك، وفي مارس 2009 أعلن الاحتياطي الفيدرالي عن نيته شراء 1.25 تريليون دولار سندات طويلة الأجل، منها 200 مليار سندات مؤسسات عقارية، و300 مليار من سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل، استمرت هذه الدورة نحو 17 شهرا وبانتهائها تم شراء 1.75 تريليون دولار. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 أعلن الاحتياطي الفيدرالي بدء الموجة الثانية من التيسير الكمي لمدة سبعة أشهر لشراء 600 مليار دولار إضافية من سندات الخزانة الأمريكية تنتهي في أواسط 2011. وبنهاية الربع الثاني من 2011 تم استخدام عوائد الاستثمار على السندات القائمة لشراء سندات جديدة وهو ما أدى إلى زيادة المشتريات الفعلية إلى 800 مليار، وقد تم التركيز في هذه الدورة على السندات من خمس إلى عشر سنوات استحقاق. وفي أيلول (سبتمبر) 2011 أعلن الاحتياطي الفيدرالي عن موجة مختلفة من التيسير الكمي أطلق عليها برنامج مد آجال الاستحقاق الأصول Maturity extension program والتي استهدفت أساسا شراء سندات طويلة الأجل بقيمة 400 مليار دولار من خلال بيع سندات ذات آجال استحقاق أقصر بذات القيمة، وفي 2012 وفي ضوء استمرار ضغوط سوق العمل تم إدخال موجة التيسير الكمي 3 بالسماح للاحتياطي الفيدرالي بشراء سندات بقيمة 85 مليار دولار شهريا، والتي اختلفت عن الموجات السابقة في أن البرنامج لم يكن محددا بحد أقصى لعمليات الشراء، وإنما كان الأمر مفتوحا أمام الاحتياطي الفيدرالي لتحديد المدى الذي ستستمر فيه عمليات الشراء. في اجتماع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح بالاحتياطي الفيدرالي تم الإعلان عن وقف برنامج شراء السندات المعروف بالتيسير الكمي تمهيدا لعكس اتجاه السياسة النقدية التوسعية الأمريكية التي استندت إلى معدلات الفائدة الصفرية واستهداف معدلات محددة للعائد على السندات لتشجيع عمليات الإقراض لأغراض محددة، وقد استند قرار اللجنة بوقف عمليات الشراء إلى أن هناك تحسنا جوهريا في الأداء الاقتصادي الأمريكي، متمثلا في استمرار ارتفاع معدلات النمو وتراجع معدلات البطالة وتحسن أوضاع سوق العمل على نحو جوهري، على الرغم من استمرار معدلات التضخم عند مستوى أقل من المستويات المستهدفة بصورة واضحة. غير أن الإعلان عن وقف التيسير الكمي لم يصاحبه ارتفاع في معدلات الفائدة التي تصل إلى الصفر تقريبا في الوقت الحالي، بل على العكس لقد أكد الاحتياطي الفيدرالي على أن الفائدة الصفرية ستستمر في المستقبل القريب، وأن عمليات رفع معدلات الفائدة ستتم بحذر شديد حتى لا تؤثر في مسار التعافي للنشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة، خصوصا أن بيانات التضخم مازالت مقلقة وأقل من المستهدف بصورة واضحة، وأن هناك عوامل دولية ربما تمارس ضغوطا أكبر نحو تراجعها، بصفة خاصة التراجع الكبير في أسعار النفط. ولكن ما هو تأثير برامج التيسير الكمي الثلاثة؟ لقد حذر الكثير من المراقبين في البداية من الآثار السلبية للتيسير الكمي على التضخم مع إصدار كميات ضخمة من النقود شهريا، غير أنه بعد تطبيق تلك السياسات لم يحدث أن واجه الاقتصاد الأمريكي طوال السنوات الخمس السابقة التي طبق فيها هذه السياسة أية ضغوط تضخمية، بل على العكس اتسمت تلك الفترات بتراجع معدلات التضخم عند مستويات دنيا أقل من تلك المستهدفة وفي بعض الأحيان كان التضخم سالبا، وهو أحد المخاوف الأساسية التي يواجهها الاحتياطي الفيدرالي حاليا. الدراسات التي تمت لتقييم برامج التيسير الكمي أشارت إلى أنه قد ترتب على تلك البرامج تراجع معدلات العائد على الأصول طويلة الأجل بصورة واضحة، كذلك انخفضت معدلات العائد على سندات الشركات، والسندات المغطاة بالرهون العقارية. الدراسات تشير أيضا إلى أن البرنامج أسهم في رفع معدلات النمو وإضافة المزيد من الوظائف في سوق العمل الأمريكي، ونتيجة لعمليات التيسير الكمي تزايدت عمليات الاقتراض سواء من جانب قطاع الأعمال لأغراض الاستثمار أم من جانب القطاع العائلي لأغراض الاستهلاك نتيجة لتراجع معدلات الفائدة. المتضرر الأكبر من العمليات بالطبع هم المدخرون والمودعون لأموالهم في النظام المصرفي والذين يحصلون على معدلات فائدة متدنية للغاية، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في جميع الدول التي تربط عملاتها بالدولار مثل دول الخليج، كما أن أبرز الخاسرين من وقف البرنامج هو بورصات الأوراق المالية، حيث ستنتهي حقبة الأموال السهلة أو الرخيصة، التي تعد المحرك الأساسي لسوق المال في الوقت الحالي، غير أنه ينبغي التأكيد على أن وقف البرنامج لا يعني انتهاء آثاره، حيث سيستمر الاحتياطي الفيدرالي في الاحتفاظ بهذه السندات لفترة طويلة، ومن ثم ستستمر خلالها آثار البرنامج في العمل.
إنشرها
Author

نظام جديد تحكمه الحرب الباردة

|
مع دخول العام الجديد بات من الواضح أن البنية السياسية الأوروبية والدولية التي ظلت قائمة منذ عام 1989 فشلت في اجتياز اختبار الزمن. بل إن العالم لم يشهد مثل هذه البيئة المتوترة المشحونة منذ نهاية الحرب الباردة، حيث يأتي سَفك الدماء في أوروبا والشرق الأوسط على خلفية انهيار الحوار بين القوى الكبرى. ويبدو أن العالم أصبح على حافة حرب باردة ثانية، بل ويزعم البعض أن الحرب قد بدأت بالفعل. وفي الوقت نفسه، نجد أن الهيئة الدولية الرئيسة في العالم ــ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ــ نادراً ما تلعب دوراً أو تتخذ إجراءات حاسمة لوقف الحرائق والقتل. فلماذا لم تتصرف بعزم لتقييم الموقف ووضع برنامج للعمل المشترك؟ أحد الأسباب الرئيسة في اعتقادي أن الثقة التي بنيت من خلال العمل الشاق والجهود المشتركة لإنهاء الحرب الباردة انهارت الآن. وفي غياب هذه الثقة، يصبح من غير الممكن أن نتصور استمرار العلاقات الدولية السلمية في عالم اليوم الذي تحكمه العولمة. ولكن هذه الثقة لم تتقوض بالأمس القريب فقط؛ بل حدث ذلك قبل فترة طويلة. إذ تمتد جذور الموقف الحالي إلى أحداث وقعت في تسعينيات القرن العشرين. كان من المفترض أن تحدد نهاية الحرب الباردة بداية الطريق نحو أوروبا الجديدة والنظام العالمي الأكثر أمنا. ولكن بدلاً من بناء مؤسسات الأمن الأوروبي الجديدة وملاحقة هدف نزع السلاح في أوروبا ــ كما وَعَدت منظمة حلف شمال الأطلسي في إعلان لندن في عام 1990 ــ أعلن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، النصر. وتلاعبت نشوة النصر برؤوس قادة الغرب. واغتناماً لفرصة ضعف روسيا والافتقار إلى أي ثِقَل موازن آخر، رفض زعماء الغرب الالتفات إلى التحذيرات ضد ادعاء احتكار الزعامة العالمية. كانت أحداث الأشهر القليلة الماضية عواقب منطقية للسعي القصير النظر إلى فرض الإرادة وتجاهل مصالح الشركاء. وإذا أعددنا قائمة مختصرة لهذه الحقائق الثابتة فسوف تضم توسيع حلف شمال الأطلسي، والحرب في يوغوسلافيا (وخاصة كوسوفو)، وخطط الدفاع الصاروخي، والعراق، وليبيا، وسورية. ونتيجة لهذا، تحول ما كان مجرد بثرة إلى جرح نازف متقيح. وأوروبا هي التي تعاني الآن أكثر من غيرها. فبدلاً من قيادة التغيير في عالم يتجه نحو العولمة، تحولت القارة إلى ساحة للاضطرابات السياسية، والمنافسة على مجالات النفوذ، والصراع العسكري. والنتيجة الحتمية هي أن أوروبا باتت ضعيفة في وقت حيث تكتسب غيرها من مراكز القوة والنفوذ المزيد من القوة. وإذا استمرت هذه الحال فإن أوروبا سوف تخسر نفوذها في الشأن العالمي لا محالة، وسوف تتحول تدريجياً إلى كيان بلا أهمية تُذكَر. ولكن من حسن الحظ أن تجربة الثمانينيات تقترح سبيلاً إلى الأمام. ففي ذلك الحين لم يكن الوضع الدولي أقل خطورة مما هو عليه اليوم. ورغم هذا، نجحنا في تحسينه ــ ليس فقط تطبيع العلاقات بل وأيضاً إنهاء مواجهة الحرب الباردة ذاتها. ولقد تحقق هذا في المقام الأول من خلال الحوار. ولكن المفتاح إلى الحوار هو الإرادة السياسية وتحديد الأولويات الصحيحة. واليوم لابد أن تكون الأولوية الأولى للحوار في حد ذاته: تجديد القدرة على التفاعل، والإصغاء، واستماع كل منا للآخرين. والآن بدأنا نشهد مؤشرات واعدة، رغم أن الجهود الأولية لم تسفر إلا عن نتائج متواضعة وهشة: اتفاق مينسك بشأن وقف إطلاق النار والفصل بين المتحاربين في أوكرانيا؛ واتفاق الغاز الثلاثي المبرم بين روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي؛ ووقف تصعيد العقوبات المتبادلة. ويتعين علينا أن نستمر في التحرك بعيداً عن الجدال والاتهامات المتبادلة وأن نتوجه نحو البحث عن نقاط التقارب والإلغاء التدريجي للعقوبات، التي تلحق الضرر بالجانبين. وكخطوة أولى، لابد من إلغاء العقوبات الشخصية التي تؤثر على الشخصيات السياسية والبرلمانية، حتى يتسنى لهم أن يعودوا إلى الانضمام إلى عملية البحث عن حلول مقبولة من الطرفين. وربما يكون أحد مجالات التفاعل مساعدة أوكرانيا في التغلب على العواقب التي خلفتها الحرب بين الأخوة وإعادة بناء المناطق المتضررة. ويصدق القول نفسه على التحديات العالمية وأمن عموم أوروبا. ذلك أن المشاكل العالمية الرئيسية اليوم ــ الإرهاب والتطرف، والفقر والتفاوت بين الناس، وتغير المناخ، والهجرة، والأوبئة ــ تزداد سوءاً بمرور كل يوم. وبرغم اختلافها فإنها تشترك في سمة أساسية واحدة: فلا يمكن حل أي منها بالسبل العسكرية. ومع هذا فإن الآليات السياسية اللازمة لحل هذه المشكلات إما مفتقدة أو مختلة، حتى في حين ينبغي للأزمة العالمية المستمرة أن تقنعنا بالسعي إلى إيجاد نموذج جديد قادر على ضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي والبيئي ــ ودون تأخير. أما عن أمن أوروبا، فلن يصلح سوى الحل الشامل لأوروبا بالكامل لتحقيق غاية الأمن. والواقع أن المحاولات المبذولة لمعالجة المشكلة من خلال توسيع حلف شمال الأطلسي أو تبني سياسة دفاع أوروبية مشتركة كلها هدّامة. فنحن في احتياج إلى مؤسسات وآليات أكثر شمولاً وتعمل على تقديم التأكيدات والضمانات للجميع. وهنا لم تكن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي علقنا عليها الكثير من الآمال، على قدر المهمة حتى الآن. وهذا لا يعني ضرورة الاستعاضة عنها بكيان جديد ــ خاصة وأنها تتولى الآن وظائف المراقبة والسيطرة المهمة في أوكرانيا. ولكن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تُعَد في اعتقادي صرحاً يحتاج إلى إصلاحات كبرى وبعض البناء الجديد. قبل سنوات، اقترح وزير الخارجية الألماني السابق هانز ديتريتش جينشر، ومستشار الأمن القومي الأميركي برينت سكوكروفت، وغيرهما من صناع السياسات، إنشاء مجلس أو هيئة تتولى ضمان أمن أوروبا. وقد اتفقت معهم على نهجهم. وعلى نفس المنوال، أثناء تولي رئيس الوزراء الروسي الحالي دميتري ميدفيديف رئاسة روسيا، دعا إلى إنشاء آلية للدبلوماسية الوقائية الأوروبية والمشاورات الإلزامية في حالة وجود تهديد لأمن أي من الدول. ولو كانت مثل هذه الآلية قد أقيمت، فربما كان بوسعنا أن نتجنب أسوأ الأحداث في أوكرانيا الآن. لا شك أن القادة السياسيين يتحملون اللوم عن إفشال هذه وغيرها من “الأفكار الأوروبية” القابعة في المحفوظات. ولكن اللوم لابد أن يوجه أيضاً إلى الطبقة السياسية الأوروبية بالكامل، ومؤسسات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام. ورغم أنني متفائل بطبعي فلابد أن أعترف بأنه من الصعب للغاية أن يبعد المرء التشاؤم عن نفسه مع اقتراب عام 2014 من نهايته. ولكن لا ينبغي لنا رغم هذا أن نستسلم للذعر واليأس، أو أن نسمح لأنفسنا بالانجرار إلى دوامة من الجمود السلبي. بل يتعين علينا أن نعمل على تحويل التجربة المريرة التي شهدناها في الأشهر الماضية إلى إرادة حازمة للعودة إلى الحوار والتعاون. هذا هو ندائي الذي أوجهه إلى قادتنا وكل واحد منا في عام 2015: دعونا نفكر، ونقترح، ونعمل سويا.
إنشرها
Author

سياسة الغباء الاقتصادي

|
نيويورك ــ في عام 2014، ظل اقتصاد العالم عالقاً في الروتين نفسه الذي لم يتخل عنه منذ خروجه من الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ورغم العمل الحكومي القوي ظاهرياً في أوروبا والولايات المتحدة، فقد عانى كل من الكيانين الاقتصاديين ركوداً عميقاً وطويل الأجل. ومن الواضح أن الفجوة هائلة بين وضعهما الآن وما كانا ليتمكنا من تحقيقه في الأرجح لو لم تندلع الأزمة. وكانت البلدان النامية أفضل حالا، ولكن حتى هناك كانت الأنباء قاتمة. والواقع أن أنجح هذه الاقتصادات، التي اعتمد نموها على الصادرات، استمرت في التوسع في أعقاب الأزمة المالية، حتى رغم تعثر أسواق صادراتها. لكن أداء هذه البلدان أيضاً بدأ يتراجع بشكل ملحوظ في عام 2014. في عام 1992، اعتمدت حملة بيل كلينتون الناجحة في انتخابات الرئاسة الأمريكية على شعار بسيط: “إنه الاقتصاد، يا غبي”. ومن منظور اليوم، لا تبدو الأمور إذن سيئة للغاية، ذلك أن دخل الأسرة الأمريكية المتوسطة الآن أصبح أقل مما كان عليه في ذلك الحين. ولكن لا ينبغي لنا أن نستمد الإلهام من جهود كلينتون. فالوعكة التي تبتلي الاقتصاد العالمي اليوم ربما تنعكس بشكل أفضل في شعارين بسيطين: “إنها السياسة، يا غبي”، و”الطلب، الطلب، والطلب”. إن شبه الركود العالمي الذي شهده عام 2014 كان من صُنع الإنسان. فهو نتيجة للسياسة والسياسات في عديد من الاقتصادات الكبرى ــ السياسة والسياسات التي خنقت الطلب. وفي غياب الطلب، تفشل الاستثمارات وفرص العمل في التحقق. الأمر بهذه البساطة. ولم يكن هذا الأمر أشد وضوحاً مما هو عليه في منطقة اليورو، التي تبنت رسمياً سياسة التقشف ــ خفض الإنفاق الحكومي الذي أدى إلى تفاقم حالة الضعف في الإنفاق الخاص. وتتحمل بنية منطقة اليورو جزئياً المسؤولية عن إعاقة التكيف مع الصدمات التي ولدتها الأزمة؛ ففي غياب الاتحاد المصرفي، لم يكن من المستغرب أن يفر المال من البلدان الأشد تضررا، الأمر الذي أضعف أنظمتها المالية وقيد الإقراض والاستثمار هناك. ففي اليابان، أُطلِق أحد “أسهم” برنامج رئيس الوزراء شينزو آبي لإنعاش الاقتصاد في الاتجاه الخطأ. وكان هبوط الناتج المحلي الإجمالي في أعقاب الزيادة في ضريبة الاستهلاك في نيسان أبريل بمثابة دليل آخر يدعم اقتصاد جون ماينارد كينز ــ وكأن الأدلة لم تكن كافية بالفعل. الواقع أن الولايات المتحدة فرضت أصغر جرعة من التقشف، وكانت صاحبة الأداء الاقتصادي الأفضل. ولكن حتى في الولايات المتحدة، تراجع عدد موظفي القطاع العام بنحو 650 ألف موظف منذ ما قبل الأزمة؛ وعادة، كنا نتوقع إضافة نحو مليوني وظيفة. ونتيجة لهذا فإن الولايات المتحدة أيضاً تعاني، حيث كان النمو هزيلاً إلى الحد الذي ظلت معه الأجور راكدة في الأساس. ويعكس قسم كبير من تباطؤ النمو في البلدان الناشئة والنامية التباطؤ في الصين. فالصين الآن هي الدولة صاحبة أضخم اقتصاد في العالم (وفقاً لتعادل القوة الشرائية)، وكانت لفترة طويلة المساهم الرئيسي في النمو العالمي. ولكن النجاح المذهل الذي حققته الصين كان سبباً في توليد مشكلات إضافية، التي تنبغي معالجتها عاجلاً وليس آجلا. إن تحول الاقتصاد الصيني من الكم إلى الكيف موضع ترحيب ــ ويكاد يكون ضروريا. ورغم أن محاربة الرئيس شي جين بينج للفساد قد تؤدي إلى مزيد من تباطؤ النمو الاقتصادي، مع سيطرة الشلل على التعاقدات العامة، فليس هناك من الأسباب ما قد يدفع شي جين بينج إلى وقف حملته. بل على العكس من ذلك، لا بد من التعامل مع قوى أخرى تعمل على تقويض الثقة بحكومته ــ المشكلات البيئية الواسعة النطاق، ومستويات التفاوت المتزايدة الارتفاع، والاحتيال في القطاع الخاص ــ بنفس القدر من القوة والنشاط. باختصار، لا ينبغي للعالم أن ينتظر من الصين أن تدعم الطلب الكلي العالمي في عام 2015. بل إن الفجوة التي ينبغي سدها ستزداد عمقا. وفي روسيا، من ناحية أخرى، نستطيع أن نتوقع أن تعمل العقوبات الغربية على إبطاء النمو، وسيترتب على هذا تأثيرات سلبية في أوروبا الضعيفة بالفعل. (وهي ليست حجة ضد العقوبات: فلا بد أن يرد العالم على غزو أوكرانيا، وقد أثبت كبار المسؤولين التنفيذيين الغربيين، بزعمهم غير ذلك سعياً إلى حماية استثماراتهم، أنهم يفتقرون إلى المبادئ إلى حد مثير للقلق). على مدى السنوات الست الماضية، كان الغرب يتصور أن السياسة النقدية قادرة على إصلاح الأحوال. فقد أدت الأزمة إلى عجز كبير في الميزانيات وارتفاع الديون، وكانت الحاجة إلى تقليص العجز والديون تعني في تصورهم ضرورة تنحية السياسة المالية جانبا. والمشكلة هي أن أسعار الفائدة المنخفضة لن تحفز الشركات على الاستثمار إذا لم يكن هناك طلب على منتجاتها. ولن تدفع أسعار الفائدة المنخفضة الأفراد إلى الاقتراض بغرض الاستهلاك ما داموا يشعرون بالقلق إزاء مستقبلهم (وهو أمر منطقي). وما قد تتمكن السياسة النقدية من القيام به هو خلق فقاعات أسعار الأصول. بل وقد تعمل على دعم أسعار السندات الحكومية في أوروبا، وبالتالي إحباط أزمة الديون السيادية. ولكن من الأهمية بمكان أن نوضح أن احتمالات نجاح السياسات النقدية المتساهلة في استعادة الازدهار العالمي هي صِفر بكل تأكيد. ويعيدنا هذا إلى السياسة والسياسات. إن الطلب هو أكثر ما يحتاج إليه العالم. ومن الواضح أن القطاع الخاص ــ حتى مع الدعم السخي من جانب السلطات النقدية ــ لن يوفر الطلب. ولكن السياسة المالية قادرة على توفير الطلب. والفرص وفيرة للاختيار بين الاستثمارات العامة التي قد تحقق عوائد عالية ــ أعلى كثيرا من تكاليف رأس المال الحقيقية ــ وهذا من شأنه أن يعزز الميزانيات العمومية في البلدان التي تنفذ هذه الاستثمارات. إن المشكلة الكبرى التي تواجه العالم في عام 2015 ليست اقتصادية. ونحن نعلم كيف نهرب من وعكتنا الحالية. ولكن المشكلة تكمن في سياستنا الغبية.
إنشرها
Author

«النقود القذرة» والتنمية

|
لقد أحرز العالم تقدما كبيرا في العقود الأخيرة في الصراع ضد الفقر ولكن بينما سنة 2014 تشارف على نهايتها هناك مليار شخص - واحد من كل سبعة أشخاص- لا يزال يعيش على أقل من 1.25 دولار أمريكي واحد باليوم. إن القضاء على الفقر يحتاج إلى جهد دولي وإيجاد الموارد لعمل ذلك ومن الوهلة الأولى، فإن ثمن ذلك باهظ للغاية فنحن نعرف أن المساعدات التنموية لن تكون كافية لإنهاء الفقر. يتطلب الأمر استثمارات من القطاع الخاص وجمع الضرائب في الدول النامية وغيرها من مصادر التمويل من أجل تحقيق ذلك. الحقيقة هي أن هناك أموالا كافية في العالم لتحقيق ذلك. إن أحد المصادر غير المتوقعة للثروة التي يمكن أن تلعب دورا كبيرا هو العرض الهائل للأموال القذرة الأرباح غير المعلنة للشركات متعددة الجنسيات وعائدات الفساد وأرباح مهربي المخدرات والأسلحة والبشر، وكل تلك الأموال مخبأة في حسابات مصرفية في الخارج "أوفشور" وفي شركات وصناديق ائتمان. إن من الصعوبة بمكان الحصول على أرقام تتمتع بالمصداقية فيما يتعلق بكمية الأموال القذرة حول العالم، ولكن طبقا لتقديرات مجموعة النزاهة المالية العالمية، التي لا تستهدف الربح، فإن تريليون دولار أمريكي تختفي من اقتصادات العالم النامي كل عام، وهي أموال تحتاج إليها تلك البلدان بشدة من أجل التنمية. إن هذا المبلغ هو المبلغ الذي نحتاج إليه تقريبا من أجل سد الفجوة الضخمة في البنية التحتية، التي تمنع العالم من التعامل مع التحديات التنموية الحيوية - من التمدن السريع للتغير المناخي وخلق الوظائف. إن الدول النامية والناشئة اليوم تستثمر نحو تريليون دولار أمريكي كل سنة في البنية التحتية، وهي بحاجة إلى تريليون دولار أمريكي إضافي كل سنة من أجل سد الفجوة وهي خطوة ضرورية من أجل إنهاء الفقر المدقع بحلول سنة 2030 . لكن نقص تنفيذ وتطبيق الإجراءات المتعلقة بمكافحة غسيل الأموال والشفافية الضريبية وقواعد مكافحة الفساد تحمي الجناة من الملاحقة القضائية. إن هذا في نهاية المطاف يمنع الدول النامية من إيقاف تدفق الأموال إلى الخارج، ما يحرمها من موارد ضرورية. بالنسبة للتلميذ في بورت برنس والأم الجديدة في مقديشو والمزارع في اكوتيبيك، فإن لهذه الخسائر أثرا فعليا، الصفوف المدرسية المزدحمة والعيادات الصحية غير المتوفرة والموارد المائية غير الكافية. إن هذا يعني أن الفرص التي يجب أن تذهب للناس تتم سرقتها منهم. لحسن الحظ، فإن المجتمع الدولي قد استيقظ . إن مبادرة أطلقها وزراء المالية الأفارقة وبرئاسة رئيس جنوب إفريقيا السابق ثابو مبيكي تحقق في هذا الموضوع بالنسبة للقارة، حيث خسرت القارة 14 تريليون دولار أمريكي من تدفقات الأموال للخارج في العقود الثلاثة الماضية. لقد بدأت مجموعة العشرين أخيرا في الدعوة لعمل جماعي من أجل التحقق من أن الأعمال السيئة لا تعود بالنفع وفي اجتماع عقد أخيرا في برلين قامت الحكومات بالتوقيع على صفقة لتضييق الخناق على التهرب الضريبي عبر الحدود. إن هذه أخبار طيبة وخاصة للفقراء ولكن لا تزال هناك عديد من العقبات، والآن يجب على العالم أن يركز على ثلاث قضايا حيوية. أولا، يجب على الدول النامية أن تبني مؤسسات فعالة، بينما تقوم بتطبيق الحكم الرشيد والشفافية والمساءلة فيجب عليها محاربة الفساد والجريمة المنظمة وتطبيق أنظمة ضريبية فعالة وهذا يعتبر أمرا أكثر إلحاحا في الدول الغنية بالموارد. إن الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط وأوكرانيا تظهر كيف إن الاستيلاء على خزائن الدولة من قبل أصحاب المصالح الشخصية يثير الصراع ويقوض ثقة الناس في الحكومة. لكن الفساد وغسيل الأموال والتهرب الضريبي هي مشاكل عالمية وليست فقط تحديات للدول النامية، وبالرغم من أن المؤسسات الوطنية الضعيفة والقدرة المحدودة على تطبيق القانون يمكن أن تسهل البدء في تحويلات مالية غير شرعية، نحن بحاجة للإقرار بأن الأموال القذرة عادة ما ينتهي بها المطاف إلى مراكز مالية، التي أصبحت جهات لتمكين هؤلاء من عمل ما يريدونه تقريبا ولهذا فإن التعامل مع هذه القضية يتطلب تعاونا دوليا. ثانيا، إن الأنظمة التي تحدد الملاك الحقيقيين للأموال غير الشرعية يجب أن يصار إلى تطبيقها فبعد أن يتم استثمار تلك الأصول في شركات لا تتمتع بالشفافية تصبح خارج متناول السلطات الضريبية والمحققين ومرارا وتكرارا فإن المستفيدين الحقيقيين أو ملاك الشركات وصناديق الائتمان المستفيدين يتمتعون بالحماية من الإفصاح بسبب قوانين وأنظمة تحمي المجرمين من غير قصد وهذا يجب أن يتوقف. أخيرا، فإن نظاما للتبادل التلقائي للمعلومات الضريبية بين البلدان سيحد من الأماكن التي يستخدمها أولئك المتهربون من الضريبة والذين يقومون بغسيل الأموال في إخفاء عوائدهم بكل سهولة. لقد التزم 90 بلدا تقريبا بالبدء في سنة 2017 بالتبادل عبر الحدود لمعلومات تتضمن معلومات عن أصحاب الحسابات وتفاصيل معينة تتعلق بودائعهم وأرصدتهم وهي معلومات يمكن أن تساعد السلطات على تحديد عائدات الفساد والتعاملات المالية من خلال النشاطات والارتفاعات المشبوهة. نحتاج إلى مزيد من العمل في 2015 والفترة التي تليها ولقد بدأنا العمل فعليا في البنك الدولي مع عملائنا في الدول النامية من أجل تحسين أنظمة الحكم لديهم وكيفية تحصيل الضرائب ومكافحة الفساد واستعادة الأصول المسروقة. إن عملنا سيستفيد بشكل كبير من التحرك الحالي لمزيد من التعاون الدولي في مكافحة التدفقات المالية غير الشرعية. إن تغيير قوانين السرية المصرفية، التي تحظى بالإعجاب يستحق كل هذا الجهد فالفساد والتهرب الضريبي والاستيلاء على إيرادات الموارد الطبيعية يقوض حكم القانون ويضعف النسيج الاجتماعي ويؤثر سلبا في ثقة الناس في المؤسسات ويغذي الصراع وانعدام الاستقرار ويعيق إيجاد الوظائف. إن هذه القوانين هي ليست فقط غير قانونية ولكنها غير أخلاقية كذلك كونها تبقي الفقراء على حالهم.
إنشرها
Author

ينبغي أن لانسمح للإحباط بالنمو

|
كانت نشأتي في ظل الحرب العالمية الثانية، كما شهدت بزوغ فجر الحرب الباردة. ولقد أعطاني عمل والدي كموظف في السلك الدبلوماسي الفرصة لمعاينة التاريخ وهو يصنع عن كثب وعلى النحو الذي خلف في نفسي أثرا باقيا، فلن أنسى أبدا كيف سرت معه على شواطئ نورماندي وكيف رأيت قوارب هيجنز الضخمة المحترقة التي استخدمت لإنزال القوات على البر وهي لا تزال قابعة هناك على تلك الشواطئ، بعد بضع سنوات من رحيل الكثير من الشباب إلى قبورهم حتى ينعم العالم بالحرية. وعلى نحو مماثل، لن أنسى أبدا الشعور الغريب الذي انتابني عندما قدت دراجتي عبر بوابة براندنبورج من برلين الغربية إلى الشرق، ورأيت التناقض الواضح بين الناس الذين كانوا أحرارا وأولئك الذين كانوا محتجزين خلف الستار الحديدي. وما يخلف في نفسي انطباعا قويا الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات، هو أن ذلك الجيل من القادة لم يفز بالحرب فحسب، بل وفاز أيضا بالسلام. وكان ذلك الإنجاز جماعيا. فقد عملت الولايات المتحدة وشركاؤها على تأسيس تحالفات جلبت الازدهار والاستقرار إلى أوروبا الغربية واليابان وكوريا الجنوبية. وتحول أعداء الماضي إلى حلفاء الحاضر، ومعا، كان أعضاء هذه التحالفات روادا لنظام اقتصادي عالمي جديد جعل العالم أكثر ازدهارا. وحتى عندما كانت رحى الحرب الباردة تدور على أشدها، وجد أولئك القادة سبلاً للتعاون بشأن الحد من التسلح ومنع الحرب النووية المهلكة. باختصار، نجحنا من خلال بناء مؤسسات وشراكات استراتيجية دولية فعالة ولا غنى عنها في تجنب حرب عالمية كارثية أخرى، بل وكان بوسعنا في نهاية المطاف إنهاء الحرب الباردة ورفع مستويات المعيشة العالمية لمصلحة مئات الملايين من البشر. الحق أنها قصة رائعة من القرن العشرين. ولكن السؤال الآن يدور حول معالم القصة التي قد يفرزها القرن الـ21. واليوم، يواجه النظام العالمي تحديات جديدة. فالعدوان الروسي يقض مضاجع الحلفاء. والمتطرفون الذين اختطفوا الدين يهددون الحكومات والشعوب في كل مكان. وتعمل التكنولوجيا على تسريع وتيرة التحول في ميزان القوى بين الحكومات والمحكومين على النحو الذي يقدم الفرص للمساءلة الديمقراطية في حين يضع العقبات على الطريق إلى السياسة الشاملة. لقد انتقلنا من عالم حيث كانت السلطة والنفوذ تكمن في أنظمة هرمية التسلسل إلى عالم آخر، حيث تستوطن السلطة والنفوذ الشبكات العالمية. ويتعين على فن إدارة الدولة أن يتأقلم مع هذا التحول. والحق أن المؤسسات والشراكات الدولية التي نشأت في سنوات ما بعد الحرب تحتاج إلى الصيانة والتحديث. وفي مواجهة كل هذا الارتباك والبلبلة، يقترح البعض أن أمريكا لا بد أن تتحول إلى الداخل وتنغلق على ذاتها. وهو ليس بالأمر الجديد. فقد ساق البعض نفس الحجة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ثم ساقوا الحجة ذاتها قبل 25 عاماً، بعد سقوط سور برلين. وكانوا مخطئين آنذاك ــ وما زالوا مخطئين حتى الآن. لم تكن الحاجة إلى الزعامة الحقيقية في أي وقت مضى أكثر إلحاحا مما هي عليه الآن، ولم تكن الولايات المتحدة في أي وقت مضى أكثر اندماجا في العالم مما هي عليه اليوم. والواقع أن الدور الذي لعبناه في أول انتقال سلمي ديمقراطي للسلطة في أفغانستان على الإطلاق يذكرنا جميعا بعد أن استثمرنا الكثير من الدم والمال للمساعدة على إعطاء الأفغان الفرصة لتحقيق النجاح في المعركة بأن العالم يتحمل نفس القدر من المسؤولية عن مساعدة قادة هذا الشعب لتحقيق النجاح في الحكم. لقد تغير العالم، ونحن نتغير معه. ولم تعد الخطوط على الخريطة تنطوي على التهديدات الأشد خطورة، ولم يعد اللاعبون مقسمين بدقة إلى معسكرين واضحين. ففي القرن الـ21 تحول كل مكان مهما كان بعيدا إلى جوار. ولهذا السبب، يحتاج العالم إلى دبلوماسية التحالف. فلن تتمكن أي دولة بمفردها من إلحاق الهزيمة بالإرهاب. ولن تتمكن أي دولة من حل التهديد الوجودي المتمثل في تغير المناخ وحدها. ولن تستطيع أي دولة استئصال الفقر المدقع أو مكافحة الأوبئة المحتملة أو تحسين الأمن النووي من خلال العمل منفردة. ولن يتسنى لأحد منا أن يعيش حياة أكثر أمنا وثراء إذا أدرنا ظهورنا للعالم. بل يتعين علينا أن نبني على تاريخنا من العمل مع الحلفاء من خلال تشكيل تحالفات جديدة ــ مع الحكومات، ومنظمات المجتمع المدني، وأجل، مع الناس العاديين. ومن الأمثلة الجيدة هنا ذلك الجهد الدولي المبذول لمواجهة وحشية وخبث تنظيم داعش. فالآن يجري استخدام أدوات سياسية وإنسانية واستخباراتية تقدمها أكثر من 60 دولة لدعم العمل العسكري الموحد. ولا يعتمد النجاح على ما قد تتمكن من القيام به أي دولة بمفردها أو حتى مجموعة منفردة من الدول، بل يعتمد على ما قد نتمكن جميعنا من تحقيقه من خلال التحرك إلى الأمام معاً في مواجهة هذا التهديد المشترك. وعلى جبهة أخرى لا تقل أهمية، تعمل الولايات المتحدة مع الأمم المتحدة لحشد استجابة عالمية للخطر، الذي يفرضه فيروس الإيبولا. ولكن من خلال التغلب على الخلافات وتنسيق الجهود لإلحاق الهزيمة بتنظيم داعش وقهر فيروس الإيبولا، نعمل أيضا على تعزيز الدعم لنظام عالمي يقوم على الحلول الجماعية للمشاكل المشتركة. ولا يقل التعاون أهمية في مجال تعزيز المبادئ الاقتصادية الأساسية التي بنت عليها أمريكا وغيرها من البلدان ازدهارها في فترة ما بعد الحرب. ولا ينبغي لنا أن نسمح للإحباط بالنمو بسرعة أكبر من نمو الفرصة في أي بلد. على سبيل المثال، وتعكس المفاوضات حول اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ تصميم الرئيس أوباما على إبرام اتفاق مع الدول التي تمثل ثلث التجارة العالمية ونحو 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. والواقع أن الفوائد ــ سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو شركائها ــ هائلة. حيث تشير التقديرات إلى أن الشراكة عبر المحيط الهادئ من الممكن أن تقدم 77 مليار دولار أمريكي سنويا في هيئة دخل حقيقي وأن تدعم توفير 650 ألف وظيفة جديدة في الولايات المتحدة وحدها. وتشكل اتفاقية “شراكة التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلسي” التي يجري التفاوض عليها مع الاتحاد الأوروبي الآن خطوة أخرى رئيسية نحو تعظيم التبادل التجاري. إن الشراكات الحقيقية، سواء في مجال الأمن المتبادل أو الازدهار المشترك، لا تبنى بين عشية وضحاها. ونحن في احتياج إلى الدبلوماسية الصبورة والإرادة الجماعية لتعزيز الأهداف المشتركة. وتظل أهداف أمريكا هي ذاتها كما كانت لعقود من الزمان ــ السلام والازدهار والاستقرار للولايات المتحدة وشركائنا في مختلف أنحاء العالم.
إنشرها
«التجارة العالمية» لـ"الاقتصادية" : الجهاز القضائي في المنظمة معرض للخطر بسبب التدخلات السياسية
«التجارة العالمية» لـ"الاقتصادية" : الجهاز القضائي في المنظمة معرض للخطر بسبب التدخلات السياسية

عندما تفشل الدول في التفاوض لحل مشكلاتها التجارية، لن يبقى لها سوى اللجوء إلى القضاة. هذا هو الحال الآن،...

صادرات الغاز .. وعلاقات السياسة العالمية
صادرات الغاز .. وعلاقات السياسة العالمية

الأحداث الأخيرة في عام 2014 في أوكرانيا، إضافة إلى أنها أثارت أكثر الأزمات السياسة حدة بين روسيا والغرب منذ...

مجموعة العشرين.. قاطرة جماعية لتنفيذ الحلول الاقتصادية «الصعبة»
مجموعة العشرين.. قاطرة جماعية لتنفيذ الحلول الاقتصادية «الصعبة»

لربما لم يكن الاقتصاد العالمي في حاجة إلى مجموعة العشرين منذ تأسيسها حاجته إليها الآن. فالمجموعة التي قرر...

«أوبك».. منظمة تحمل هموم الاقتصاد الدولي .. ودور سعودي محوري
«أوبك».. منظمة تحمل هموم الاقتصاد الدولي .. ودور سعودي محوري

لا يتصور سكان العاصمة النمساوية فيينا الهادئة والراقية والجميلة أن المبنى الزجاجي الواقع في قلب العاصمة...

Author

الاختيارات الصحيحة

|
مع اقتراب عام 2014 من نهايته، يواجه صناع القرار السياسي في مختلف أنحاء العالم ثلاثة اختيارات أساسية: السعي إلى تحقيق النمو الاقتصادي أو قبول الركود؛ العمل على تحسين الاستقرار أو المجازفة بالاستسلام للهشاشة، والتعاون أو العمل الأحادي. والحق أن المخاطر شديدة الارتفاع؛ وقد يكون عام 2015 عام نجاح المجتمع العالمي أو انهياره. فبادئ ذي بدء، هناك حاجة ماسة لتعزيز النمو وفرص العمل لدعم الرخاء والتماسك الاجتماعي في أعقاب أزمة الركود العظيم، التي بدأت في عام 2008. فبعد مرور ست سنوات منذ اندلعت الأزمة المالية، لا يزال التعافي ضعيفا وغير متكافئ. إذ لا يتجاوز النمو العالمي المتوقع 3.3 في المائة في عام 2014، ونحو 3.8 في المائة في عام 2015. ولا تزال بعض الاقتصادات المهمة تصارع الانكماش. وهناك أكثر من 200 مليون عاطل عن العمل. ويخاطر الاقتصاد العالمي بالوقوع في فخ “الحالة الوسط الجديدة” ــ فترة مطولة من النمو البطيء وضعف القدرة على خلق فرص العمل. لكي نتحرر من الركود فنحن في احتياج إلى زخم سياسي متجدد. وإذا تم تنفيذ التدابير التي وافق عليها الزعماء الذين حضروا قمة مجموعة العشرين في تشرين الثاني (نوفمبر )، فإنها كفيلة برفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من 2 في المائة بحلول عام 2018 ــ وهو ما يعادل إضافة2 تريليوني دولار أمريكي إلى الدخل العالمي. وعلاوة على ذلك، إذا تحقق الهدف الجدير بالثناء ــ وإن لم يكن أكثر طموحاً مما ينبغي ــ والمتمثل في إغلاق الفجوة بين الجنسين بنسبة 25 في المائة بحلول عام 2025، فسوف يكون بوسع 100 مليون امرأة الحصول على وظائف لم تكن متاحة لهن من قبل. وقد طلب زعماء العالم من صندوق النقد الدولي مراقبة تنفيذ استراتيجيات النمو هذه. وسوف نفعل هذا بكل تأكيد، من بلد إلى آخر، ومن إصلاح إلى آخر. وإلى جانب الإصلاحات البنيوية، سيتطلب بناء زخم جديد الاستعانة بكل السبل الممكنة الكفيلة بدعم الطلب العالمي. وستظل السياسة النقدية التيسيرية تشكل ضرورة أساسية ما دام النمو هزيلا ــ وإن كان من الواجب علينا أن نولي اهتماما شديدا للآثار غير المباشرة المحتملة. فلا بد أن تركز السياسة المالية على تعزيز النمو وخلق فرص العمل، في حين تعمل على الحفاظ على المصداقية في الأمد المتوسط. وينبغي لسياسات سوق العمل أن تستمر في التأكيد على التدريب، والرعاية الميسرة للطفل، ومرونة محل العمل. وفيما نتأمل الخيار الثاني، بين الاستقرار والهشاشة، فيتعين علينا أن ننظر في الكيفية التي يمكننا بها أن نجعل عالمنا المتزايد الترابط مكاناً أكثر أمانا. لقد ارتفع التكامل المالي بنحو عشرة أضعاف منذ الحرب العالمية الثانية. وأصبحت الاقتصادات الوطنية مترابطة إلى الحد الذي يجعل التحولات في معنويات السوق تميل إلى التتالي عالميا. ولذلك فمن الأهمية بمكان أن نكمل أجندة إصلاح القطاع المالي. لا شك أن بعض التقدم تحقق بالفعل، خاصة في مجال التنظيم المصرفي ومعالجة قضية المؤسسات المالية الأكبر من أن يسمح لها بالإفلاس. ولكن يتعين على البلدان الآن أن تسعى إلى تنفيذ الإصلاحات وتحسين جودة الإشراف. ونحن في احتياج أيضا إلى قواعد أفضل تحكم عمل المؤسسات غير المصرفية، ومراقبة أكثر صرامة لبنوك الظل المصرفي، وتحسين الضمانات وتشجيع المزيد من الشفافية في أسواق المشتقات المالية. ونحن في حاجة ماسة أيضا إلى إحراز التقدم على مسار إغلاق فجوة البيانات في القطاع المالي، حتى يتسنى للقائمين على التنظيم تقييم المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي على النحو اللائق. والأمر الأكثر أهمية هو أن ثقافة القطاع المالي لا بد أن تتغير. إن الهدف الرئيسي للتمويل يتلخص في تقديم الخدمات لأجزاء الاقتصاد الأخرى، التي لا تستطيع أن تؤدي وظيفتها ما لم تتمتع بثقة أولئك الذين يعتمدون على هذه الخدمات ــ أي كل واحد منا. وبالتالي فإن عملية استعادة الثقة لا بد أن تبدأ بمحاولة شاملة لتعزيز السلوك الأخلاقي وفرضه في مختلف أنحاء الصناعة. أما الاختيار الثالث، بين التعاون أو العمل الأحادي، فهو الأكثر أهمية. إن أي اقتصاد من غير الممكن أن يعمل كجزيرة منعزلة؛ بل إن الاقتصاد العالمي أصبح أكثر تكاملا من أي وقت مضى. ولنتأمل هذه الحقيقة: قبل 50 عاما، كانت الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية تشكل نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي. واليوم أصبحت تولد نصف الدخل العالمي، وهي الحصة التي ستستمر في الارتفاع. ولكن الدول ذات السيادة لم تعد الجهات الفاعلة الوحيدة على الساحة. فقد ظهرت شبكة عالمية من أصحاب المصلحة الجدد، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية والمواطنون الناشطون ــ الذين تمكنهم وسائل الإعلام الاجتماعية غالبا. ويتطلب هذا الواقع الجديد استجابة جديدة. وسيكون لزاما علينا أن نعمل على تحديث وتكييف وتعميق سبل العمل التعاوني. ومن الممكن تحقيق هذه الغاية من خلال البناء على مؤسسات التعاون الفعالة القائمة بالفعل. ولا بد أن تكون مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي أكثر تمثيلا في ضوء التحولات الديناميكية الجارية في الاقتصاد العالمي. ولابد من احتضان شبكات النفوذ الجديدة وإعطائها الفرصة الكافية للمساهمة في تصميم بنية الإدارة العالمية في القرن الـ21. وهذا هو المفهوم الذي أسميته “التعددية الجديدة”. وفي اعتقادي أن هذا هو السبيل الوحيد للتصدي للتحديات، التي يواجهها المجتمع العالمي. كان 2014 عاما عصيبا. فكان التعافي بطيئا، كما ظهرت مخاطر جيوسياسية هائلة، وواجه العالم تفشي فيروس الإيبولا المدمر. وقد يكون العام المقبل عاما عصيبا آخر، ولكنه قد يكون أيضا عاما طيبا ــ فيغلب عليه العمل التعاوني التعددي الحقيقي. فقد يساعد زخم التجارة العالمية الجديد على فتح الاستثمار في مختلف أنحاء العالم، وأنا متفائل بشأن أهداف التنمية المستدامة (التي ستحل محل الأهداف الإنمائية للألفية بداية من عام 2015)، واحتمالات التوصل إلى اتفاق شامل حول تغير المناخ في نهاية العام المقبل. وعلى هذه الخلفية، فإن تبني الكونجرس الأمريكي لإصلاحات صندوق النقد الدولي من شأنه أن يرسل إشارة طال انتظارها إلى الاقتصادات الناشئة السريعة النمو مفادها أن العالم يعتمد على أصواتها، ومواردها، لإيجاد حلول عالمية للمشاكل العالمية. النمو، والتجارة، والتنمية، وتغير المناخ: سيكون العالم على موعد مع مبادرات مهمة متعددة الأطراف في هذه المجالات. ونحن الآن لا نملك تَرَف السماح لها بالفشل. دعونا إذن نتخذ الاختيارات الصحيحة.
إنشرها